ملخص
أوبرا فيردي تمكنت خلال سنوات قليلة من إنهاء وجود "عطيل روسيني" تماماً... ترى لماذا؟
من المتوافق عليه عادة، لدى النقاد والمؤرخين كما لدى جمهور الأوبرا بصورة عامة أن أوبرا "عطيل" التي قدمها الموسيقي الإيطالي جوزيبي فيردي (1813 – 1901) للمرة الأولى في عام 1887، هي من بين عشرات الاقتباسات الموسيقية عن أي عمل شكسبيري، الأفضل والأكثر أمانة لروح شاعر المسرح الإنجليزي العظيم.
غير أن ما يتناساه كل أولئك المعجبين بهذا العمل الأوبرالي الضخم هو أن من أفعاله أنه حطم أوبرا بنفس العنوان والموضوع اقتبسها موسيقي أوبرالي إيطالي آخر هو روسيني، عن مسرحية شكسبير نفسها، كان ينظر إليها كعمل موسيقي كبير حتى اليوم الذي ظهرت فيه أوبرا فيردي التي أشرنا إليها، بمعنى أن "عطيل" جاكينو روسيني (1792 – 1868) ظلت متربعة عرشاً موسيقياً ما طوال ما يقارب 70 عاماً، لينتهي بها الأمر إلى نسيان تام ما إن ظهرت أوبرا فيردي.
ويقيناً أن هذا الأخير لم يكن يقصد وهو يلحن عمله العظيم أن يدمر عمل سلفه الكبير. كل ما في الأمر أنه عرف كيف يتملك روح الشعر الشكسبيري وينتج عملاً لا ينسى. أما روسيني فلا شك أنه عاش السنوات الأخيرة من حياته مطمئناً إلى شكسبيرية "عطيله" المطلقة معتقداً أنه قدم في "موسقة فن شكسبير" كلمة نهائية.
البعض أسف وآخرون شمتوا
لكن هذا ليس صحيحاً. كان النقاد والمؤرخون منذ ظهور "عطيل" فيردي، بعضهم متأسفاً حقاً. والبعض الآخر شامتاً، فيما اكتفى البعض الثالث بنظرة علمية سبر بها العملين في مقارنة لم تهدأ طوال خمس سنوات كانت فيها أوبرا روسيني تحتضر قبل أن تنسى نهائياً، فيما أوبرا فيردي تشع بشكل مدهش. وكان التقديم الأول لأوبرا روسيني التي حملت عنوان "عطيل، عربي البندقية" في الرابع من ديسمبر (كانون الأول) 1816 على خشبة مسرح "الفوندو" في نابولي، حيث اعتبرت واحدة من 10 أعمال أوبرالية قدمها روسيني في تلك المدينة كنوع من التكريم لمسقط رأسه. ومن المعروف أن تسع أوبرات من بين تلك المجموعة كانت من النوع الموصوف بـ"الأوبرا الجادة" الذي كان جمهور نابولي قد بدأ يستسيغه ويعتاده ولا سيما من خلال أعمال روسيني تحديداً.
غير أن "عطيل" روسيني تجاوزت في الحماس الذي أبداه جمهور نابولي تجاهها في السنوات الأولى من حياتها، لتستثير حماسة جمهور الذواقة في ثلاث من المدن الأوروبية الكبرى التي قدمت فيها، أولاً: باريس ومدريد ثم سانت بطرسبورغ وفي هذه الأخيرة فقط في عام 1875 أي قبل دزينة سنوات سبقت ظهور أوبرا فيردي لتقلب الحسابات كلها.
لحظة انتقالية
ومن المعروف أن "عطيل" كانت في البداية تبدو الأبرز من بين الأوبرات التي لحنها روسيني لمدينة نابولي التي كان قد وضع نفسه وفنه في خدمتها طوال ثماني سنوات بين 1815 و1822. ومهما يكن، وخارج المقارنة بين عملين تفصل بينهما كل تلك العقود، لا بد من كلمة حق لصالح روسيني. فالرجل بأوبراته الجادة التسع التي ظهرت خلال مرحلته النابولية تمكن من أن يحدث على أية حال، ثورة مهمة في تاريخ الأوبرا الإيطالية. فالحال أن تلك الأوبرات التسع الجادة كانت وظلت لزمن طويل تشكل متناً فنياً متماسكاً بادي الأهمية في تاريخ هذا الفن، إذ يشهد على المرحلة الانتقالية التي نقلت هذا الفن الإيطالي من الأوبرا الجادة القائمة بحسب الباحثين على التتابع بين الغناء المنفرد والغناء الثنائي إلى الشكل الأوبرالي، كما سيسود بعد ذلك طوال النصف الثاني من القرن الـ19 وفيه يمحي تقريباً التمايز بين الأوبرا الجادة والأوبرا التهريجية، وذلك بعد أن تمكنت الأوبرا الجادة من الاستحواذ على المزايا التي تسم الأوبرا التهريجية من الغناء الجماعي والبنى الشكلية وما إلى ذلك، وصولاً إلى منح الأدوار الثانوية في الأداء أهمية لم تكن لها في السابق. ويكاد مؤرخو هذا الفن الأكثر جدية يجمعون على أن أوبرا روسيني "عطيل" كانت هي نقطة الذروة في التعبير عن ذلك الانتقال.
انتهازية الفنان وكسله
ولعل اللافت في هذا التأكيد الأخير هو أنه يعبر عن صدفة لا تخلو من انتهازية وشيء من الكسل كما سنرى بعد سطور. قبل ذلك لا بد من استعادة حكم التاريخ الفني على هذا الإنجاز الذي حققه روسيني. فهذا التاريخ يقول لنا إن روسيني قد فشل تماماً في تلحينه للفصلين الأولين من الأوبرا، وليس فقط في خلق تجديد موسيقي يليق بهما وبشكسبير، لكن أيضاً في الالتزام بالروح الشكسبيرية، محدثاً حتى في الأحداث المعروفة تبديلات لم تكن لا في صالح العمل الشكسبيري ولا في صالحه هو وصالح مكانته في فن الاستعراض.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
غير أنه تمكن من التعويض على ذلك في الفصل الثالث والأخير، ذلك الفصل الذي كان إبداع روسيني وتجديديته فيه من القوة بحيث جرى الحديث عن ظلم الفصلين الأولين للفصل الثالث الذي دفع الثمن غالياً. ففي هذا الفصل الأخير يتبدى عمل روسيني قوياً ولو في التزامه روح شكسبير، من خلال تركيزه على الدويتو الأخير بين عطيل وامرأته قبل مشهد القتل والانتحار. ولقد أتى ذلك الفصل الختامي تالياً للعبة التجديدية الكبيرة التي نجدها ماثلة في هذا الفصل بالذات: وتتعلق بالتجديد الذي أشرنا إليه قبل سطور، وربما يصح اعتباره تتويجاً للثورة التي أحدثها روسيني في محوه الفروق بين الأوبرا الجادة وأوبرا التهريج.
للضرورة أحكامها
فهنا وربما لضيق الوقت وجد روسيني نفسه يستخدم عند بداية هذا الفصل موسيقى كان قد وضعها لنسخة أولى من أوبراه "حلاق إشبيلية"، وهي موسيقى لئن كانت هنا قد أتت لتعبر عن الألم الذي سيعتصر فؤاد عطيل إزاء شعوره بخسارته ديدمونة وحبه وحياته بالتالي، فإنها أتت في الحقيقة مشبعة بالأداء الذي يعرفه كل محبي روسيني والغناء الفردي الحائر بين الجدية والتهريج الذي يؤديه الحلاق نفسه في الأوبرا السابقة من خلال أغنية تلك الأوبرا الأشهر التي ارتبطت دائماً في أذهان الهواة بموقف الحلاق التراجي - كوميدي. فإذا كان حضور هذه الأغنية قد بدا للوهلة الأولى من خارج السياق وكأن روسيني قد فرضه على عمله لمجرد أن ينتقل في الأوبرا الجديدة من حال إلى حال، فإن ذلك قد أنتج تأثيراً لم يكن في الحسبان، لا في حسبان روسيني ولا في حسبان جمهوره: لقد خلق حالة من التموج في انتقال من التهريج إلى الجدية، ربما لم تكن مقصودة لكنها بدت موفقة إلى حد كبير، لكن من الطبيعي هنا القول إن كل ذلك يبدو اليوم بعيداً، بل يبدو كذلك منذ الزمن الذي ظهرت فيه أوبرا فيردي المعنونة بدورها "عطيل" التي سارت في دربها، من دون أن تهتم كثيراً بالطبع بمحو الفوارق، إذ حين ظهرت لم يكن ذلك الأمر على جدول الأعمال بل بات يبدو من تحصيل الحاصل.
ظلم ما
أما الأهم من ذلك فإنه كمن في أن أوبرا فيردي تمكنت خلال سنوات قليلة من إنهاء وجود "عطيل روسيني" تماماً، بحيث إنه يندر اليوم أن يفكر أحد في تقديم معاصر لعمله الشكسبيري هذا مهما كانت المكانة التي يحتلها الفصل الثالث بمفرده، والذي يمكننا القول على أية حال إنه يكاد يبدو وحده اليوم قادراً على التعبير عن إنجازات روسيني الموسيقية، لكن إذ تجلت في أعمال أخرى له ربما يقل معظمها في قيمته الفنية المطلقة (ونتحدث هنا بالطبع عن "حلاق إشبيلية" كما عن "سندريلا" و"فتاة البحيرة" و"سلم من حرير" و"ويليام تيل" و"القبرة السارقة" وكلها من أعمال روسيني الكبرى ومن أعظم نتاجات فن الأوبرا)، لكن كان من حسن حظها أنها لم تجابه كما كان حال "عطيل، عربي البندقية" بعمل من وزن عمل فيردي يفرض على أي منها مقارنة شديدة الصعوبة تحيلها إلى النسيان ظلماً أو عن حق.