في تاريخ نضال أفريقيا من أجل التحرر، هناك أسماء قليلة تحفز على الإطراء والإشادة والتقدير لدورها المتميز، من بينها اسم روبرت غابرييل موغابي.
كان موغابي سياسيّاً فطناً وخطيباً مفوهاً، ومثالاً حيّاً على إرادة تقرير المصير لدى السود ومبعث فخر لعموم أفريقيا. ومع إعلان وفاته، ظهر فيض من الأسى الحقيقي لفقدان شخصية كبيرة من وزنه. وظل الأفارقة (وبعض الأميركيين من أصل أفريقي) يبجّلون موغابي باعتباره ثوريّاً، وقف في وجه الغرب الاستعماري وتجرّأ على النضال من أجل كبرياء شعبه وكرامته. كم كان ليكون رائعاً لو أن هذا القدوة المشرق يتوافق مع واقع الزيمبابويين الذيين قاسوا تحت قبضة حكمه.
من ناحية، أنا أفهم أن يُنظَر إلى موغابي وإرثه من قبل غير الزيمبابويين بطريقة رومانسية، إذ إنهم لم يعرفوا موغابي، في نهاية المطاف، إلا من خلال خطاباته.
وحين كان يقف على المنصة، كان الجميع يسكت لسماع ما يقوله. وكان يتهجم على الاستعمار الأوروبي، ويركز بالدرجة الأولى على بريطانيا. وظل رافضاً أن يكون خجولاً، وينادي الأشخاص بأسمائهم، خصوصاً توني بلير وجورج دبليو بوش. وأكسبته تلك المواقف إعجاب كثير من المتطرفين في شتى أنحاء أفريقيا.
واستطراداً، في قارة شهدت طويلاً زعامات مترددة تنقاد بسهولة إلى أميركا والقوى الاستعمارية السابقة، بدا موغابي الزعيم الأفريقي الأسود المثالي. وكذلك جعله برنامج الإصلاح الزراعي الذي أطلقه في أواخر القرن العشرين، أكثر شعبية. إذ ظهر أن بطل التحرير الأفريقي يضمن انعتاقاً اقتصاديّاً لشعبه ويزيل آخر حصون حكم الأقلية البيضاء.
في مقلب آخر، انتقل موغابي المحبوب سابقاً، إلى موغابي الشهيد، حين انسحبت الشركات والبنوك الأجنبية من زيمبابوي. ووفق هذه القصة، كان ضحية عوقب لإصراره على خدمة بلده. كذلك يمكن القول إن موغابي كان (وما زال) موضع حب وتقدير كثيرين من الأفارقة. إذ يبقى مصدر إلهام لسياسيين وناشطين طموحين يشعرون بالإحباط لفشل مشروع تصفية آثار الاستعمار. ويتمتع أيضاً بالاحترام بسبب خطاباته المحرضة، وقوله الحقيقة في وجه القوى الغربية. أنا أفهم هذا الإعجاب الأفريقي به، لكنه إعجاب يتجاهل أموراً كثيرة اخرى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
نعم، أوافق على أن موغابي خطيب قوي. إذ تقدر كلماته على تحريك المتلقي وإلهامه وتحفيزه. كذلك استخدم خطاباته لمهاجمة أناس من بلده. ودأب على انتقاد زعماء أحزاب المعارضة في زيمبابوي، متهماً إياهم بأنهم عملاء أعداء يقبضون رواتبهم من الغرب الشرير تماماً. وقد سخر من حقوق المرأة ورفض عرائض التماس طلبت من الحكومة تنفيذ إجراءات تتعلق بالعنف المنزلي، والمساواة في الأجور والتحرش الجنسي.
نعم، كان موغابي شخصيّة أساسيّة في النضال من أجل الاستقلال والحرية للأغلبية السوداء. في المقابل، أسّس ثقافة الخوف والصمت إلى الحد الذي جعل الناس يخشون ذكر اسمه عالياً أو استعمال اسمه في "بوستات" وسائط التواصل الاجتماعي. لقد كانوا خائفين من الاعتقال أو الضرب أو حتى الاختفاء.
نعم، إنه موغابي الذي أعلن في 1980 أن بلده لن يقاسي مرّة أخرى صدمات وأعمال عنف. وبعد تسع وثلاثين سنة، يترك وراءه بلداً له تاريخ حافل بالقمع وعمليات القتل الجماعية، واستخدام الجيش والشرطة ضد المدنيين غير المسلحين، في مرحلة ما بعد الاستعمار.
نعم، موغابي رمز للأمة الأفريقية. وكذلك استفاد من الحرب الأهلية التي وقعت خلال عقد التسعينيات من القرن الماضي في جمهورية الكونغو الديمقراطية، فعمل على تأجيج الوضع المضطرب أصلاً، بإرسال قوات لدعم حكم لوران كابيلا.
نعم، كان برنامج موغابي للإصلاح الزراعي شعبيّاً جداً في شتى أنحاء القارة الأفريقية، لكن تنفيذه كان ضعيفاً، مع تهافت إثنين من السياسيّين لانتزاع أفضل الأراضي على حساب الفلاحين السود المهرة ممن ليس لديهم علاقات سياسية.
نعم، لطالما تلقى موغابي الإشادة باعتباره أكثر السياسيين الأفارقة تعلّماً، لكنه شهد أيضا انهيار بلده التدريجي، وانهيار العملة المحلية، وانتشار وباء الكوليرا في 2008، وهجرة واسعة للزيمبابويين الهاربين من بلادهم، وفضائح الفساد التي ضَلُعَ فيها كبار المسؤولين الحكوميين.
يمثّل موغابي أيقونة أفريقيّة. لا يمكن نكران ذلك. وبالنسبة للعقل الأفريقي الجمعي، يمثّل صنفاً من الزعماء الأقوياء الأذكياء الذين نتوق إلى وجودهم في الحكم. لكن هذا المثال الساطع الذي جسّده موغابي، لم يكن حقيقيّاً.
إذ كان المسؤول عن فظائع مروعة، والإرث الذي خلفه وراءه يتمثّل في بلد محطَّم ومصدوم يناضل من أجل خلق هوية منفصلة عن ذلك الزعيم.
وقد خلق أيضاً ثقافة العنف والترويع والخوف ورسّخها. هناك كثيرون ممن يستحقون الإطراء لمساهمتهم في صوغ تاريخ أفريقيا وتطوّرها، لكن موغابي ليس واحداً منهم. ولدى مناقشة حياته ومساهماته، يبرز في المقدمة كل ذلك الألم والمعاناة اللذان عانى الشعب منهما.
لِنتذكرْه على ما كان هو عليه حقاً كزعيم، وليس كما يريد البعض له أن يكون.
© The Independent