Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الشيطان "المغلوب على أمره" مع البشر والحكومات

حملوه ما لا طاقة له به وما يفعله بعضهم ببعض أفظع بكثير

ارتكاب الشرور نشاط متعدد الأوجه ويتسع للجميع من دون تفرقة بسبب الجنس أو اللون أو العرق أو السن أو الطبقة الاجتماعية (أ ف ب)

كأن المهمات الثقيلة والكثيرة والمتشعبة الموكلة إليه لم تكن كافية، فإذ بالجميع يحمله ما لا طاقة لـ10 من أمثاله القيام بها، وعلى رغم أن مهمات وظيفته كانت محددة ومعروفة وكان يقوم بها على خير وجه لقرون عدة، ولم يقصر في مهمة هنا أو مطلب هناك، وعلى رغم استمرار الحياة بنظام موزون إلى حد ما بين الخير الجميل المأمول والشر الكريه الذي لا بد منه، إلا أن ما يتعرض له الشيطان حالياً من ضغوط غير مسبوقة جعلت بعضهم يعيد التفكير في مكانته والبحث في ماهيته.

ماهية الشيطان، على رغم محاولة تجسيده في شكل دولة تارة، ورئيس أو قائد تارة أخرى، وشعب بأكمله أو فكر أيديولوجي من ألفه إلى يائه طوال الوقت، مرتبطة ارتباطاً وثيقاً منذ قرون بالأديان السماوية الثلاثة.

اكتب كلمة "شيطان"

اكتب كلمة "شيطان" بالعربية على "غوغل" وستجد نفسك أمام طوفان من المصادر والمعارف الإسلامية المكتوبة حول أصل الشيطان والفرق بينه والجن وإبليس، وستجد كثيراً من الآيات القرآنية وكذلك بقية الكتب المقدسة "يبكي" الشيطان لدى سماعها، إلى جانب طرق مواجهة الشيطان بالصلاة والصيام والزكاة والدعاء.

ثم اكتب كلمة "شيطان" بالإنجليزية، وستجد نفسك أمام طوفان من تجاذب الأصول الدينية للشيطان بين التوراة والإنجيل، وكلاهما محمل بسبل مواجهته ومقاومته والانتصار عليه، سواء بالصلاة وتسليم النفس لـ"الروح القدس" والاعتراف والعودة لأحضان المسيح، أو هو المتهم المعوق للخير المراود للناس عن أنفسهم والذي يحول بين الناس وإصلاح العالم كما ورد في التوراة.

الطريف، أو ربما المؤسف، أنه ورد ذكر الشيطان والإشارة إليه في الأديان السماوية الثلاثة باعتباره ممثلاً للشرور ونائباً عن الخطايا وخير من يمثل الأوغاد والخبثاء والمنحطين، وعلى رغم ذلك لا يجد بعضهم من القائمين على أمور الأديان الثلاثة غضاضة في اتهام أتباع الدينين الآخرين بأنهم "شياطين" لمجرد أنهم يعتنقون ديناً غير دينهم ويمارسون طقوساً غير طقوسهم.

يظل هؤلاء قلة وسط الغالبية التي تؤمن بأن "شيطاناً" هو المسؤول الأول والأكبر عن أفعال البشر المنافية للخير والمتسببة في خراب الإنسانية، فربما يكون الشيطان هذا الوجه المرعب ذا العينين الجاحظتين والحاجبين المحدبين والأنف المعكوف والأظافر الطويلة والقرنين الصغيرين بدلاً من الأذنين، أو هذا المسخ الرهيب الذي يسافر من مكان لآخر على مقشة أو لا تبرح الشوكة الضخمة ثلاثية الأسنان يده وغيرها من الصور النمطية التي رسمها بعضهم وحفرها البعض الآخر في أذهان البشرية، لكنه ربما يكون أيضاً هذه الفكرة الفلسفية التي عبّر عنها سقراط حين قال إن أحداً لا يرتكب الخطأ طواعية وإن الشر نتيجة الجهل ولو عرف الناس الطريق الصحيح لما ارتكبوا الشر أبداً.

نشاط ارتكاب الشرور

ارتكاب الشرور نشاط متعدد الأوجه ويتسع للجميع من دون تفرقة بسبب الجنس أو اللون أو العرق أو السن أو الطبقة أو الحال الاجتماعية، فالجميع يحظى بفرص متساوية لارتكاب الشر والغالبية لديها معرفة ما باحتمال ضلوع الشيطان في هذا العمل، وهناك من يتحجج أو يتذرع أو ربما يكون على قناعة بأن من أجبره على العمل الشرير هو الشيطان.

 

 

ويعزز من تلك الذريعة أو القناعة عدد من رجال الدين الذين يمعنون ويفرطون في إلصاق الأعمال الشريرة أو القبيحة أو العدائية بالشيطان، لا بفاعلها العاقل البالغ. وكم من محاكمة يسأل فيها المتهم المعترف بجريمته، لماذا فعلتها؟ فيجيب الشيطان شاطر!

شطارة الشيطان حاضرة في الأخبار والأحداث، فخلال الساعات الماضية حفلت المنصات الصحافية بمثل هذه العناوين "القمار رجس من الشيطان فاجتنبوه" و"الشيطان الطائر: أنواع الطائرات المسيّرة الحديثة" و"ثالثهما الشيطان: سيدة تحالفت مع عشيقها وقتلا الزوج" و"لماذا أدخلت كتائب القسام سلاح الشيطان في حرب غزة؟" و"عالم أزهري يكشف عن سورة من القرآن تطرد الشياطين من البيت" و"استعدوا! الشيطان يقترب من الأرض" و"حقيقة تبول الشيطان في صحن الإناء المكشوف"، والقائمة طويلة.

يقيم في الحمام؟

ضمن أطول القوائم تلك المتصلة بالشيطان المتبول في الإناء المكشوف والآكل مع من لم يسمِّ الله قبل تناول الطعام والمتقيء لدى ذكر الله والمتجول في الأظافر الطويلة والمرتدي اللون الأحمر والمقيم في الحمام والعابث بشعر المرأة إن كشفته والمحب للموسيقى والغناء فهو يعزف المزمار ويهتز فرحاً لدى سماع الآلات الموسيقية والأصوات الشادية، لا سيما النسائية وغيرها من المعتقدات الثقافية التي اختلطت باجتهادات وتفسيرات بشرية في الأديان حتى صارت وحدة واحدة تدغدغ قلوب الملايين وتضرب عقولهم بين الحين والحين.

وحين فاجأ الصغير ابن السبع سنوات أباه وهو يحذره ويروعه ويفزعه للمرة الألف من الشيطان الذي قد يراوده فلا يصلي، أو يشغله فلا يذاكر، أو يغريه فلا يأكل إلا الحلوى، أو يناديه فلا يرد على أمه، أو يخدعه فلا يفكر في إخوته بقوله "بابا هذا الشيطان متفرغ لي وحدي؟ من أين يأتي بالوقت لبقية الناس؟"، فأعاد الأب التفكير في الشيطان كأداة تربوية.

الترويع التقويمي

اللافت أن تخويف الصغار بالإشارات المتكررة للشيطان وقدراته واستخدام هذه الأوراق الترويعية أداة تربوية سمة في عدد من المجتمعات، لا سيما المتدينة، في الشرق والغرب.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أستاذ الطب النفسي خليل فاضل يؤكد لـ "اندبندنت عربية" أن الترويع سواء بالشيطان أو "أبو رجل مسلوخة" أو "العفريت" وسيلة فاشلة في التقويم والتنشئة، وغالباً تؤدي إلى الإصابة بنوبات هلع شديدة لدى الشخص، مما ينعكس سلباً على علاقته بالآخرين في بقية مراحل العمر.

ويشير إلى ما يعرف في الطب النفسي بـ "متلازمة الأب والرب"، إذ تمثل طرق التربية التي يقوم بها بعض الآباء، لا سيما الذين يميلون إلى تخويف الأبناء بغرض التقويم إلى ارتباط صورة الأب ومكانته بالرب، وقدرته على طرد الصغير من جنة البيت أو توقيع عقوبة شديدة عليه بسبب ذنب اقترفه الصغير، مثلما فعل آدم.

 أنصار اللجوء إلى الشيطان كأداة ترويعية يقولون إن تنشئة الصغير على فكرة وجود الله والخير والشر ينبغي أن تكون مصحوبة بالإشارة إلى الشيطان، ومعارضو الفكرة يحذرون من أسلوب الترويع بصورة عامة كأداة تربوية من شأنها أن تقلب السحر على الساحر، أو تؤدي إلى تشوهات نفسية وعيوب عصبية، أو ينجم عنها شخص خانع خائف غير قادر على اتخاذ القرارات الصائبة بناءً على قرارات أخلاقية تفرق بين الخير والشر، وليست ترويعية تتخذ بدافع الخوف والذعر.

أزياء ومواهب

الذعر من الشيطان يتحول في عدد من المدارس التي تنظم حفلات تنكرية إلى سخرية منه، فتحكي مدام مروة لصديقاتها عن صغيرتها "لوجي" (ست سنوات) التي كانت "قمراً" في "آوت فيت" (زي) "ديمون" (شيطانة) في حفلة المدرسة. ترد مدام أمل بتفاخر "معقول؟ كان يجب أن تري ’موزي‘ (ابنها حمزة) وهو يتسلم جائزة أفضل زي وتقمص لدور ’ساتان‘، وتفاخر الأمهات بـ"ديمون" الجميلة و"ساتان" الموهوب لا يفسد للشيطان المحفور في الأذهان قضية. فبعضهم يمطر هؤلاء الأمهات وأزواجهن وصغارهن ومدارس أبنائهن والجهات الرسمية المسؤولة عن متابعة نشاط أبنائهن وبناتهن بأقسى نعوت كراهية الدين وزرع العداء للمتدينين وزعزعة أواصر الدين.

لكن أواصر الدين تظل محل شد وجذب، فالشيطان ومسيرته ومكانته ومحل إقامته والتحذير من رفع الصوت في الحمام مقر الشيطان أو تعليق الملابس خلف بابه لأن في مقدوره التسلل إلى داخلها فيزاحم من يرتديها، ثقافة تقف على طرف النقيض من أخرى لا ترى ضرراً في ارتداء زي الشيطان أو تمثيل دوره على سبيل الهزل.

يرتدي ملابسنا ويسكن أظافرنا

امتزج الهزل بالجد في التعليق على موضوع صحافي نشر قبل أيام، ولولا أن الموضوع منشور في باب "فتاوى وأحكام"، لاعتقد بعضهم بأنه منشور على سبيل الفكاهة. وجاء فيه، "اعتاد كثيرون ترك الملابس أو تعليق المنشفة داخل الحمام غير عابئين بأن هذا المكان (الحمام) مأوى للشياطين. وخلال الأيام الماضية، حذر بعضهم من هذا الأمر، مع النصح بعدم ترك أية ملابس في الحمام. وقال فريق من العلماء إن هذه الحمامات التي يقضي الناس فيها حاجتهم مأوى للشياطين".

هذا المأوى ينفق بعضهم ثروات طائلة من أجل بنائه وتصميمه وتجهيزه. رخام وأخشاب وسيراميك وستائر ومناشف وكريمات ومنظفات وربما مزروعات وورد بغرض تجميله وتزيينه ولا يذكر الشيطان المقيم من قريب أو بعيد إلا بعد الانتهاء من بناء الحمام.

حمامات ومتاحف

مقار إقامة الشيطان في الحمامات ليست حكراً على ثقافة بعينها كما لم يرِد ذكرها من قبل مجتهدين في تفسير دين معين، لكنها أفكار ومعتقدات موجودة لدى عدد من شعوب الأرض، بعضهم يبقي عليها ويتمسك بها، والبعض الآخر يعتبرها تراثاً جديراً بالجمع والعرض في المتاحف.

"متحف الشياطين" هو اسم متحف حقيقي فريد من نوعه في مدنية كاوناس في ليتوانيا، ويعد أحد المزارات السياحية الرئيسة التي تحوي مجموعة تماثيل ومنحوتات للشيطان كما يتصوره فنانون من كل أنحاء العالم.

الناس في كل أنحاء العالم يتطرقون إلى الشيطان بصورة أو بأخرى، فشقاوة الصغير تدفع بعضهم إلى وصفه بـ"الشيطان" وأفكار أحدهم الذكية والمبتكرة توصف أحياناً بـ"الشيطانية" وأفكار آخر المتسمة بالخبث والخداع تنعت أيضاً بـ"الشيطانية"، حتى إيران حين دخلت في عداء مستحكم مع الولايات المتحدة الأميركية، سماها قائد الثورة الإسلامية الإيرانية الإمام الخميني "الشيطان الأكبر" وظل الاسم ملتصقاً بها من قبل أعدائها ومناهضيها.

الطريف أن نعت الدولة العدو بـ"الشيطان" أصبح متعارفاً عليه في السياسة الدولية، فبعضهم في أميركا يصف كوريا الشمالية وزعيمها وسياساتها بـ"الشيطان" ورسم كاريكاتيري يجري بيعه عبر منصات إلكترونية وفيه رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير في جهنم ويحمل وثائق "دمار شامل" (في إشارة إلى غزو العراق مع معرفة مسبقة بعدم امتلاكه أسلحة دمار شامل) وخلفه شيطان ضخم، والأمثلة كثيرة عبر التاريخ.

الشيطان وحرب القطاع

أما الحاضر، فيحمل الشيطان جزءاً غير قليل من جوانب حرب القطاع من قبل الجميع. "حماس الشيطانية تحتجز المدنيين" و"جيش الشيطان يدك غزة" و"الحاجة إلى حلفاء الشيطان على جبهتي الفلسطينيين والإسرائيليين ماسة" و"إسرائيل تدخل ملعب الشيطان في القطاع" و"الشيطان يسكن تفاصيل اتفاقات التهدئة بين إسرائيل وغزة" و"حرب حماس وإسرائيل: دائرة الشيطان المغلقة" و"حماس لن تنزع سلاحها إلا حين يدخل الشيطان الجنة" و"إسرائيل هي جيش الشيطان" و"خطة الشيطان: تفاصيل تهجير أهل غزة إلى سيناء" والأدوار الموكلة والملقاة على عاتق "الشيطان" كبيرة ومستمرة.

مصدر الرعب مذكر

استمرار الإشارة إلى الشيطان، أي شيطان، في صيغة المذكر يعني أن الصورة الذهنية الشعبية للشيطان تستدعي ملامح رجل وليس امرأة، ويقول أستاذ الطب النفسي خليل فاضل إنه حتى في المجتمعات الراقية أو المتقدمة، غالباً ترتبط منظومة القوة والعجرفة والمال والسلطة والقدرة على الإرهاب بالذكور، وذلك ربما ما يفسر حتمية أن يكون الشيطان ذكراً في الذهن الجمعي، مضيفاً أنه "بحسب العرف الاجتماعي والتعود منذ الصغر، مصدر الرعب مذكر وليس مؤنثاً".

 

 

لكن ضمن المفارقات هو أن بعض رجال الأديان، لا سيما المهمومين بشؤون الجنس وممارسته والعاطفة والإثارة، كثيراً ما يجدون رابطة بلاغية أو مجازية بين الأنثى والشيطان، فهي تارة "بوابة الرجل إلى جهنم"، وأخرى تأتي إلى الرجل في صورة شيطان، وثالثة يتجسد فيها الشيطان لامتحان قدرة الرجل على الصمود الأخلاقي وتحدي الرذيلة، والقائمة طويلة ومتجددة.

"لوسيفر" يتقاعد في لوس أنجليس

الجديد نسبياً في منظومة الشيطان هو تلك الأعمال الفنية التي تقدمه بصورة جذابة ومحببة إلى النفس. بطل مسلسل "لوسيفر" الأميركي (2016-2021) هو الشيطان "لوسيفر" الشاب الوسيم الذي أصبح غير راضٍ عن حياته في جهنم، فتخلى عن مكانته المميزة فيها وتقاعد في لوس أنجليس، وهناك انغمس في تفاصيل الحياة التي يفضلها بين الخمر والنساء والموسيقى حتى وقعت جريمة قتل خارج ملهى ليلي. الغريب، أنه للمرة الأولى منذ مليارات السنوات، أيقظت الجريمة في "لوسيفر" شعوراً "مرعباً مخيفاً" بالرحمة والتعاطف.

وسواء كان الشيطان وسيماً أو بقرنين صغيرين وعينين جاحظتين، أو كان ذكراً متعجرفاً بالضرورة أو محاولاً رفع راية "لا للتصنيف الجندري"، أو يعيش في الحمام أو في الأظافر الطويلة، فإن البشرية على ما يبدو تحمّله ما لا طاقة له به.

ويقول خليل فاضل إن "ما يفعله البشر ببعضهم بعضاً والحكومات ببعضها بعضاً أفظع بكثير مما يفعله الشيطان الميتفايزيقي بهم".

المزيد من تحقيقات ومطولات