مثالان من الماضي والمعاصر عن صورة المرأة الضحية استحضرهما العرضان الأردنيان المشاركان في الدورة 14 من مهرجان المسرح العربي في بغداد. العرض الأول جاء بعنوان "فريمولوجيا" لكاتبه عبد الرزاق مطرية ومخرجه والحاكم مسعود، بينما جاء العرض الثاني بعنوان "أنتيغوني" لمعدِّه ومخرجه وبطله حكيم حرب. في التجربتين نحن أمام قراءة لواقع المرأة العربية ولكن من وجهتي نظر مختلفتين. ولعل أبرزها أن الأولى ذهبت نحو يوميات الحياة الزوجية وهواجسها المضنية، بينما اقتبست الثانية نص مسرحية "أنتيغون" لكاتبها اليوناني سوفوكليس (497- 406 ق. م)، في إسقاط مباشر على الأنوثة التي تقدم ككبش فداء على مذبح الحرية.
في هذا السياق جاء عرض "فريمولوجيا" متكئاً على مسرح الحكي، وهو مسرح بدا منذ لحظات العرض الأولى على "مسرح الرشيد" وسط بغداد، مساحةً للهذر والوسواس القهري بين رجل وامرأة. ويتضح ذلك من النقاش المحتدم بين امرأة ورجل. المرأة منغمسة في تنظيف الحمّامات وغسل الصحون والثياب، أما الرجل فيقدم نفسه كفيلسوف وحالم كبير، فيما هو عاطل من العمل. وبينما نتعرف أكثر إلى شخصية المرأة (أداء مرام أبو الهيجا) التي تعمل خادمة في البيوت لإعالة زوجها المفكر، لا يمكن تحديد سمات الرجل إلا من مشيته التي تشبه مشية البطريق الآلي، وهي حركة متكلفة جسد فيها (الحاكم مسعود) صورة نمطية عن رجل متبطل يعيش على أكتاف امرأته.
تشويه صورة الرجل
واضح من تقديم هاتين الشخصيتين أن مخرج العرض وبطله في آن واحد، تقصد تشويه صورة الرجل، وهو كما تبين من خلال سياق العرض شخص شرير بطريقة كوميدية، فهو يطمح أن يتزوج بامرأةٍ أُخرى كي يزيد أمواله من عملها كخادمة، بينما ترضخ المرأة لنواميسه، وتقوم بالاستحمام وتبخير جسدها كي تنعم بليلة مع زوجها النزق الطباع والمستهتر بمشاعرها، أو حتى المتجاهل لكل ما ترغبه امرأة من شريك حياتها. لكن الرجل يظل يناور ويداور في الكلام متهرباً من لحظة اللقاء التي تجمعه مع زوجته تحت ذرائع واهية وغير منطقية.
في هذا المناخ الكاريكاتوري لرجل وامرأة يصرفان الوقت في الشكوى والصراخ والاتهامات المتبادلة، لا يبني عرض "فريمولوجيا" أي تصاعد في الأحداث، إنما نحن هنا أمام متواليات من الكلام الفائض عن الحاجة، وكله يصب في خانة أن الرجل كائن متواكل والمرأة ضحية تتحمل مسؤوليات داخل البيت وخارجه، مقابل راحة رجل لا يكترث برغباتها ومواجعها. وعليه ظلت الشخصيتان في متاهة لا نهائية من تكرارات لا طائل منها، واستظهار لحوارات تبدلت معها الحركة وفق الدخول أو الخروج من ثلاثة كوادر خشبية أطّرت صورة الزوجين، وجعلت كل واحد منهما، يمثل صورة لعجزه النفسي وعقمه الذي لا علاج منه.
اللافت في "فريمولوجيا" هو استحضار إضاءة حمراء حتى داخل الكوادر الخشبية التي يطل منها الزوجان المتخاصمان، واللذان ركّز الحاكم مسعود على زيهما الأسود والأحمر، مما ضاعف من ذلك الصراخ البصري على الخشبة بلا طائل. من غير أن يوضح العرض أسباب خصومة الشريكين، ولم يكشف من ماضي كل منهما، إلا النزر اليسير، بل تم التركيز على مهاترات كلامية أتى معظمها في نبرة أقرب إلى الزعيق، مما أخرج العرض عن سياق التجريب، وأدخله في الشعوذة الحركية البصرية التي جاء معظمها مجانياً ولا دلالة له، وأفقد الممثل سيطرته على الشخصية التي يقوم بأدائها، وصولاً إلى 45 دقيقة أقرب إلى هذيانات لا تفتر حتى تعود وتضطرم ثم تخبو من دون أثر يذكر.
"أنتغوني" المنتقمة
العرض الأردني الثاني، وهو مشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان المسرح العربي في بغداد جاء بعنوان "أنتيغوني"، وهو كما نقرأ على الملصق الإعلاني للعرض عبارة عن إعداد حر عن مأساة "أنتيغون" (شام دبس) ابنة الملك أوديب التي تحدت حكم الملك كريون (حكيم حرب) وآثرت دفن جثمان أخيها بولينيس (محمد كيمو). وذلك بعد أن يأمر الملك بترك جثة شقيقها في العراء كي تنهشها الكلاب والوحوش الضارية، بتهمة خيانة الدولة. لكن أنتيغوني كما جاء اسمها في العرض، تتمرد على سلطة خالها الملك، وتتحدى قراره الظالم الذي يسكت الشعب عنه، فما يكون من الملك إلا اعتقالها والحكم عليها حيّةً ترزق.
أخذ "أنتيغوني" طابع العرض السياسي، وظهر الممثلون بثياب معاصرة من دون أن يطرأ على الخطاب تعديل يوازي هذا التغيير. فالشخصيات الهامشية منها والرئيسة تتكلم بالعربية الفصحى، وهذا خلل في الإعداد الذي حافظ على الصراع بين الملك وابنة أخته، بينما شطب بقية الصراعات في النص الأصلي من مثل صراع بولينيس وأخيه إتيوكليس. فالأول تحالف مع أراغوس ضد وطنه، فيما دافع الثاني إلى جانب كريون عن بلاده. هكذا تحوّل كريون في النسخة الأردنية إلى رجل اسخبارات أقرب إلى شخصية محقق ينتزع الاعترافات من غريمته الشابة تحت التعذيب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعندما لا ترضخ أنتيغوني لرغبات كريون في تزويجها من ابنه، ولا تذعن لأوامره في ترك جثة أخيها في العراء، يحكم عليها بالموت، ويصبح قبرها سرير عرسها، وحتى خطيبها هيمون لا يأتي لنجدتها، أو التدخل لإيقاف حكم والده الظالم، وهنا تستصرخ الضحية جلاديها، فيرد عليها صوت فيروز بأغنيتها: "لا تندهي ما في حدا". هنا يقوم الحرس بإهالة التراب عليها. استعارة فنية من الحاضر أراد مخرج العرض أن يوضح أن مصير "أنتيغوني" هو ذاته مصير أهل قطاع غزة، وهو إسقاط بعيد كل البعد قدمه المخرج الفلسطيني- الأردني موازياً للراهن العربي، ولكن من دون خلق سياقات جديدة للنص إلا بتقديمه في صيغة مبتسرة وأقرب إلى أجواء غرف الاستجواب الأمني.
على مستوى آخر لعبت الإضاءة في عرض "أنتيغوني" دوراً مناقضاً لفحوى العرض، وذلك عبر كثافة لونية للضوء الجانبي. ناهيك عن استخدام بؤر في مقدمة الخشبة لا وظيفة دلالية لها إلا الإنارة الساطعة، فأتت الإضاءة كعنصر تزييني فائض، بينما استطاعت الموسيقى أن تواكب الذرى الدرامية، وأن تعمل على خلفية الحدث، من مثل إعدام أنتيغوني وسوقها إلى المعتقل، أو حتى في لحظة استنجادها بخطيبها. لكن هذا لم يدعم أداء الممثلة التي بقي العديد من عباراتها غير مفهوم وتعاني من عيوب في النطق، وبقي تدخينها المتكرر للسجائر في لحظات حاسمة من صراعها مع كريون لا مبرر، إلا أن الممثلة تعاطت مع هذا التفصيل بخفة، وأسرفت في التدخين أثناء مشاهد مفصلية من العرض.