ملخص
مستشفى وحيد لعلاج السرطان وغالباً يحضر المريض جرعاته معه
يعاني مرضى السرطان في سوريا أوضاعاً صحية يمكن وصفها بالمأسوية غالباً، وتتمثل بضعف الاهتمام المطلوب، وسوء الرعاية، وصعوبة تأمين الأدوية والجرعات التي تنتج غالبيتها شركات هندية وإيرانية ودول قليلة أخرى، وبصعوبة بالغة يمكن تأمين بعض الجرعات الأوروبية المهربة بأسعار مرتفعة للغاية مما يجعل بروتوكول العلاج إن لم يك عصياً على البعض أو على كثر أحياناً، إلا أنه مرهق للغاية، بالتأكيد، ويحمل في مشوار تأمينه كثيراً من المصاعب والمتاعب والضغوط النفسية والمعنوية على المريض وعلى عائلته في آن معاً.
وزاد في تعقيد الأمر وجود مستشفى واحد فقط في سوريا لمعالجة الأورام، مقره في دمشق - منطقة حرستا، وهو مستشفى "البيروني" إذ استقبل عام 2023، بحسب معلومات لـ"اندبندنت عربية"، ما بين 9 و11 ألف حالة تنوعت ما بين أورام ومراجعات واستشفاء، ولكن هل تمكن هذا المستشفى الوحيد من القيام بمهامه في ظل الضغوط القائمة والتردي الهائل على صعيد المنظومة الصحية بأكملها؟
أسباب معطلة
وصار من المعلوم أن الجسم الطبي في سوريا يتهاوى تباعاً، وقد يكون من اليسير تعليل ذلك تبعاً لظروف عدة، في مقدمها الهجرة المهولة للأطباء بمختلف اختصاصاتهم، فضلاً عن حزمة قرارات غربية ضد حكومة دمشق جعلت الأمور المعيشية أكثر صعوبة مما يجعل ثمن العلاج مضاعفاً، ويمكن تبيان هذا الأمر من خلال فقدان أصناف أدوية رئيسة من الأسواق منذ وقت طويل، وارتفاع أسعار العلاج التي قسمت المرضى بين لاجئين لعلاج حكومي مجاني أو شبه مجاني (وهذا في الغالب يتطلب تقديم أوراق وحجز دور قد يكون بعيداً)، وبين مقتدرين يتعالجون في مراكز خاصة مصغرة أو في الخارج وهم قلة قليلة للغاية، ولعل الأهم من كل ذلك الأداء الحكومي المتهاوي إلى حد الإهمال لمنظومة الحياة اليومية للمواطنين بدءاً من المعيشة مروراً بالتعليم وصولاً للطبابة.
معونة بلا قيمة
ويشكل ملف مرضى السرطان مأزقاً صحياً طارئاً إذ غالباً ما تتجه الأمور نحو الطلب من المريض أن يؤمن الدواء بنفسه في مراحل عدة من العلاج، والتوجه نحو مراكز طبية خاصة لتلقيها أحياناً، في وقت قررت السلطات، أخيراً، أن تدعم أي موظف لديها مصاب بالسرطان بمبلغ مليون ليرة سورية (60 دولاراً أميركياً) لمرة واحدة، فيما يبلغ سعر الجرعة الواحدة أضعاف هذا الرقم، وهنا تبدأ رحلة المريض عن موارد مالية وتهريبية لشراء العلاج وتأمينه في كثير من الأحيان، لأسباب عديدة، بينها انقطاع المادة في المستشفى نفسه، كما يقول بعض من عولج أو يعالج هناك، وضغط الطلب للحصول على دور قد يحتاج حجزه إلى أشهر.
أجرة علاج أم أجرة طريق؟
سامر نصران موظف حكومي لديه سرطان بالرئة، يتابع بروتوكول علاجه على نفقته الشخصية، يقول تعليقاً على قرار منح الحكومة مبلغ 60 دولاراً لموظفيها المصابين بالسرطان "يراوح سعر الجرعة ما بين 150 و250 دولاراً وأحياناً أكثر، أي بحسب عملتنا المحلية بين مليونين وأربعة ملايين ليرة سورية، وراتبي كله 200 ألف ليرة، وقد يحتاج المريض أحياناً إلى 10 جرعات، أي نحو 2000 دولار، ثم تعطيك الحكومة منهم 60 دولاراً". ويتابع "أنا سمعت عن معونات، عن شحاذة، ولكن هذه الطريقة غريبة، هل قصدهم أن يعطونا أجرة الطريق للمستشفى مثلاً؟ لأن 60 دولاراً، بالتأكيد، لن تفعل شيئاً لمريض، من السيئ أن تشعر بالمهانة هكذا، خذوا هذه (الستينات) واشتروا بها أسرة للمشافي، سيكون أفضل بكثير".
كما لو لم تكن
ويتفق عدد من الموظفين المصابين أو الذين شفوا من المرض مع موظفين آخرين سليمين أن الرقم الحكومي الممنوح بغية علاج المرض يمثل صورة بالغة الأهمية حول انفصال المسؤولين عن الواقع، في ظل خطوط تهريب مفتوحة داخلياً وخارجياً للحصول على الأدوية والجرعات الملائمة صارت، خلال سني الحرب، معروفة أنها أكثر فاعلية وقدرة على الإيفاء بالدور المنوط بها صحياً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
نورا عمران موظفة حكومية لم تتقاض المنحة العلاجية، تشير إلى أنها لم تكن تدري إن كانت هذه المنحة موجودة خلال مرضها أم جاءت لاحقاً، لكنها في الحالتين لم تكن لتكترث أمام هول ما هي فيه وما ينتظرها من تحديات لتنجزها، وأهوال لتقارعها، وثبات نفسي يجب عليها التشبث به أمام عائلتها.
مستشفى وحيد: ظلم كبير
تضيف نورا "هذه مسخرة، لا أريد التقليل من المستشفى الوحيد العتيد، ولكن أريد أن أسأل لماذا لا يوجد سواه وهو يستقبل آلاف الحالات سنوياً؟ أليس هذا مؤشراً خطراً واضطرارياً لإيجاد مشاف أخرى تخفف عنه، ويكون العلاج المقدم جيداً لجميع المرضى بالتساوي، أنا رفضت خوض تجربة العلاج فيه، ومجدداً ليس تقليلاً به". وتتابع "أنا فقط زرت المستشفى حين أصبت بسرطان الغدد اللمفاوية، ولكن رأيت هناك أشياء لا تسر، تتعلق بعدم الاهتمام، المرضى في الممرات، الضغط غير معقول، وأمور كثيرة لا أريد ذكرها، ومجدداً هذا ليس ذنب مدير وطبيب وممرض وفني، بل ذنب حكومة حشرت مرض العصر كله في مبنى واحد، يا للغرابة! لذا رحت لأتعالج على نفقتي بمركز خاص وبكلف أكثر من باهظة".
ملف مركب
وعلى رغم ذلك، يقدم المستشفى الوحيد خدمات مجانية مكلفة خارجه، ولا سيما تصوير الرنين المغناطيسي وغيره "كما أن كلفة الجرعة العلاجية داخله أسعارها معقولة نسبياً بحسب الحالة وطبيعة الورم وانتشاره، إلا أن جرعات أخرى تكلف مبالغ طائلة، وحين يتعذر تأمينها، يطلب إلى المريض تأمين الدواء بنفسه، وهذا ما يحصل كثيراً".
أحد الأطباء السوريين الذين اختاروا الهجرة، قبل سنوات، إلى الخليج قال، مفضلاً عدم الكشف عن اسمه، إن المستشفى يستحيل أن يحرم مريضاً من العلاج إن كان متوافراً لديه، إلا أن القصة أكثر تعقيداً وتركيباً، فكثير من الأدوية يتم إتلافها بسبب انتهاء صلاحيتها وهذا يرجع للدول المانحة أو المتبرعة التي ترسل أحياناً جرعات قاربت صلاحيتها أساساً على الانتهاء، ويتساءل الطبيب نفسه "كيف نقبل أصلاً تسلم هبات منتهية الصلاحية؟".
العلاج بالدين
وعلى مدى شهرين قبل أكثر من عام، راجع مريض سرطان، اسمه سليمان معروف، المستشفى للحصول على جرعات ومباشرة علاجه، لكن رحلاته تلك باءت بالفشل، إذ كان مخزون المستشفى الوحيد شارف على الانتهاء، وأعلن المستشفى آنذاك عن تلك المعلومات عبر وسائل إعلام محلية محذراً من اقتراب كارثة نفاد الكمية الدوائية لديه.
سليمان كان مضطراً إلى مباشرة علاجه قبل أن تتطور حالته قاصداً مركز علاج خاصاً في دمشق ومرغماً على دفع مبالغ كبيرة لقاء العلاج الذي تلقاه، قبل أن تعود حالته للانتكاس، لاحقاً، ومن ثم يعود إلى العلاج مرة أخرى في رحلة مكوكية صحية. وإذا كان انتهاء أسطوانة الغاز في المنزل حدثاً أليماً، فكيف الحال بملايين ستدفع للعلاج؟
واستدان سليمان، حينها، المبلغ المطلوب بالفائدة من أحد الأشخاص، على أن يعيده مرفقاً بنسبة مئوية إضافية، وسار في رحلة علاجه مستغرباً من كونه مريضاً متألماً في بلد ساسته يقولون إنه معافى، ولكن لم يجد لنفسه سريراً ليتعالج كمواطن صالح لم يتذمر يوماً مما يحدث حوله، على ما يقول، مضيفاً "الطبابة في سوريا ليست مجانية، هذه كذبة كبيرة، ليجرب أحد أن يمرض ويشفى ليرى كم سيدفع وكيف سيغرق بالديون والأخطار وأنواع الأدوية والعلاجات الرديئة والسيئة، تحاليل بسيطة أجريتها منذ فترة كلفتني 50 دولاراً أي 700 ألف ليرة سورية، هذا رقم هائل بالنسبة إلى الناس".
السرطان يوحد السوريين
وبحسب الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فإن سوريا، على غرار عديد من البلدان المتوسطة الدخل الأخرى في العالم العربي، تواجه زيادة كبيرة في عدد حالات الإصابة بالسرطان بين سكانها البالغ عددهم 18 مليوناً. وفي عام 2020، سجلت، حسب التقديرات 21 ألف إصابة جديدة بالسرطان و13 ألف حالة وفاة بسبب السرطان، ويتوقع أن يرتفع هذان الرقمان بمقدار يناهز الضعف بحلول عام 2030.
كثيرة وكبيرة معاناة السوريين مع السرطان وعلاجه والحصول على أدويته، ولعل أكثر ما يعبر عنها سؤال سيدة شفيت قريباً من سرطان الثدي "كيف تمر فترات لا أدوية في المستشفى الوحيد، وهي متوافرة في صيدليات معينة وفي السوق السوداء؟".
ولا يبدو الوضع الصحي أفضل في المناطق خارج سيطرة دمشق، حيث تكثر في الشمال الغربي والشمال الشرقي للبلاد حالات الإصابة بالسرطان، وكذلك مشكلات تأمين الجرعات وأسعارها المرتفعة للغاية.