إذا وضعنا جانباً تلك الشخصيات التاريخية أو التراجيدية التي خصها وليام شكسبير بمسرحيات جعلت البطولة لها إلى درجة أن أسماءها جاءت في العناوين، سواء كانت شريرة أو طيبة، لا شك أننا إن تساءلنا من هي الشخصية الأشهر في المسرح الشكسبيري سيكون الجواب واحداً يجمع المجيبون عليه: إنه "فالستاف" بالتأكيد! والحقيقة أن هذا الاسم يبلغ من الشهرة والحضور في أي حديث عن الشخصيات الشكسبيرية إلى درجة أن كثراً يعتقدون أن شاعر الإنجليز الكبير قد خصه بمسرحية قد تكون مفقودة أو شيئاً من هذا القبيل. والواقع أن ما يعزز هذا الرأي ويجعله يبدو كالبديهة، هو وجود أعمال كثيرة تحمل اسم "فالستاف" وغالباً ما تنطلق منه، بل جاعلة منه عنواناً لها لعل أشهرها وأكثرها حضوراً، الأوبرا التي لحنها الموسيقي الإيطالي جوزيبي فيردي في القرن الـ19، والفيلم الذي حققه السينمائي الأميركي أورسن ويلز في القرن الـ20.
ونعرف طبعاً أن كلاً منهما كان يعتبر نفسه في مجاله شكسبيرياً من الدرجة الأولى. ولنبادر هنا إلى التوضيح بأن أورسن ويلز الذي سار في تحقيقه فيلمه "فالستاف" على خطى فيردي الذي لحن أوبراه انطلاقاً من مسرحية لشكسبير، كان يعرف بالطبع ألا وجود لها في المتن الشكسبيري مستقلة في ذاتها. ولكن الشخصية نفسها موجودة بالفعل، إنما بصورة أو بأخرى، في أربع مسرحيات لشكسبير لم يكن "فالستاف" بطل أي منها بل شخصية بارزة في اثنتين وشخصية أكثر بروزاً في ثالثة ثم مجرد شخصية يعلن موتها في رابعة. فما الحكاية؟
مكره أخاك لا بطل
الحكاية أن شكسبير الذي اطلع باكراً على سيرة ما لحياة شخصية نبيل ينتمي إلى بدايات القرن الـ15، أيام حكم الملك هنري الرابع، أغرم بالشخصية، وهي تاريخية عاشت حقاً، إلى درجة أنه جعل لذلك النبيل حضوراً حقيقياً في المسرحيتين المتكاملتين اللتين تشكلان بالنسبة إليه عملين من مسرحياته المعروفة بـ"مسرحيات تاريخ ملوك إنجلترا": "هنري الرابع" في جزأيها الأول والثاني، وكان ذلك طبيعياً ومستساغاً من قبل الجمهور اللندني، إلى حد أن الملكة إليزابيث الأولى التي كانت من كبار معجبي شكسبير وتحرص دائماً على حضور مسرحياته الجديدة سواء في عروض خاصة في قصرها أو بشكل شبه خفي في مسرحه، وكانت في كل مرة يظهر فيها "فالستاف" تطرب طرباً شديداً، تمنت على شاعرها المفضل يوماً أن يكتب خصيصاً لها مسرحية فكاهية ستحمل كما نعرف عنوان "دوقات وندسور المرحات"، ويلعب فيها السير "فالستاف" دوراً أساسياً. ولئن كانت الملكة قد أمضت ساعتي العرض وهي لا تتوقف عن الضحك، ارتأى شكسبير الذي كان يلعب دور النبيل بنفسه أن الوقت قد حان للتخلص من الشخصية كي لا تطغى شهرة "فالستاف" على شهرته وبأمر ملكي، بخاصة أن جزأي "هنري الرابع" دراميان فيما كانت مشاهد "فالستاف" مضحكة، ومن هنا جعل سيرة "فالستاف" تذكر في مسرحية تاريخية تالية له هي "هنري الخامس"، ولكن فقط كيف يذكر أنه مات في مشهد لا يرى على الخشبة.
ومن هنا استاءت الملكة مرغمة كاتبها المفضل على أن يعود إلى "فالستاف" ولو في مسرحية واحدة أخيرة. وهكذا، عاد ذلك النبيل المهرج في مسرحية "دوقات وندسور المرحات" التي كان شكسبير يأمل في أن تنسى بسرعة وتحديداً بعد مشاهدة الملكة لها. وبالفعل شاهدتها الملكة لتمضي ساعتي العرض في ضحك متواصل لكنها احترمت ما وعدت به الكاتب من أنها لن تطلب منه عملاً آخر يحضر فيه "فالستاف"، بيد أنها، في المقابل، لم تستجب لطلب شكسبير بنسيان الناس للشخصية مع وضع المسرحية على رف النسيان.
على خطى الملكة
ففي نهاية الأمر راحت مسرحية "الدوقات" تعتبر منذ عرف الجمهور العريض بها وبإعجاب الملكة واحدة من أجمل كوميديات شكسبير على الإطلاق. وهي ما زالت تعتبر كذلك حتى اليوم. ومن هنا كان طبيعياً للمبدعين الذين جاءوا بعد شكسبير وطوال القرون التالية أن يفكروا بالكيفية التي يمكنهم بها الاستفادة من ذلك القدر الكبير من "الإبداع الإنساني" الذي وضعه شكسبير في تلك الشخصية، في أعمال فنية أخرى، سواء كانت تنتمي إلى المسرح والفن التشكيلي، أو إلى الأوبرا ومن ثم إلى السينما حين ولد هذا الفن، بخاصة حين بات له مبدعه الكبير في شخص أورسن ويلز، حين انتقل هذا الأخير من كونه مسرحياً شكسبيرياً كبيراً، إلى كونه سينمائياً شكسبيرياً عرف كيف يتفوق على زملائه ومعاصريه على رغم أنه كان أقل واحد في صفوف السينمائيين الشكسبيريين إنتاجاً لأعمال شكسبيرية على الشاشات الكبيرة. فهو على رغم شكسبيريته السينمائية المميزة لم يحقق للسينما سوى أربعة أفلام شكسبيرية من أشهرها طبعاً "عطيل" الذي نال عام 195، سعفة مهرجان "كان" الذهبية، فكانت السعفة من نصيب المغرب الذي صورت في جنوبه (مدينة الصويرة) مشاهد عديدة من ذلك الفيلم، ثم "مكبث" قبل أن يحقق "فالستاف" لاحقاً تحت عنوان "أحلام منتصف الليل" ويعود في واحد من آخر إنجازاته السينمائية إلى تصوير "عطيل" في فيلم وثائقي حمل هذا العنوان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من التاريخ إلى الفن
ولكن من هو "فالستاف" في نهاية الأمر؟ هو في الحقيقة نبيل تاريخي وجد حقاً لكنه كان يحمل اسماً آخر هو جون أولدكاستل، وحين جعله شكسبير واحداً من شخصيات "هنري الرابع" قدمه باسمه الحقيقي وهو يدرك أن الجمهور الذي يعرف تاريخ الشخصية سيستسيغ وجوده في الفيلم، لكن حدث هنا ما لم يكن في الحسبان، فلقد احتج أبناء أحفاد أولدكاستل على حضور جدهم الكبير كشخصية مهرج مما اضطر الكاتب إلى تغيير الاسم. ومن هنا اعتبرت شخصية "فالستاف" أول شخصية مسرحية في عصر الانفتاح الإنجليزي تضطر كاتباً إلى مجاراة حكم قضائي، بينما من المعروف أن القضاء في ذلك الحين كان لا يجرؤ على إجبار الكتاب حتى على عدم التعرض للملوك أنفسهم.
ولعل في مقدورنا هنا أن نشير، على أية حال، إلى أن أولدكاستل يحضر أصلاً باسمه الحقيقي في جزأي "هنري الرابع"، وإن من خلال تسمية الملك له بحديثه عن "رفيقي القديم في القلعة" مشتغلاً على اسمه الذي يعني في الأصل "القلعة القديمة"، مما يعني أن تبديل الاسم إنما جاء بعد العرض الأول لـ"دوقات وندسور" ليستقر لاحقاً لدى صدور الطبعة الكاملة من مسرحيات شكسبير ولا يتبدل بعد ذلك بفضل الشهرة التي باتت للشخصية باسمها المتخيل.
ولاحقاً طبعاً بحضور "فالستاف" في عدد لا يحصى من أعمال اقتبست من شكسبير متفرقة حتى جاء فيردي ليجمع المشاهد التي حضر فيها "فالستاف" لدى شكسبير مكوناً أوبراه المتكاملة التي وجدها أورسن ويلز فاتحة يديها لاستقباله، وبصورة طبيعية، إذ بدا التطابق واضحاً، في الشكل الجسدي بين "فالستاف" وأورسن ويلز نفسه من ناحية، والمضمون السلوكي والأخلاقي الذي عرف به صاحب الشخصية الحقيقية سواء في حضوره التاريخي، أو في أناه - الآخر الشكسبيري. إذ، وكما قال أحد المعلقين يومها على فيلم ويلز، وفي معرض حديثه عن الشخصية، كيف أن السينمائي الكبير وجد إلى جانب صفات بطله المتطابقة مع صفاته الجسدية، أن "فالستاف" يكاد يكون صورة عما يريده هو نفسه أن يكون: فهو ثرثار، بالغ الفطنة، جريء وداهية، يحب الحياة بملذاتها وواسع الحيلة، لا يتردد في أن يسرع إلى نجدة الصديق، أي صديق، حين يجده في مأزق، سريع البديهة ولا سيما عندما يجد نفسه في مواجهة موقف مضحك فيجابهه بنوع من مزاح يبتكره في أقل من ثانية. وإلى هذا ها هو ذا ويلز، ودائماً على خطى فيردي هنا، يقدمه من دون تردد باعتباره مهرجاً بذكاء حاد مما يجعله أعظم كوميدي عرفه الفن في تاريخه. غير أن هزليته هذه لا تمنعه من أن يتصف بقدر من الحكمة والمهابة.
ترى أولسنا هنا وكأننا أمام أورسن ويلز وقد وصف نفسه تماماً كما نظر إليه الناس، بخاصة بعد رحيله، حين نسوا أن هذا الوصف الأريحي كان قد جعله فيردي للشخصية قبل ويلز بنحو قرن من الزمن؟