ملخص
تعتمد موازنة 2024 على زيادة الضرائب الاستهلاكية لتأمين الإيرادات في غياب أية رؤية إصلاحية لخروج لبنان من أزمته المتفاقمة
أقر مجلس النواب اللبناني في وقت متأخر أمس الجمعة مشروع قانون الموازنة لعام 2024 بعد إدخال تعديلات عليه، لكن خبراء عبروا عن مخاوفهم في شأن الموازنة إذ ركزت الحكومة اهتمامها على تحقيق تحدي التوازن بين الإيرادات والنفقات وبلوغ "صفر عجز" بالاستناد إلى الضرائب على الاستهلاك، فيما غابت الإصلاحات الضرورية واستمر تجاهل الأملاك البحرية والنهرية والتعديات على أملاك الدولة ومشاعاتها. وهذا يفتح الباب واسعاً أمام استمرار التهرب الضريبي في ظل غياب الأجهزة الرقابية، مما يعرض المالية لصدمة الفارق بين التقديرات والواردات المحققة. وفيما تظهر الأرقام تقدم الإنفاق التشغيلي والأجور على حساب تراجع النفقات الإنتاجية التي يمكن أن تحقق نمواً حقيقياً لا حسابياً، يبدو جلياً أن الحكومة تسعى إلى استغلال هذه الموازنة في التفاوض مع صندوق النقد الدولي والإدلاء بقدرة لبنان على تصفير العجز.
وتمت الموافقة على مشروع القانون بعد ثلاثة أيام من الخلافات التي شملت عديداً من المشاحنات في قاعة البرلمان مع رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، مما سلط الضوء على الانقسامات العميقة التي أصابت السياسة اللبنانية بالشلل، وأطالت أمد الفراغ الرئاسي المستمر منذ أكثر من عام.
وتوقعت الموازنة، التي تم تعديلها على مدى أشهر من النسخة التي قدمها ميقاتي إلى مجلس النواب، زيادة كبيرة في إيرادات الدولة المكتسبة من خلال ضريبة القيمة المضافة والرسوم الجمركية. وتضمنت أيضاً إجراءات تستهدف على ما يبدو أولئك الذين حققوا مكاسب غير مشروعة خلال الأزمة المالية في لبنان، من خلال تغريم الشركات التي استفادت بصورة غير عادلة من منصة صرف العملات السابقة للبنك المركزي والتجار الذين استخدموا دعم البنك المركزي للواردات بغية تحقيق أرباح.
وشملت التعديلات رفع البلديات القيمة التأجيرية 10 أضعاف للأماكن السكنية ولغير السكنية 10 و15 و20 ضعفاً بحسب الطوابق، وأصبحت غرامات السير عشرة أضعاف، كما زادت الرسوم أضعافاً عدة على المعاملات الخارجية وإخراجات القيد والضرائب على خروج المسافرين والسيارات الجديدة الصديقة للبيئة. وتم أيضاً تعديل رسم الترشح للانتخابات وزيادته ليصبح 200 مليون ليرة.
رؤية الحكومة للتعافي
وفي كلمته أمام مجلس النواب، أكد رئيس حكومة تصريف الأعمال أن "الموازنة ليست الموازنة المثالية في الظروف الطبيعية، لكنها موازنة تتماهى مع الظروف الاقتصادية والأمنية والاجتماعية والدولية التي يمر بها لبنان". وشدد على أن "مشروع قانون موازنة 2024 يعالج أولويات الحكومة، ويؤسس لبدء التعافي من أثر الأزمات الخانقة التي عاشتها البلاد في السنوات الأخيرة، واستكمال ما تم تحقيقه مع موازنة 2022، لناحية توحيد سعر الصرف وتعزيز الواردات وإزالة الضغوط التمويلية عن المصرف المركزي، وذلك تمكيناً للاستقرار المالي والنقدي الذي توصلنا إليه تدريجاً خلال العام الماضي على رغم الظروف السياسية والأمنية الداخلية والإقليمية" حسب تعبير ميقاتي، الذي أشار إلى أن "الاستقرار في سعر الصرف أخيراً ناتج من زيادة واردات الدولة وسحب السيولة من الأسواق، وكذلك امتناع مصرف لبنان عن ضخ السيولة في الأسواق". كما كشف رئيس الحكومة عن أن "موازنة الدولة في عام 2019 تجاوزت 17.2 مليار دولار أميركي، أما في 2022 فقد أدرنا الدولة بنحو 800 مليون دولار أميركي"، مكرراً "استطعنا وقف الانهيار وبدأنا بالتعافي الجاد، ولدينا في الحساب 36 في مصرف لبنان أكثر من 100 ألف مليار ليرة نقداً، ولدينا أكثر من مليار دولار، منها 150 مليون دولار فريش، و850 مليون لولار (تسمية الأموال بالدولار العالقة في المصارف ولا يمكن سحبها نقداً)".
كما أقر ميقاتي بالحاجة إلى إصلاحات بنيوية في مجالات عدة "كالتهرب الضريبي ومحاربة التهريب والفساد وتحديث بعض القوانين التي مضى عليها الزمن، ولكن هذه الإصلاحات الهيكلية لا تعطي نتيجة في المدى القريب، بل في المديين المتوسط والبعيد"، مضيفاً أنه "في هذه الأثناء هناك ضرورة للإنفاق على الرواتب والأجور، والقطاعات الاجتماعية كالصحة والتعليم ومعالجة مسألة الفقر".
موازنة الضرائب
في العام الماضي صبت الحكومة اللبنانية جهدها على وضع موازنة 2024، بعدما لم تبصر موازنة 2023 النور بسبب ردها لتقديمها في نهاية السنة المالية. وجاءت الضرائب والرسوم أبرز مصادر الإيرادات المقدرة لموازنة 2024. ويشير الباحث الإحصائي عباس طفيلي إلى "إبداع الحكومة في البحث عن إيرادات ضريبية، في ظل غياب الخطة والإرادة للوصول إلى حل للأزمة، وكل ما فعلته هو تكييف أبوابها مع سعر صرف الدولار الجديد، وجعله وفق صيرفة بالكامل"، لافتاً إلى أن "هناك استمرارية في التعويل على التحويلات القادمة من الخارج، واعتياد الناس على الظروف التي نجمت عن الانهيار"، و"إصرار رئيس الحكومة بالحديث عن تحقيق النمو من دون الأخذ في الاعتبار أن الزيادات هي من الضرائب المفروضة على عامة الشعب".
يشرح طفيلي توزيع الإيرادات التي تشكل الضريبة على القيمة المضافة العنصر الرئيس فيها بنسبة 32.4 في المئة، فيما تؤمن الضريبة على الأرباح 8.9 في المئة، والرسوم العقارية 10.8 في المئة، أما الرسوم الجمركية فتساوي عائداتها 4.8 في المئة، إضافة إلى الضريبة على الرواتب والأجور 1.6 في المئة، والضريبة على الفائدة المصرفية 1.1 في المئة، والضرائب على الأملاك المبنية 0.4 في المئة، والحاصلات من الإدارات والمؤسسات العامة غير المالية 6.0 في المئة، والرسوم الإدارية 0.3 في المئة. ويبقى 33.7 في المئة من حجم الإيرادات لمصادر أخرى.
ينطلق الطفيلي من منطق العدالة، ليشدد على ضرورة البدء بنهج جديد، والتخلي عن الضرائب على الاستهلاك لصالح الضرائب على العقارات الخاوية، ومن يمتلك أكثر من سيارة، و"الضرائب على الناس المقتدرين مادياً"، على غرار "فرض تسعيرة أعلى للكهرباء التي تستهلكها الشركات"، و"الضريبة التصاعدية على الدخل".
التهرب من القيمة المضافة
يترافق التصاعد في الضرائب مع استمرار محاولات التهرب الضريبي، إذ يستغل المتهربون ضعف الجهات الرقابية والتغطية السياسية للتهرب من دفع القيم الحقيقية الواجبة على المؤسسات والشركات. وفي تغريدة على موقع "إكس"، كشف ناشر موقع "الدولية للمعلومات" جواد عدرة عن أن "الإيرادات الفعلية من الضريبة على القيمة المضافة قد تصل إلى 3 مليارات دولار أميركي، بينما المبلغ الوارد إلى الخزانة لا يزيد على 1.1 مليار دولار"، مضيفاً "هذا يشير إلى تهرب ضريبي كبير من تسديد هذه الضريبة، يصل إلى 1.9 مليار دولار أميركي". وتساءل عدرة "هذه المبالغ سددها اللبنانيون فأين هي؟".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أثارت الموازنة انتقادات في الأوساط الاقتصادية و"لا ينطبق عليها وصف الموازنة باعتبارها قانوناً ينظم عمل الدولة" حسب المتخصص الاقتصادي بلال علامة، الذي يعتقد أن ما ينطبق عليها هو "جدول حسابي، وتركيب أرقام غير قابلة للتحقق بهدف الوصول إلى صفر عجز، والقول للمنظمات الدولية وصندوق النقد الدولي إن الحكومة حققت التوازن".
يحذر علامة من "كارثة ستطاول القطاع الخاص، وصولاً إلى ضربه وتقويضه من خلال الضرائب والرسوم، عوضاً عن تشجيعه لتحقيق النمو، في مقابل عدم القدرة على النهوض بالقطاع العام"، و"غياب الإجراءات الإصلاحية التي تؤدي إلى ترشيق وترشيد القطاع العام". كما ينوه علامة بأن 65 في المئة من النفقات هي عبارة عن رواتب وأجور لموظفي القطاع العام، فيما غابت "النفقات الإصلاحية"، إضافة إلى "عدم تضمن الموازنة الديون والمستحقات المترتبة على الدولة، مما يجعل الأرقام وهمية".
وينتقد علامة بعض البنود الموجودة في الموازنة، ويتخوف من "اتساع نطاق الاقتصاد الأسود (غير الشرعي) على حساب الشرعي"، إذ "يعفون من يجب أن يدفع الضريبة، ويلاحقون المواطن"، فقد فرضت رسوم خيالية على براءات الاختراع، وإلزام المخترع بدفع رسوم تصاعدية لـ10 سنوات مقبلة، من دون وجود ضمانات أكيدة للاختراع.
ويحدد علامة مواصفات "الموازنة الإصلاحية" التي "يجب أن تعيد هيكلة الاقتصاد، وتعديلات قانونية واسعة النطاق، وجريئة. وألا تجنح إلى تغيير الهوية الاقتصادية الليبرالية للبلاد، وأن يعاد رسم دور الدولة ضمن الاقتصاد، وإعادة هيكلة القطاع العام وتخفيف أعبائه، وتحديد إطار التعاون بين القطاعين العام والخاص الذي حاول قانون الشراكة تحديدها، ولكن للأسف لم ينفذ". ويضيف علامة "يقدر عدد موظفي القطاع العام بـ350 ألفاً، فيما الحاجة لا تتجاوز 70 ألفاً"، مقترحاً "إعادة توزيع الموظفين بين الوزارات والإدارات".
لجنة المال "عطلت الألغام"
قبل وصولها إلى مرحلة المناقشة أمام الهيئة العامة لمجلس النواب، قامت لجنة المال والموازنة في البرلمان بتعديلات واسعة لبعض مواد الموازنة وإلغاء أخرى. أسست الحكومة الموازنة على فلسفة "الضرائب والرسوم التي تطاول كل شيء"، وفق النائب رازي الحاج الذي يعتبر أنه كان من الأفضل إعادة الموازنة إلى الحكومة لتعديلها بصورة جذرية، وإرسال موازنة إصلاحية. ويضيف "عطلت لجنة المال كثيراً من ألغام الموازنة التي كانت ستنفجر في وجه القطاعات الإنتاجية والاجتماعية"، وتحديداً "إلغاء فرسان الموازنة، التي تهدف إلى تمرير الحكومة تعديلات بعض القوانين من خلال الموازنة". يتحدث الحاج عن توحيد المعايير، ذلك أن "الحكومة ضاعفت بعض الرسوم عشرات أو مئات المرات أحياناً"، وجعلها تتوافق مع نسبة التضخم "46 مرة".
وينبه الحاج إلى أن "عدم وجود موازنة لعام 2023 فتح الباب أمام الحكومة لصرف الأموال على القاعدة الاثني عشرية، واللجوء إلى سلفات الخزانة التي تجاوز حجمها 70 في المئة من النفقات"، منتقداً عدم وجود قطع حساب لموازنة 2023 بما يخالف الدستور، ومبادئ الانتظام المالي.
ويجزم الحاج أن "الحكومة تلجأ إلى لعبة شراء الوقت، معتمدة على مبدأ اقتصادي يقول إن السوق تصحح نفسها بنفسها"، مستبعداً بلوغ مرحلة التعافي والنمو، وتصفير العجز، لأنه "لا بد من حل لأزمة المصارف والمودعين والضمان الاجتماعي وحقوق المتقاعدين وتكبير حجم الاقتصاد والناتج المحلي وسداد الديون".
اعتراضات بالجملة
تواجه الموازنة الصفرية علامات استفهام كثيرة واحدة منها ما طرحه وزير الأشغال العامة والنقل علي حمية، الذي تطرق عبر منصة "إكس" إلى الفرق الشاسع بين المبالغ المرصودة والحاجات الحقيقية لصيانة الطرقات، لأنه وفقاً للدراسات الموثوقة، تقدر الحاجة بـ350 مليون دولار أميركي، أي ما يعادل 33 مليار ليرة لبنانية، في حين أن الاعتمادات الملحوظة في موازنة 2024 لبند صيانة شبكة الطرق تبلغ 8.4 مليار ليرة لبنانية فقط، أي بفارق نحو 25 مليار ليرة، علماً أنه لم تجر صيانة للطرقات منذ خمس سنوات، مما يجعل حالها تسوء.
في موازاة ذلك، استخدمت مسودة موازنة 2024 سعر صرف 89 ألف ليرة لبنانية للدولار لحساب معظم إيرادات الضرائب، وهو سعر الصرف في السوق الحرة حالياً، بينما حددت حسابات أخرى بسعر 50 ألف ليرة. وأُلغيت المادة 93 التي حدّدت قيمة تعويضات نهاية الخدمة السابقة عن 2024 للأجراء عند 15000 ليرة للدولار الواحد، من دون وضع بديل لها، مما يؤدي إلى استمرار تطبيق هذا السعر. وقد نوقشت في نهاية الجلسة على عجل مع حلول التعب والملل على الجميع.
لكن سعر الصرف الرسمي الذي ستعتمده الحكومة، والمحدد حالياً عند 15 ألف ليرة للدولار، فلم يحسم بعد وتركه ميقاتي للمصارف قائلاً "إذا أقررنا الموازنة على سعر صرف 89 ألفاً، فستعلن المصارف إفلاسها غداً. لذا يجب أن يحدد السعر بين المصرف (المركزي) والمصارف".
ومنذ أن بدأ الاقتصاد اللبناني في الانهيار عام 2019 فقدت العملة نحو 95 في المئة من قيمتها، ومنعت البنوك معظم المودعين من سحب مدخراتهم وبات أكثر من 80 في المئة من السكان تحت خط الفقر. وتقدر الحكومة إجمالي خسائر القطاع المالي بأكثر من 70 مليار دولار معظمها مستحق لدى البنك المركزي.
ومنعت المصالح الخاصة للطبقة السياسية والاقتصادية الإصلاحات الرئيسة التي طلبها صندوق النقد الدولي للحصول على حزمة مساعدات بقيمة 3 مليارات دولار للبنان. وتشمل هذه الإصلاحات إقرار تشريعات لحل أزمة لبنان المصرفية وتوحيد أسعار الصرف المتعددة لليرة اللبنانية. وحث صندوق النقد الدولي لبنان على النظر في زيادة الإنفاق الاجتماعي "بهدف حماية الفئات الأكثر ضعفاً". وقال الصندوق العام الماضي إن لبنان "سيغرق في أزمة لن تنتهي أبداً" ما لم ينفذ إصلاحات سريعة.
لكن ميقاتي قال أمام النواب في جلسة الجمعة "استطعنا وقف الانهيار وبدأنا بالتعافي الجاد".