Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هشام مطر يسلك في"أصدقائي" الطريق الآمن إلى ليبيا

روايته الجديدة تسترجع ثلاثة عقود من الذكريات تمتد من بنغازي إلى لندن

مشهد من ليبيا في منتصف القرن العشرين (وزارة الثقافة)

في روايته الجديدة "أصدقائي"، يتخلص الكاتب الليبي الأنغلوفوني هشام مطر أخيراً من عقدة الأب المفقود الذي طغى طيفه على أعمال سابقة له، ليسمح لرابطة أخرى بالظهور في الوقت الراهن. صدرت الرواية حديثاً عن "راندوم هاوس للنشر"، لكن فكرتها تعود إلى أعوام طويلة، وتحديداً أثناء كتابته "بلد الرجال" أول رواية له في باريس. آنذاك دونها مطر في سطرين على مظروف، وما إن اندلعت ثورات الربيع العربي ورحل الطاغية حتى تقلقلت من مكانها، صانعة بضعة هوامش قد لا تتجاوز الصفحة الواحدة. أعوام أخرى مرت إلى أن لمح بمحض الصدفة إحدى شخصياته التي لم يكتبها بعد، في محطة قطار "سانت بانكراس" في لندن. كان مجرد لقاء عابر يجري في مكان عابر ولكنه شكل بالنسبة إليه نقطة الانطلاق.

حكاية عابرة

تبدأ القصة عام 2016 في محطة القطار من مشهد النهاية، وتستمر على طول الطريق الذي قرر خالد أن يقطعه على قدميه حتى شقته في غرب لندن، بعد أن لمح صديقه حسام زوة مغادراً البلاد، من دون أن يتبادل معه كلمة واحدة. هنا، وهنا فقط، تتدافع الذكرى من شقوق الحاضر الهشة، لتغزوها تماماً، وتغرق اللحظة الراهنة بحممها المتدافعة. وفي زمن مقداره ساعتان (المدة التي استغرقها الطريق)، يعود السرد لأكثر من 35 عاماً إلى بنغازي، بلد الراوي حين كان خالد في سن المراهقة يستمع مع والديه إلى إذاعة "بي بي سي"، وإذا بالمذيع يخرج عن البرنامج المعتاد ويشرع في قراءة قصة سياسية جريئة لكاتب شاب يدعى حسام زوة. بعد أقل من شهر يقتل المذيع في ظروف غامضة فتستقر قصة زوة في ذهن خالد مرتبطة بالجريمة أو اللعنة، حتى يلتقيه صدفة بعد سنوات في لندن.

الطريق إلى بيت خالد لا يتخذ مساراً مباشراً، إنه يتعرج ليمر على الأماكن التي ما زالت محتفظة بالذكرى في مقصوراتها الوهمية، ودور مطر هنا هو تخليص الظلال من قيود الزمن، ليعيد وفق مخيلته، تجسيد ما حدث في صباح يوم الـ17 من أبريل (نيسان) 1984، أمام السفارة الليبيىة، وحدد مسار حياته حتى قيام الثورة.

صغيراً لم يزل، أصغر من أبطاله كما يقول، لم يأت للاحتجاج حيث تجمع حشد من المتظاهرين المناهضين للقذافي، بل جاء فحسب، نزولاً عند دعوة صاحبه، ظناً منه أن طريق العودة ممهد في أي وقت شاء. ما كادت تبدأ المظاهرة حتى اشتعل الموقف وظهرت مظاهرة مضادة لمؤيدي القذافي الذي امتدت أذرعه في كل الدول، وراحت تطارد مناوئيه عبر العالم. وفي ساحة سانت جيمس، أطلقت أعيرة نارية من نوافذ السفارة، وأصيب 11 متظاهراً، وقُتلت شرطية تدعى إيفون فليتشر. يقول مطر: "أتذكر بوضوح الاضطرابات السياسية التي تلت ذلك. أخليت الساحة وحوصرت السفارة لمدة 11 يوماً، حتى سمحت حكومة السيدة تاتشر لبقية المسؤولين الليبيين بمغادرة البلاد. قطعت بريطانيا وليبيا علاقاتهما الدبلوماسية، واستمر العداء العميق بينهما حتى نهاية القرن. وأصبح اسم إيفون فليتشر تعويذة في بريطانيا، وفي الساحة يوجد نصب تذكاري حجري صغير يشير إلى المكان الذي سقطت فيه".

كان خالد وزميله من ضمن المصابين في هذا اليوم، وضمن من كتب عليهم النفي إلى الأبد، ومما ترتب على إصابته من غياب عن محاضراته في جامعة إدنبرة، وهو تحت رعاية الأطباء في المستشفى لأسابيع، وكذلك تحت الحراسة، لفت أنظار جواسيس القذافي إليه وجعله يسقط فريسة مثل أبيه بين فكي الزعيم. ومما زاد معاناته أنه لم يستطع، حتى أن يطمئن أهله على مكانه، لأن خطوط الهاتف كانت هي الأخرى تحت المراقبة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ركزت أعمال مطر في مجملها على رعب العيش تحت تهديد الرئيس معمر القذافي، وروايته "في بلد الرجال"، التي ترشحت في قائمة البوكر القصيرة، تدور حول صبي يترقب تصاعد القلق وتأثيره السام بين أفراد أسرته من دون أن يفهم سبباً لما يدور حوله. وتروي مذكراته "العودة" الحائزة جائزة بوليتزر قصة اختطاف أبيه ورحلة الابن التي تشبه رحلة تليماك في أوديسة هوميروس ولكنها للأسف إلى أرض الوطن.

بؤرة الذاكرة

يصرح مطر في كل حواراته أن مشهد السفارة تحديداً لم يتمكن من نسيانه مطلقاً، الشباب الذين اخترقت أجسادهم الغضة رصاصات صديقة، ومنظرهم وهم يتلوون على المدرج من فرط الألم ووقع المفاجأة، "أتذكر أنني سمعت أحدهم ينادي على والدته. وبعد خمس سنوات، أثناء دراستي في لندن، أصبحت صديقًا للرجل نفسه، ولم أكن أعرف لفترة طويلة أنه كان هناك. وفي وقت لاحق، عندما فكرت في كتابة رواية درامية كبيرة عن أمر خاص وحميم مثل الصداقة، تساءلت: ألن يكون من المثير أن أجعلهم يمرون بهذا الحدث الذي أثر فيَّ كثيراً؟".

هكذا قطعت الشخصيات الطريق المعبدة لها حيث مر الكاتب بحدث استثنائي حدد مسار حياته، وحرم عليه العودة إلى أرض الوطن. وعلى مدى أكثر من 400 صفحة، يختبر نصيحة والده الذي وجده عالقاً بين دراسته في المنفى ورغبته التي لا تقاوم في الرجوع إلى ليبيا، فتقول الأبوة التي هرمت في سجون القذافي: "كل ما تحتاجه هو صديق أو صديقان جيدان، هذا كل شيء". من هنا تتحول نصيحة الأب إلى شبكة مغزولة من ثلاث قصص لثلاثة ليبيين، طردهم الوطن واحتضنهم المنفى. لكن الأمر يتجاوز قصة الأصدقاء كأشخاص معينين، لتصل من طريق خفي إلى مساحات القرب والبعد، بين الأنا والآخر بما يؤهلها لأن تكون دراسة عن الصداقة، على رغم كونها لم تستند إلى مراجع، كما لم يتوقف مؤلفها كي يسأل رفيقيه عن جزئية أو تفصيلة أو لون يحبه.

 لقد تكفلت الرحلة في بلاد الغربة بسد ثغرات الحكاية. كما بلورت مصائرنا في اختلاف القرار، فالحياة عملية حسابية، إذا أخطأت في جمع الأرقام الأولى تصبح النتيجة سلسلة لا نهاية لها من الأخطاء، مما يفضي بالضرورة إلى طرق مختلفة، فيها يتفرق الأصدقاء. وهو ما يعيدنا إلى مشهد البداية ومحاولة خالد استبقاء ما يفر الآن من يده بعد موت الديكتاتور. حسام وهو على محطة المغادرة، بينما مصطفى ينضم في ليبيا إلى الميليشيات، أما خالد نفسه فها هو ذا أخيراً بعد ساعتين من المشي المتواصل يصل إلى البيت بكل ما يحمله من معان، لعل أهمها ذوبان الثلج بين المنفى والوطن، لأنه ببساطة، أينما تكن وتتحقق وتستشرف غداً يكن وجه الوطن.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة