ملخص
جعلت "الدرونز" سياسة الاغتيالات خياراً "ميسراً ومغرياً" في الصراعات... وإسرائيل أكثر دول العالم تنفيذاً لها منذ الحرب العالمية الثانية
في مشاهد الاغتيال الكلاسيكية كثيراً ما كانت الصورة معتادة، إذ يتحين المنفذ اللحظة المناسبة حيث ثغرة أمنية ما يمكن اختراقها أو تجاوزها نحو مسار يبدو معبداً للانقضاض على ضحيته، سعياً في ذلك إلى إجهاض أو إضعاف مشروع ما أو فكرة أو تيار، أو إنهاء مسيرة شخص يرى الطرف المنفذ في حياته خطراً وجودياً.
ووفق اعتقاد كثيرين فقد يدفع تعقد مسار الصراعات وتشعبها في كثير من الأحيان إلى إبقاء سلاح الاغتيالات رقماً مهماً في معادلات حروب الظل المتصاعدة دائماً، بحثاً في ذلك عن الوصول إلى أهداف سياسية وأمنية، أو إحداث تغيير سريع وفعال، أو تبديل مصائر أمم وشعوب في بعض الأحيان كما في حوادث الاغتيال الشهيرة الزعيم الروحي للهند المهاتما غاندي (1948)، والرئيس الأميركي الأسبق جون كينيدي (1963)، والعاهل السعودي الأسبق الملك فيصل بن عبدالعزيز آل سعود (1975)، والرئيس المصري الأسبق أنور السادات (1981)، والرئيس الجزائري الأسبق محمد بوضياف (1992)، ورئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحاق رابين (1995)، ورئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري (2005)، وغيرهم آخرون.
لكن وأمام الثورة المتنامية في مجال التكنولوجياً العسكرية وزيادة الاعتماد على الذكاء الاصطناعي، فضلاً عن الأسلحة الموجهة بدقة من بعد، والأساليب المتطورة في تعقب الضحاياً المحتملين ومن بينها الطائرات المسيرة، حدث تحول كبير في فلسفة تنفيذ الاغتيالات على مدى الأعوام الأخيرة، إذ "باتت ميسرة وخياراً مغرياً للغاية"، بحسب توصيف مجلة الـ "تايمز" البريطانية.
لماذا تبقى الاغتيالات رقماً مهماً في معادلة الصراعات وحروب الظل؟ وكيف أحدث استخدام المسيرات طفرة في آليات تنفيذها؟ وإلى أي مدى يمكن أن تغير مسيرة التاريخ؟
يتساءل كثر في وقت يواصل فيه المسؤولون الإسرائيليون التهديد باستهداف واغتيال قادة الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة في سياق حربهم المتصاعدة على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، والتي كان آخرها اغتيال خمسة من الحرس الثوري الإيراني بينهم مسؤول استخبارات الحرس في سوريا ونائبه وعنصرين آخرين في العاصمة السورية دمشق اليوم السبت، 20 يناير (كانون الثاني) 2024، وقبله اغتيال القيادي في حركة "حماس" صالح العاروري في الثاني من يناير الجاري داخل إحدى الشقق السكنية بضاحية بيروت الجنوبية، ومن قبله القائد في الحرس الثوري الإيراني رضا موسوي في سوريا في الـ 25 من ديسمبر (كانون الأول) 2023.
الاغتيالات وحروب الظل
كانت ولا تزال ظاهرة الاغتيال منتشرة حول العالم منذ قديم العصور، إذ تعتبرها "الموسوعة البريطانية" ظاهرة عالمية تنتشر في المجتمعات كافة، إلا أنها تختلف من حيث الدرجة والنوع ومن مجتمع إلى آخر، كما تختلف أيضاً من حيث رد الفعل إزاءها من بلد إلى آخر.
ومن بين الأهداف المتنوعة تمثل عملية الاغتيال السياسي جزءاً من حلقات الصراع في تاريخ وحاضر بلدان عدة، وبينما تعتقد أطراف أن عملية الاغتيال ستكون حلاً ناجعاً لتأزم الوضع، فإن أطرافاً أخرى داخلية وخارجية تلجا لها لتعقيد الأمور وإدخال البلاد في نفق مظلم، وفى كل الحالات فإن النتائج تكون غير مأمونة، إضافة إلى الشكوك القانونية والأخلاقية حول تلك الوسيلة ذاتها.
وتقول صحيفة الـ "تايمز" البريطانية إنه "على مر القرون كان التهديد بالاغتيال يمثل خطراً على عمل الملوك والرؤساء ورؤساء الوزراء وكذلك النخب على حد سواء"، موضحة في تقرير لها كتبه مايكل بينيون أنه خلال الـ40 عاماً الأخيرة ارتكبت معظم الاغتيالات في دول فقيرة وغير مستقرة في مناطق مضطربة، وأنه كان لأفريقياً والشرق الأوسط وأميركا اللاتينية النصيب الأكبر.
ومع اعتبار بعضهم أنه يمكن لجريمة اغتيال واحدة أن تطيح بحكومات وأنظمة في بعض البلدان، فيما يكون تأثيرها أقل في مجتمعات أخرى أو قد يفلت منها في النهاية الجناة أو المخططون، يستدل بينيون في ذلك على حادثة اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحاق رابين على يد متطرف يهودي في نوفمبر (تشرين الثاني) 1995، إذ إن قتله أحدث تأثيراً فورياً وقاد إلى تدمير "عملية أوسلو" الهشة للسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
كذلك جاءت حادثة اغتيال الزعيم الليبيري صموئيل دو الذي استولى على السلطة في انقلاب عام 1980 بعد مقتل الرئيس السابق وليام تولبرت في العام نفسه لتقود إلى اندلاع حرب أهلية في البلاد، وهو ما يشبه إسقاط الطائرة التي كانت تقل رئيس رواندا الأسبق جوفينال هابياريمانا عام 1994 التي أدت إلى حرب إبادة جماعية في هذا البلد الأفريقي، وأسفرت عن مقتل 800 ألف شخص معظمهم من عرقية "التوتسي" خلال ستة أسابيع.
وفي المنطقة العربية مثّل اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري في الـ 14 من فبراير (شباط) 2005 بعد انفجار شاحنة محملة بالمتفجرات لدى مرور سيارته قرب فندق "سان جورج" في بيروت أثناء عودته من جلسة برلمانية إلى لحظة تحول كبرى في تاريخ لبنان، إذ فجر احتجاجات شعبية أفضت إلى إنهاء الوجود العسكري السوري الذي دام هناك 29 عاماً، وأفرز تحالفات سياسية استمر بعضها حتى وقتنا الحالي.
وفي المقابل، ووفق الـ "تايمز"، كانت هناك جرائم اغتيال لا تزال لغزاً لم تحل شفرته إلى الآن، ومن أمثلتها حادثة الاغتيال الشهيرة للرئيس الأميركي جي إف كينيدي في الـ 22 من نوفمبر عام 1963 بعدما قتل برصاص بندقية أثناء مرور موكبه في مدينة دالاس بولاية تكساس، وكان يركب سيارة مكشوفة رفقة زوجته جاكلين وحاكم ولاية تكساس جون كونالي.
وعلى رغم اعتقال لي هارفي أوزولد في دالاس يوم إطلاق النار واتهامه باغتيال الرئيس، لكنه نفى التهم التي وجهت له مدعياً أنه "مجرد شخص ساذج".
وفي الـ 24 من الشهر نفسه قُتل أوزولد بالرصاص في قبو قسم شرطة المدينة على يد جاك روبي صاحب ملهى ليلي محلي.
وجاء في تقرير نشر في سبتمبر (أيلول) 1964 أن لي هارفي أوزولد أطلق النار على موكب الرئيس من مبنى مستودع الكتب المدرسية في تكساس، وقالت اللجنة التي أعدت التقرير إنه "لا يوجد دليل على أن لي هارفي أوزولد أو جاك روبي كانا جزءاً من أية مؤامرة محلية أو أجنبية"، لكن تقريراً أعدته لجنة التحقيق في الاغتيالات التابعة لمجلس النواب عام 1979 خلص إلى "احتمال كبير" بوجود مسلحيْن نفذا الاغتيال.
وبقي هناك عدد من الاغتيالات التي كان لها تأثير فوري ضئيل لكنها أثرت في الأحداث اللاحقة، كما حدث في مقتل رئيس وزراء الجنرال فرانشيسكو فرانكو (حكم إسبانيا ما بين 1939 و1957) لويس كاريرو بلانكو المتشدد على يد انفصاليي الباسك عام 1973، إذ أدى إلى تفاقم الأزمة عندما توفي الديكتاتور بعد ذلك بعامين، وربما يكون قد عجل بعودة إسبانيا للديمقراطية.
كذلك لم يؤد طعن رئيس الوزراء في برلمان جنوب أفريقيا هندريك فيرويرد عام 1966 إلى إنهاء الفصل العنصري بل سلبه دعائمه الأيديولوجية، وفق ما تقول هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي).
المسيرات و"الاغتيال الذكي"
لا يختلف كثر على أن الطفرة التكنولوجية التي شهدها المجال العسكري والمصحوبة بالذكاء الاصطناعي مع وفرة الأسلحة المتطورة والموجهة بدقة من بعد، وأساليب تعقب الضحايا المحتملين وعلى رأسها الطائرات المسيرة، غيرت قواعد وأساليب الاغتيالات على مدى الأعوام الأخيرة، ومع اتساع استخدام الطائرات المسيرة أو ما يسمى بـ"درونز" من قبل الدول والجماعات من غير الدول، باتت قواعد وشروط الاغتيال "ميسرة وخياراً مغرياً للغاية" بحسب توصيف صحيفة الـ "تايمز" البريطانية.
ويقول أستاذ العلوم السياسية في "معهد ماساتشوستس" للتكنولوجياً إيريك لين غرينبيرغ إن "طائرات ’درونز‘ غيرت طابع الصراع الحديث من خلال السماح للدول بإظهار قوتها، وفي الوقت نفسه تقليل الأخطار على قواتها من خلال إبقاء المجموعات المحاربة بعيدة من الخطوط الأمامية، إذ تسمح الطائرات من دون طيار للحكومات بشن هجوم محفوف بالأخطار أو جمع معلومات استخباراتية، وهما مهمتان ما كانتا لتنفذا لولا تلك المسيرات".
وبحسب ما كتبه غرينبيرغ في مجلة "فورين أفيرز" الأميركية فقد "توفر الطائرات من دون طيار دعماً جوياً ورؤية شاملة للقوات البرية من الأعلى، وهذاً غالباً ما يقلب الموازين أثناء الصراع، وعلاوة على ذلك فعادة ما تكون الطائرات من دون طيار أرخص وأسهل في التشغيل والصيانة مقارنة بالصواريخ أو الطائرات المأهولة التي تحل "درونز" محلها، مما يجعل من الأسهل على الدول دمج الطائرات من دون طيار في العمليات العسكرية".
ووفق الدراسات المعنية فقد ظهر أول هذه الأنواع من الطائرات المسيرة في بريطانياً عام 1917، واستمرت لعقود عدة تستخدم بصفتها طائرة انتحارية تتصدى لطائرات معادية حتى استخدمتها كل من الولايات المتحدة وألمانيا خلال الحرب العالمية الأولى، ثم لحق بهما الاتحاد السوفياتي في ثلاثينيات القرن الماضي.
وأتاحت الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945) والحرب الكورية (1950 - 1953) المجال لاستخدامها من قبل القوات الأميركية في الأغراض التدريبية وكصواريخ موجهة، وفي التصدي للطائرات الحربية المأهولة بالطيارين، إلى أن تطور دورها ليشمل المجال الاستخباري الذي برز بعد حرب فيتنام (1955 - 1975)، في حين زودت للمرة الأولى بالصواريخ في الهجوم على كوسوفا عام 1999.
وخلال الأعوام الأخيرة باتت المسيرات سلاحاً رئيساً ولا سيما في منطقة الشرق الأوسط للتنظيمات والقوى العسكرية، لكن اختلف استخدامها بين ما هو مشروع وغير مشروع.
ويقول موقع "أرمي تكنولوجي" إنه يوجد أكثر من نوع من الطائرات من دون طيار، أبرزها تلك المتحكم فيها من بعد، إضافة إلى الطائرات ذات التحكم الذاتي التي تستعمل الذكاء الاصطناعي ويتمتع هذا النوع بذاتية أكبر في اتخاذ القرارات ومعالجة البيانات"، موضحا أن "الطائرات ذاتها تقسم أيضاً بحسب المهمات التي تقوم بها، فمنها العسكرية المتخصصة في المراقبة، ومنها المقاتلة ومنها ما يمكن استعمالها للغرضين"، ويرى الموقع ذاته أن "استخدامها قلص من الأخطار والخسائر البشرية والمادية إضافة إلى سهولة وسرعة حصولها على المعلومات، مقارنة بالقوات العسكرية على الأرض، هذا فضلاً عن ميزاتها التكتيكية والإستراتيجية في مجالات الرصد والتعقب".
ووفق تقرير لمجموعة "صافان" الأميركية فإن "الفكرة الرئيسة من وراء توسع استخدام ’درونز‘ هو تحقيق إصابات مباشرة من بعد من دون تعريض الجنود للخطر، إذ يمكنها وفق ما أدخل عليها من تكنولوجيا حديثة التحليق المرتفع مع عدم معرفة الهدف بأنه هو المستهدف مباشرة، كما ترتبط فكرة اللجوء إلى ’درونز‘ أيضاً بكون تعرضها للإصابة من قبل قوات العدو لن يكون مكلفاً اقتصادياً"، مشيراً إلى أن "دخولها ساحات الصراع يضيف مزيداً من عناصر التعقيد إليها".
بينما اعتبر الأستاذ المساعد والمتخصص في الدراسات الحربية في "جامعة جنوب الدنمارك" جيمس روجرز أن "انتشار تلك التكنولوجيات الطائرات المسيرة بعيدة المدى وصواريخ كروز يزيد فعلاً مدى الحرب، كما يزيد ذلك من قدرة الجاني على الإنكار"، ويتوقع الباحث الأميركي ستيوارث راسل "مستقبلاً قاتماً لدور الطائرات المسيرة، إذ يؤدي دمج التكنولوجياً والصناعات الحربية إلى إنتاج أسلحة فتاكة وغير مسبوقة مثل ’درون‘ بحجم العصافير الصغيرة"، مشيراً إلى أنها تكون "قادرة على شن هجوم مسلح غير قابل للصد أو الردع تماماً"، ومعتبراً أن مهمة ملاحقته شبه مستحيلة في ظل ضرورة وجود إمكانات عسكرية هائلة للتصدي إليه.
وعلى إثر تكنولوجيا المسيرات فقد طُوع استخدامها بكثافة خلال الأعوام الأخيرة في الاغتيال واستهداف الأشخاص في مناطق مختلفة حول العالم، وتقول صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية في تقرير لها إنه وخلال إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما (2008 - 2016) انتشرت ضربات الطائرات من دون طيار كوسيلة لمحاربة التمرد في العراق وأفغانستان من دون المخاطرة بالعسكريين في مهمات جوية خطرة، مشيرة إلى 563 غارة معظمها بواسطة طائرات من دون طيار في باكستان والصومال واليمن خلال فترتي رئاسة باراك أوباما، وفقاً لمكتب الصحافة الاستقصائية "تي بي أي جي"، والذي يقارن ذلك بـ57 ضربة في عهد إدارة بوش الابن (2000 - 2008).
كذلك لجأت الإدارة الأميركية في استهداف قادة التنظيمات المتطرفة في سورياً والعراق واليمن خلال الأعوام الأخيرة إلى الطائرات المسيرة، وكان أبرزها قتل زعيم "تنظيم القاعدة" في جزيرة العرب ناصر الوحيشي في هجوم بطائرة مسيرة أميركية في يونيو (حزيران) عام 2015، في أحد أقوى الضربات للتنظيم منذ مقتل أسامة بن لادن في مايو (أيار) عام 2011، وقتل زعيم "تنظيم داعش" أبو بكر البغدادي في عملية مركبة شاركت فيها قوات خاصة وطائرات حربية ومسيرة في محافظة إدلب شمال غربي سوريا في أكتوبر (تشرين الأول) 2019، وكذلك اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني ونائب رئيس الحشد الشعبي العراقي أبو مهدي المهندس في محيط مطار بغداد في يناير عام 2020، وأيضاً اغتيال زعيم "تنظيم القاعدة" أيمن الظواهري بمسيرة أميركية في العاصمة الأفغانية كابول في أغسطس (آب) 2022.
وفي المقابل كانت هناك حوادث استهداف بمسيرات فاشلة ومن أبرزها نجاة رئيس الوزراء العراقي السابق مصطفى الكاظمي من محاولة اغتيال في نوفمبر عام 2021 بواسطة ثلاث طائرات مسيرة مفخخة استهدفت منزله في المنطقة الخضراء داخل بغداد، ولم تعلن أية جهة مسؤوليتها عن الهجوم الذي خلف أضراراً مادية في المنزل، مما أثار الجدل حول استخدام "درونز" من جانب ميليشيات وجماعات مسلحة موازية للجيوش النظامية للبلدان، وكذلك محاولة الاغتيال الفاشلة بحق الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو في أغسطس (آب) 2018 باستخدام طائرة من دون طيار كانت تحمل متفجرات، وهي العملية التي أعلنت مجموعة غير معروفة مؤلفة من مدنيين وعسكريين تطلق على نفسها اسم "الحركة الوطنية لجنود يرتدون قميصاً" المسؤولية عنها، وقالت "إنها خططت لإطلاق طائرتين مسيرتين ولكن قناصة أسقطوهما".
إسرائيل وسلاح الاغتيالات
ولم يكن إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في ديسمبر 2023 أنه أصدر تعليماته إلى الـ "موساد" باغتيال قادة "حماس" أينما كانواً في سياق حربها المتصاعدة في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي هو الإعلان الأول لمثل هذا النهج في إسرائيل، إذ إن للدولة العبرية تاريخاً طويلاً في مسلسل الاغتيالات والتصفية ضد الفلسطينيين ومن ترى فيهم "خصوماً لها وتهديداً وجودياً لدولتها"، ومنذ نشأتها عام 1948 نفذت مئات عمليات الاغتيال في مناطق متفرقة حول العالم، شملت مناطق الأراضي الفلسطينية المحتلة وفي إيران وألمانيا وتونس وسورياً ولبنان وإيطاليا وفرنسا واليونان وقبرص وبلجيكا وغيرها.
وفي كتابه "قم واقتل أولًا: التاريخ السري لاغتيالات إسرائيل المركزة" الصادر عام 2018 يحصي المحلل الاستخباري الإسرائيلي رونين بيرغمان أكثر من 2700 عملية اغتيال خلال 71 عاماً نفذها الإسرائيليون في الداخل والخارج، بمعدل 38 عملية سنوياً، موضحاً أنه "منذ الحرب العالمية الثانية اغتالت إسرائيل أناساً أكثر من أية دولة أخرى في العالم الغربي".
وجاءت أبرز عمليات الاغتيال الإسرائيلية ضد القادة الفلسطينيين في التاسع من أبريل (نيسان) عام 1973 حين استهدف ثلاثة من القادة الكبار لحركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، وهم أبو يوسف النجار وكمال عدوان وكمال ناصر في العاصمة اللبنانية بيروت، وذلك بعد أقل من عام من اغتيال عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية والمتحدث الرسمي باسمها غسان كنفاني في يوليو (تموز) عام 1972 بواسطة عبوة ناسفة وضعت في سيارته بمنطقة الحازمية في لبنان.
اقرأ المزيد
- اغتيال الرجل الثاني في "حماس" يهدد بتوسيع الحرب في الشرق الأوسط
- من الكونت برنادوت إلى العاروري... أبعد من الاغتيالات وحرب غزة
- من دمشق إلى بغداد... تفاصيل خطة ترمب "السرية" لاصطياد قاسم سليماني
- كيف قتل الموساد فخري زادة بمعاونة إيرانيين؟
- الموساد يكشف البرقية الأخيرة للجاسوس إيلي كوهين من سوريا
- ما بعد البغدادي والظواهري: "القاعدة" و"داعش" "ماركة عنف"
- "نهاية مفتوحة" لملف اغتيال رفيق الحريري
كذلك كانت عملية اغتيال خليل الوزير الملقب "أبو جهاد"، وهو الرجل الثاني في حركة "فتح" ومن مؤسسيها مع ياسر عرفات وآخرين، في أبريل عام 1988 بعملية عسكرية نفذتها إسرائيل في مقر إقامته بتونس العاصمة أحد أبرز الاغتيالات التي تنفذها تل أبيب ضد أرفع شخصية فلسطينية حتى ذلك الوقت، وذلك قبل أعوام من تنفيذ جهاز الأمن الإسرائيلي (شاباك) في مدينة غزة في أبريل 1995 اغتيال كمال كحيل أحد قادة كتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة "حماس"، وذلك لكونه خبيراً في العبوات الناسفة وأشرف على العمليات الفدائية، وذلك قبل أشهر من اغتيال مؤسس حركة الجهاد الإسلامي وأمينها العام فتحي الشقاقي في الـ 26 من أكتوبر عام 1995 في مالطا على أيدي مجموعة "كوماندوس" إسرائيلية.
وخلال الألفية الجديدة كانت أبرز عمليات الاغتيال الإسرائيلية للقادة الفلسطينيين هي اغتيال مؤسس حركة "حماس" الشيخ أحمد ياسين في الـ 22 من مارس (آذار) عام 2004 بغارة جوية أصابته وهو على كرسيه المتحرك، وذلك قبل نحو شهر من اغتيال مؤسس آخر للحركة وقائدها في حينه عبدالعزيز الرنتيسي في الـ 17 من أبريل في العام ذاته بقصف جوي استهدف سيارته داخل مدينة غزة، وأخيراً اغتيال القيادي في "حماس" محمود المبحوح على يد عملاء للـ "موساد" الإسرائيلي "صعقاً بالكهرباء ثم خنقه" داخل أحد فنادق دبي في دولة الإمارات في يناير عام 2010.
وعلى رغم تعدد عمليات الاغتيال الإسرائيلية وتنوعها إلا أن بعضها لم يكن يصيب الهدف أو أصيب بالفشل، كما أوضح رونين بيرغمان الذي يملك مصادر واسعة داخل أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية أنه عندما أرادت تل أبيب اغتيال القيادي في حركة "فتح" علي حسن سلامة في بلدة ليلهامر بالنرويج عام 1973، فإنها قتلت مواطناً مغربياً عندما شخصته بالخطأ بأنه سلامة، وقال "الرجل الذي قتله الإسرائيليون في ليلهامر لم يكن علي حسن سلامة ولكن أحمد بوشيكي، وهو مغربي كان يعمل نادلاً ورجل تنظيف في حمام سباحة".
وينقل الكتاب عن ضابط في المخابرات الإسرائيلية لم يسمه قوله إن "بعض العرب الذين قتلناهم لم نكن نعرف لماذا قتلناهم؟ وهم أيضاً لا يعرفون لماذا ماتوا؟".
كذلك تعتبر محاولة اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" خالد مشعل أحد أشهر محاولات الـ "موساد" التي فشل في تنفيذها بعد أن استهدفه في الـ 25 من سبتمبر عام 1997 من خلال 10 من عناصره دخلوا الأردن بجوازات سفر كندية مزورة، وحُقن بمادة سامة أثناء سيره في شارع وصفي التل في عمّان، إذ اكتشفت السلطات الأردنية محاولة الاغتيال وألقت القبض على اثنين من عناصر الـ "موساد" المتورطين، وحينها طلب العاهل الأردني الراحل الملك حسين بن طلال من رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك بنيامين نتنياهو المصل المضاد للمادة السامة التي حقن بها خالد مشعل، وأطلق الأردن عملاء الـ "موساد" في مقابل إطلاق مؤسس حركة "حماس" الراحل أحمد ياسين الذي كان محكوماً بالسجن مدى الحياة.
ومع رصد للوسائل التي استخدمتها إسرائيل في غالبية عمليات الاغتيال التي نفذتها، فقد تنوعت الأساليب وشهدت تطوراً مع مضي الأعوام بين تفخيخ سيارات ووضع عبوات ناسفة تحتها، أو تفجير سيارات من بعد أو تفجير أجهزة الاتصالات أو إطلاق النار من قرب من قبل قوات خاصة أو عملاء للـ "موساد" أو قصف بالطائرات، إلا أن هذه الأساليب شهدت تطوراً كبيراً خلال الأعوام الأخيرة مع اتساع استخدام إسرائيل للطائرات المسيرة، فعلى مدى الأعوام الأخيرة كثفت إسرائيل من استخدامها في تنفيذ عمليات الاغتيال عبر تسخير مزاياها التكنولوجية في عمليات الاستطلاع وجمع المعلومات الاستخباراتية والهجوم والاستهداف.
وتمتلك إسرائيل كثيراً من طرازات المسيرات المتطورة ذات الاستخدامات الواسعة، ومن أبرزها "آي إيه آي إيتان" الهجومية التي يبلغ طولها 14 متراً بأجنحة يصل طولها إلى 26 متراً، وبإمكانها الطيران مدة تصل إلى 36 ساعة متواصلة بسرعة 370 كيلومتراً/ساعة على ارتفاع يصل إلى 45 ألف قدم، وكذلك مسيّرة "هرميس -900" التي دخلت الخدمة رسمياً في الجيش الإسرائيلي عام 2017.
وتعد مسيرة "سبايك فايرفلاي" الهجومية واحدة من أبرز المسيرات التي تطورها وتنتجها شركة "رافائيل" الإسرائيلية، وهي طائرة من دون طيار متفجرة أو انتحارية تحمل قوة تفجيرية ويمكنها مهاجمة الأهداف مباشرة، كما تتميز بوزنها الخفيف وقوتها التدميرية الكبيرة لتسليحها برأس حربي شديد الانفجار ومتعدد الاتجاهات بوزن 350 غراماً، كما أنها مزودة مستشعرات عدة للتصوير تمكنها من تتبع الهدف والاشتباك معه بدقة، وظهر استخدامها بكثافة خلال حرب غزة الراهنة، وفق وسائل إعلام إسرائيلية.
وجاءت آخر عمليات الاغتيال الإسرائيلية باستخدام المسيرات خلال الأسابيع الأخيرة، إذ استهدفت طائرة من دون طيار مكتباً لحركة "حماس" في الضاحية الجنوبية لبيروت مساء الثاني من يناير الجاري مما أدى إلى مقتل نائب رئيس المكتب السياسي للحركة صالح العاروري وستة آخرين بينهم اثنان من قادة كتائب القسام الجناح العسكري لـ "حماس"، وذلك قبل أيام من اغتيال القيادي في "كتيبة الرضوان" التابعة لـ "حزب الله" اللبناني ومسؤول إدارة عمليات الحزب في الجنوب وسام حسن الطويل في قصف إسرائيلي استهدف سيارته في بلدة خربة سلم "الواقعة على بعد حوالى 11 كيلومتراً من الحدود مع إسرائيل في الثامن من يناير الجاري.
وقبل نهاية العام الماضي اُتهمت إسرائيل بتنفيذ عملية اغتيال القائد في الحرس الثوري الإيراني رضا موسوي الذي كان معروفاً بقربه من قائد فيلق القدس السابق قاسم سليماني بهجوم في سورياً في الـ 25 من ديسمبر الماضي بعد أيام قليلة من قتل غارة جوية إسرائيلية اثنين من أعضاء الحرس الثوري في سوريا.
ووفق هيكل التنظيم الأمني داخل إسرائيل فإن عمليات الاغتيال تسند بصورة رئيسة إلى جهاز الـ "موساد" الذي ينشط بالأساس خارج البلاد ويتبع لمسؤولية رئيس الوزراء الإسرائيلي مباشرة، ولا يقوم بأية عمليات اغتيال من دون الحصول على مصادقة منه، فيما يعمل في الداخل، إضافة إلى الضفة الغربية وغزة، جهاز استخباراتي آخر هو الـ "شاباك" الذي يتولى مسؤولية عمليات الاغتيال داخل الأراضي الفلسطينية.