Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الحرب فرقت بين بطون السوريين وبعضهم نسي اللحم

عائلات تخلت عن أطباق اشتهر بها المطبخ الشامي حتى لا تلتهم الراتب الشهري

لم تعد اللحوم طبقاً رئيساً على مائدة السوريين كما اعتادور قبل الحرب (أرشيفية - أ ف ب)

ملخص

لم تجعل الحرب السوريين فقط فاقدين للمشتقات النفطية بل تعدتها لتصيب بطونهم بألم الجوع في معركة "الأمعاء الخاوية".

يوم تلو آخر تقل خيارات السوريين وتحاصرهم داخل واقع سياسي وجغرافي يضيق عليهم، وليست الخيارات السياسية فقط في بلد يرزح تحت وطأة واحدة من أشد حزم العقوبات التاريخية المعاصرة.

وأفضت عقوبات "قيصر" و "كبتاغون" و"محاربة التطبيع مع النظام السوري" في مجملها إلى مزيد من التشرد والجوع الذي جاء بمفاعيل عكسية، فبدلاً من أن يحاصر حكومة دمشق حاصر شعبها، فلعبت هي مع تلك القوانين دوراً يعزز حال الارتخاء والتعطل والبطالة وتنامي المشكلات في سوريا، وفق منهجية "النجاة الفردية" والقرارات الحكومية الفرانكفونية المنعزلة بكمها ونوعها وتطبيقها عن مأساة سوريين، أشدهم أملاً بالمستقبل صار أكثرهم بحثاً عن فرصة للسفر.

ولم تجعل الحرب السوريين فقط فاقدين لحوامل الطاقة والمشتقات النفطية التي يشحذونها بالقطرة من على أبواب محطات الوقود وفي الطرقات، بل تعدتها لتصيب بطونهم بألم الجوع في معركة مستمرة دونما انقطاع، بطلها الأوحد "أمعاء خاوية".

التخلي عن الأساسات

وقد عرف عن السوريين تاريخياً كرمهم، واشتهر مطبخهم الحلبي والشامي والحموي وسفرهم العامرة بالكبب والكباب واللحوم بمختلف أنواعها، ولكن بات اليوم يُعرف جيداً أن العائلة التي كانت تتناول ثلاث وجبات طعام رئيسة في اليوم صارت تتناول وجبتين، ومن ثم وجبة، وبعضها مجبراً تخلى عن تلك الوجبة واستعاض عنها بما حضر من زيتون أو غيره.

تخلى السوريون، والسوريون لفظ جامع لتوصيف شريحة سكانية تؤكد الأمم المتحدة أن أكثر من 90 في المئة منها باتوا تحت خط الفقر المباشر، بالضرورة شيئاً فشيئاً عن الأساسات، فبدأوا بالفواكه وتبعها ما تيسر من خضراوات، ومن ثم مؤونة الشتاء، وقبل كل ذلك وبعده عن اللحوم، فما هي حصة السوري من اللحوم اليوم؟

نشتهي الإجاص.. فكيف باللحوم؟

تتنهد أم عمار، سيدة منزل تقيم في المعضمية قرب دمشق، وهي تتحدث لـ "اندبندنت عربية" عن أنها لم تذق اللحم منذ دعيت إلى فرح قريبتها نهاية الصيف الماضي، "لم تكن تلك الكمية، كان مخصصاً لكل مدعو فخذ دجاج صغير وصحن فريكة، لسنا من أولئك الجياع الذين ننبهر، ولكننا من أولئك الفاقدين لما كنا عليه يوم كانت ثلاجة منازلنا تكاد تخرج منها اللحوم، وبالمناسبة فذلك لم يكن قبل عقود، بل كان قبل أعوام فقط وفي عز الحرب، قبل أن يحصل شيء غيّر كل شيء".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويشارك أبو عمار زوجته أحزانها، ليس على عدم قدرتهم شراء اللحوم بل على المبدأ بعينه، وهو يرى كيف ترمى وجبات اللحوم شبه كاملة في القمامة أمام مطاعم الأثرياء كما يصفها.

يقول "هذا البلد بلدان، واحد لمترفي الثراء، وهم قلة يسودهم أمراء الحرب، وآخر لي ولأم عمار وفيه نشتهي حبة الإجاص، فكيف إذاً باللحوم الحمراء والبيضاء منها، هل هناك قهر أكثر من أن يطبخ السوري طعامه الشهير البرغل من دون أن يرافقه الدجاج وماء الدجاج؟ نحن نطبخ البرغل ومعه ماء الدجاج ولكن من دون دجاج، ونضع مكعبات الدجاج الصناعية لنحصل على النكهة فقط، ونضحك على أنفسنا بطيب المذاق وبألف لعنة على جوعنا وقهرنا وأسبابهما".

اللحم الأسود

مؤيد غزالي صاحب ملحمة في حي المزة بدمشق يشكو أيضاً سوء الحال وضعف المبيع وعدم امتلاك الناس القدرة على شراء اللحوم بعد أن وصل سعر كيلو لحمة الخروف إلى 180 ألف ليرة سورية (12 دولاراً أميركياً)، وكيلو لحم العجل 160 ألف ليرة سورية (10.5 دولار أميركي).

ويضيف، "صرت أبيع اللحوم بالنصف وربع الأوقية وبحجم رأس العصفور، فالناس يريدون أن يحصلوا على نكهة لطبخهم لا على اللحوم نفسها بعد أن تعذر عليهم ذلك، خصوصاً حين يكون الحديث عن المحاشي التي حولها السوريون إلى طعام نباتي باستغنائهم عن حشوها ناسفين أجمل ما في طعمها، ولكن ماذا لو قلنا إن طبخة ورق العنب لأسرة ستكلف ربع راتب موظف من دون لحوم، فهذا يبرر الأمر".

 

 

ويعتقد مؤيد أنه بين وقت وآخر سيغلق ملحمته التي "ما عادت تغطي كلفها والتي تخضع لابتزاز وسمسرة هائلة من أصحاب المسالخ والمواشي"، وكل ذلك تزامناً مع قرارات حكومية ترفع أسعار طعام المواشي والمازوت اللازم لتلك المنشآت، فيدفع الناس الثمن مضاعفاً في حين كان يمكن إيجاد حلول أكثر نجاعة ورأفة، على حد تعبيره.

صراع الأولويات

وصل سعر كيلو الدجاج الحي والمنظف إلى 40 ألف ليرة سورية (2.5 دولار أميركي)، وفي المتوسط يكون وزن الفروج المباع نحو كيلوين، أي 80 ألف ليرة سورية (خمسة دولارات أميركية)، أي أن سعر الفروج الواحد يقارب نحو نصف راتب الموظف الحكومي شهرياً، وبالتأكيد فإن رواتب القطاع الخاص ليست أفضل حالاً بكثير.

علاء زغيراني، وهو صاحب محل لبيع الدجاج في حي الشيخ سعد بدمشق، كان يبيع نحو 20 دجاجة في اليوم قبل عامين، ثم انخفض الرقم لـ 10 دجاجات ثم دجاجتين، والآن قد يبيع دجاجة في اليوم أو لا يبيع، معيداً ذلك للقدرة الشرائية المتهاوية للسكان وإيلائهم الأهمية لأساسات أخرى بينها الطبابة والتعليم ومستلزمات الإفطار.

بدائل قسرية

وبالنسبة إلى علاء فإن معظم المصالح في سوريا لم تعد تفي بهمها وصار معظمها خاسراً، "أنا أتفهم إحجام الناس عن الشراء، فأسرة من خمسة أشخاص لن تكفيها دجاجة، ثم كيف يكملون شهرهم؟ الناس باتت تحسب طعامها بالورقة والقلم، وهذا ليس بخلاً، فالبخل هو أبعد ما يكون عن السوري".

ويتابع، "لكنها حال على الناس أن يتعايشوا معها مرغمين، فتضييع راتب كامل على دجاجة سيؤثر سلباً في أشياء أخرى، فمثلاً بثمن هذه الدجاجة يمكن للأسرة أن تشتري ثمانية كيلوغرامات من اللبنة ولو من النخب الثالث جودة".

ويوضح أن الناس عموماً كانوا يميلون إلى شراء حاجاتهم من الدجاج من دون شراء دجاجة كاملة، وهذا بحد ذاته حملهم أعباء إضافية، لا سيما وأن سعر كيلو الشرحات وصل إلى 70 ألف ليرة سورية (4.5 دولار)، مما جعل الناس يميلون إلى شراء أشياء ما كانوا ليشتروها في ظروف أخرى، ولم يكن هناك ثمة أي إقبال عليها في أي يوم، وهي شراء رقاب الدجاج والقوانص، وسعر الكيلو من كل منهما 25 ألف ليرة سورية (1.5 دولار)، فهم يستفيدون من هذه المخلفات عبر سلقها والاستفادة من مياهها في تنكيه بعض الطبخات.

الشكل مقابل الطعم

"الكبة كانت عادة وطقساً أسرياً متوارثاً في عائلتنا منذ أيام المرحومة جدتي، وظل الأمر كذلك، ولكن تحت الارتفاع المهول في أسعار اللحوم الحمراء فقد بحثنا عن بدائل بكلفة أقل".

هكذا تصف أم مجيب، وهي سيدة منزل تقيم في دمشق وزوجة لرجل يعمل في مكتب عقاري، تحولها من استخدام اللحوم الحمراء إلى البيضاء للحفاظ على تقليد عائلي خاص، وتوضح أن قوام الكبة لا يمكن التلاعب فيه، ولكن الطقس كان لديها مهماً وبأنهم كعائلة لم يصلوا حدود ما تحت الفقر، ولكنهم تضرروا كثيراً كما حال معظم السوريين.

 

 

تقول، "مثلاً كلفة 10 أقراص كبة باللحم الأحمر نحو 100 ألف، وباستخدام الدجاج كحشوة تكلف 50 ألفاً، أي النصف تماماً، مما يسهم في الحفاظ على الاستقرار الغذائي في منزلنا، متغاضين عن تغير الطعام فداء للحفاظ على الشكل".

كيف سنحب الوطن؟

وحال أسرة معاذ الحمصي، المقيم في دمشق ويعمل موظفاً حكومياً، يبدو مشابهاً لحال كثير غيره، فمعاذ وأسرته لم يتذوقوا طعم اللحم منذ أشهر كثيرة وربما منذ أكثر من عام، وهو يصف اللحوم بالمادة التي خرجت من عقله ودائرة تفكيره واهتمامه.

وعن ذلك يقول، "في هذا البلد عليك أن تنسى كثيراً من الأشياء الإنسانية البديهية لتكمل عيشك، فالفروج المشوي اليوم بـ 200 ألف ليرة بالضبط كما هو راتبي من دون زيادة، وساندويتش الشاورما بـ 25 ألف ليرة، وهو لا يكفي طفلاً، والوجبة منها بـ 50 ألفاً، فعلام نحلم؟ خبز وزيتون يكفي لي ولأطفالي الذين لا أدري كيف سيحبون هذا الوطن حين يكبرون؟ بل كيف سيكونون ممتنين؟".

هوة واسعة

وتبدو حصة السوري اليوم من اللحوم قريبة من الصفر أو دونه غالباً، وفي الوقت ذاته لا يمكن الحديث عن تفعيل دور رقابة تموينية صارمة تغير الوضع، وإن كانت في وضعها الحالي متهاوية، ولكن الرقابة التنفيذية جزء من التطبيق لقرارات بالأساس لم تكن صائبة في التسعير ومراعاة عدم إيصال السوق إلى الحال الذي غدت عليه اليوم.

ومن نافلة القول أن الناس جياع، ولكن من وضوح القول أن الحلول لو اجترحت بصيغتها الوطنية فستنجح على ما يراه اقتصاديون وتجار وصناعيون يعلمون جيداً أن غياب الشفافية وضعهم في هوة من السلطة التنفيذية والإدارية التي تعتمد غالباً على دراسات ضيقة تسهم في تضييق الحال أكثر على الناس في أماكن عملهم وفي الطرقات وفي بيوتهم، وحتى في لحظات وحدتهم حين يكونون بلا كهرباء ولا ماء في منازلهم لأيام متواصلة.

المزيد من تقارير