ملخص
مرضى السرطان في لبنان أمام أزمة جديدة مع رفع الدعم الكلي عن الأدوية... حتى إن الخطة البديلة موجودة شرط وضع المحسوبيات السياسية جانباً
تتواصل معاناة مرضى السرطان في لبنان منذ بداية الأزمة أواخر 2019 وحتى اليوم، مع انقطاع الأدوية الأساسية لعلاجهم، والكلف الباهظة التي يتحملونها ما بين الاستشفاء والعلاجات المكلفة، مما يزيد الخوف مما يخفيه المستقبل لهم ويفاقم الضغوط عليهم. وتلوح اليوم في الأفق بوادر أزمة جديدة كثيراً ما تخوف منها مرضى السرطان في لبنان، إذ خفضت الحكومة اللبنانية موازنة وزارة الصحة ليترك مصير آلاف المرضى في مهب الريح. وعلى رغم تأكيد الحكومة المستمر بمواصلة دعم أدوية السرطان، يبدو واضحاً أنها قضية تتجه نحو نفق مسدود مع وجود اتجاه نحو رفع الدعم عنها لتلحق بباقي الأدوية التي رفع الدعم عنها تباعاً في الفترة الماضية.
تطمينات وواقع يؤكد العكس
مع التغيير الذي حصل في حاكمية مصرف لبنان المركزي في الصيف الماضي، وإعلان حاكم المصرف بالإنابة الدكتور وسيم منصوري وقف استخدام أموال المودعين للدعم، طمأن وزير الصحة الدكتور فراس الأبيض في حديث لـ"اندبندنت عربية" حينها بأن "دعم أدوية السرطان مستمر من حقوق السحب الخاصة بلبنان (من صندوق النقد الدولي) من دون التأثر بقرارات المصرف المركزي". وأكد حينها أن الحكومة ستستمر بتأمين التمويل لدعم الأدوية وعدم المساس بعلاجات مرضى السرطان. أما في ما يتعلق بالأموال المستحقة للشركات المصنعة فأوضح أن الديون تسدد تباعاً لها.
لكن على رغم التطمينات ومساعي الجهات المعنية كافة، يبدو واضحاً أنه بغياب الخطة المدروسة لن تعود الحلول الترقيعية مجدية وسيستمر تدهور الوضع بالنسبة إلى المرضى نحو الأسوأ، كما ستزيد معاناتهم المستمرة منذ أربع سنوات، خصوصاً في حال الرفع الكلي للدعم عن أدوية السرطان، كما هو متوقع. غير أن وزير الصحة عاد وأكد في حديث إذاعي الاستمرار بتأمين الأدوية الخاصة بهؤلاء المرضى لمدة سبعة أو ثمانية أشهر. وفي الوقت نفسه شدد على أهمية التأمين المستدام للأموال الخاصة بعلاجات المرضى، في إشارة إلى ما قام به منصوري من تغيير في طريقة تأمين التمويل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إلا أن الواقع على الأرض يبدو مغايراً، إذ يؤكد رئيس قسم أمراض الدم والأورام في مستشفى "أوتيل ديو دو فرانس" الدكتور فادي نصر، أن معاناة مرضى السرطان في لبنان الذي يصل عددهم إلى 30 ألف مريض، مع 8 إلى 12 ألف حالة جديدة في السنة، تنطلق من مشكلتين أساسيتين: أولاهما تتعلق بالأدوية في المستشفيات التي قد لا يتمكن من تأمينها إلا المريض الذي له تغطية تأمين صحي. أما الثانية فتتعلق بأدوية العقاقير التي يحتاج إليها المريض بصورة أساسية في مرحلة العلاج. ويواجه كل المرضى مشكلة في تأمين هذه الأدوية بما أن كلفتها تراوح ما بين 3 و6 آلاف دولار أميركي شهرياً، فيما لا يمكن الاستغناء عنها أبداً في فترة العلاج. وهذه الأدوية غير مدعومة مما يزيد من معاناة المريض، على رغم التأكيدات باستمرار الدعم.
ويقول نصر "بطبيعة الحال نعرف كلنا أن الأموال لا تتوافر للاستمرار بتوفير الدعم للأدوية. ومنذ أكثر من شهرين يسعى كل مرضى السرطان إلى تدبر أمورهم بأنفسهم. فمنهم من يحضر أدويته من الهند، فيما يحضرها البعض من إيران، وقد يلجأ آخرون إلى تركيا التي تعتبر المصدر الأفضل لتوافر الأدوية الأصلية فيها. في كل الحالات، أياً كان المصدر تعتبر هذه الأدوية مكلفة للغاية وتشكل عبئاً ثقيلاً على المرضى بما أن كلفتها قد تكون بآلاف الدولارات. أما من يعجز عن تأمينها فمحكوم عليه بالموت. وهذا ما بتنا نشهده بشكل متواصل في عياداتنا بسبب عجز المرضى عن تأمين علاجاتهم. هم متروكون لمصيرهم القاتم من دون علاج بغياب أي حلول استراتيجية تقدم للحد من معاناتهم. وفيما يحكى عن إمكان توقف الدعم مستقبلاً، في الواقع هو متوقف أصلاً. والمشكلة الأساسية أن الدواء موجود لكن المريض غير قادر على تحمل الكلف لتأمينه. وأذكر هنا مريضاً بعمر 25 سنة تعتبر حالته قابلة للشفاء، لكنه يحتاج إلى مبلغ 5 آلاف دولار أميركي للعلاج المناعي، وهو غير قادر على تحمل هذه الكلف، ويعتبر مصيره معروفاً".
من الريادة إلى مشهد قاتم
تتزايد في الفترة الأخيرة أعداد الحالات التي تبقى من دون علاج بسبب العجز عن تأمينه سواء في المستشفيات أو خارجها لارتفاع الكلف. وحتى إذا كان هناك دعم حالياً لأدوية معينة، يدرك المريض جيداً أن هذا الدعم يأتي بشكل متقطع بما أن التمويل غير متوافر بشكل متواصل. هذا ما يضعه تحت ضغوط صعبة تضاف إلى تلك الناتجة من المرض وتداعياته. وبحسب نصر، يحكى حالياً عن عن انتقال أسلوب الدعم إلى ذاك المعتمد في أفريقيا ليطال أدوية رخيصة حصراً، فيما يكون على المرضى تأمين ما تبقى من الأدوية الأساسية. هذا ما يعيد لبنان إلى الوراء بعد أن كان رائداً وسباقاً في مجال علاج السرطان ويقدم للمرضى أهم العلاجات والبروتوكولات وأفضلها، كما في أكثر دول العالم تطوراً. فعلى رغم تطمينات وزارة الصحة، فلن يعود التمويل متوافراً قريباً لدعم أدوية السرطان، وهو شبه متوقف أصلاً.
أما الحل الوحيد على حد قول نصر، فيكون بوضع استراتيجية لتوفير الأموال اللازمة لدعم أدوية مرضى السرطان، عبر فرض ضرائب على الكحول والتبغ ومولدات الكهرباء وغيرها من مسببات السرطان، كما تفعل باقي الدول، وذلك من دون محسوبيات سياسية وحزبية، وبغض النظر عن مصالح جهات معينة. فكونها من أهم مسببات السرطان، من الممكن تأمين عائدات مهمة منها تغطي كلف علاجات مرضى السرطان. وفي الوقت نفسه يسمح ذلك بالحد من استهلاك التبغ والكحول كمسببات للمرض. ففي فرنسا على سبيل المثال، يصل سعر علبة السجائر إلى 12 يورو. بهذه الطريقة يمكن تمويل علاجات مرضى السرطان كافة بمبالغ تصل إلى 100 مليون دولار، إذا ما وضعت المصالح السياسية والمحسوبيات جانباً. ومع احتساب تغطية التأمين الصحي، يمكن تأمين مبلغ 20 أو 30 مليون دولار لمرضى السرطان بهذه الطريقة. من ثم يعتبر الحل الوحيد أمام الدولة ومرضى السرطان لتوفير علاجات مستدامة هو فرض الضرائب على الكحول والسجائر لتحويلها لتغطية العلاجات. بهذه الطريقة، يشعر مريض السرطان بالأمان في الأقل فيما يواجه مرضه ويحاربه، فلا تستمر الوفيات اليومية التي يشهدها الأطباء في عياداتهم لمرضى يعجزون عن تأمين كلف علاجاتهم.
تراجع الدعم
الحل نفسه يؤيده رئيس "جمعية بربارة نصار" لدعم مرضى السرطان، هاني نصار، تزامناً مع تحرك شعبي يقام لهذه الغاية بهدف تأمين تمويل مستدام للعلاج. فيشير إلى أن فرض ضريبة على الكحول والتبغ يمكن أن يوفر مبلغاً يوازي الموازنة الخاصة بوزارة الصحة قبل الأزمة. وهذا لا يغطي كلف أدوية مرضى السرطان فحسب، بل علاجاتهم كافة وفحوصهم. ويقول "تستمر معاناة مريض السرطان من بداية الأزمة وقد انخفضت المبالغ المخصصة لتمويل الأدوية تدريجاً من 20 مليون دولار شهرياً إلى 15 مليوناً، وهي الآن لا تتخطى الملايين الخمسة. لكن منذ تسلم منصوري حاكمية مصرف لبنان بالإنابة لم تحول أية مبالغ لهذه الغاية، ويعلم الكل أنه ما من إمكانات لوزارة الصحة لتوفير الدعم المستدام لأدوية السرطان، مما يضع مريض السرطان أمام أفق مسدود. فمن المتوقع أن يتوقف الدعم بشكل تام بعد أن فشلت كل المساعي إلى الاستمرار بتأمينه".
هذا ما دعا إلى إطلاق صرخة على اعتبار أنه على الجميع مسؤولية التحرك أمام وجع مرضى السرطان ومعاناتهم. فمع رفع الدعم من المتوقع الانتقال إلى دعم أدوية محدودة حصراً تستخدم في الدول الفقيرة، مما يعيد لبنان عقوداً إلى الوراء في مجال معالجة السرطان.