Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

التجنيد الإلزامي... معضلة الواجب والإجبار

يختلف إدراج الخدمة العسكرية وإلغاؤها من بلد إلى آخر وغالباً ما يتأثر بظروف محددة

عناصر من وحدة تدريب تابعة للجيش البريطاني (أرشيفية - أ ف ب)

ملخص

يعود تاريخ فكرة التجنيد الإلزامي لفترات تاريخية بعينها وأدرج في عصور تسببت خلالها التحديات العسكرية بالبحث عن وسائل لتأمين القوات العسكرية.

بطريقة غير متوقعة، اتخذ طرح إمكان فرض التجنيد الإلزامي في المملكة المتحدة منحى ساخراً لا يتناسب وجدية هذا الموضوع.

بعد تصريحات قائد الجيش السير باتريك ساندرز في نهاية الشهر الماضي، ثار الرأي العام البريطاني قليلاً، وما لبث أن تحول إلى وسائل التواصل الاجتماعي لتغطية قلقه بطبقة سطحية من الفكاهة والسخرية انعكست على هيئة "ميمز" ومقاطع فيديو تتعامل باستخفاف مع فكرة التجنيد.

على رغم أن موضوع الخدمة الإلزامية يعتبر من بين أكثر المسائل جدية في الحياة السياسية والعسكرية، إلا أن هذا التفاعل الكوميدي الذي أحاطها، يطرح سؤالاً جاداً حول طبيعة نظام التجنيد الإجباري ولماذا يثير جدلاً الآن؟

ما التجنيد الإلزامي وما تاريخه؟

يمثل التجنيد الإلزامي، المعروف أيضاً بالتجنيد الإجباري أو خدمة العلم أو الخدمة العسكرية، نظاماً يلزم المواطنين بخدمة الجيش لفترة زمنية محددة، ويأخذ أشكالاً متعددة تختلف بحسب الدول وتتغير عبر التاريخ. يمكن أن يتضمن هذا النظام تجنيد الشبان والشابات على حد سواء، أو يمكن أن يكون قائماً على مبدأ الاستدعاء الإلزامي في حالات الطوارئ.

يعود تاريخ فكرة التجنيد الإلزامي لفترات تاريخية بعينها، وأدرج في عصور تسببت خلالها التحديات العسكرية بالبحث عن وسائل لتأمين القوات العسكرية.

لا تنسب الأصول المحددة للخدمة العسكرية الإلزامية إلى فرد واحد أو أمة واحدة، واعتمدت بشكل مستقل من مجتمعات مختلفة ولأسباب متنوعة لا تنحصر فقط في القتال.

أول حالة مسجلة للتجنيد الإجباري كانت في مصر القديمة، وكان النظام يعرف باسم "شمات" ويشكل جزءاً مهماً من الهيكل الاجتماعي والتنظيم الحكومي في العصور الفرعونية ويستخدم كوسيلة لتأمين قوات الجيش وضمان الدفاع عن الدولة وحمايتها.

 


يفرض الشمات على الفرد البالغ والقوي تأدية خدمة عسكرية محددة لصالح الدولة تشمل الخدمة في الجيش لفترة معينة، وتنطوي على التدريب العسكري والمشاركة في حروب الدولة.

كان الجيش في العصور القديمة ينظم إلى وحدات عسكرية تعرف باسم "الفرقة الملكية"، وتتألف هذه الوحدات من جنود محترفين ومجندين إجباريين من الشمات، يشار إلى أن التجنيد الإجباري كان ينحصر في الطبقات الاجتماعية القوية والبالغين الأصحاء والأقوياء بدنياً لضمان قوة الجيش من خلال تجنيد القادرين على خوض المعارك.

وفي بعض الأحيان، كان الهدف من التجنيد الإجباري هو التزام العمل العام، مثل بناء المعابد أو حفر القنوات.

في الجانب الآخر من البحر المتوسط تعود إحدى أقدم الحالات المسجلة للتجنيد الإجباري لليونان القديمة، إذ كان يطلب من مواطني المدن مثل أثينا وإسبرطة الخدمة في جيش البلاد. وكان هناك نظامان مختلفان للتجنيد العسكري، وكانت الطبقة الاجتماعية والتقاليد تلعب دوراً كبيراً في تحديد هذين النظامين.

في إسبرطة، كان النظام يعرف باسم "أغيليا" Agoge وهو نظام تدريب عسكري صارم للشباب، يخضعون له من عمر سبع سنوات وحتى سن الـ30 ويمرون فيه باختبارات صارمة لا تهدف فقط لقياس اللياقة الجسدية، ولكن أيضاً لتحديد القدرات العقلية والروحية للفرد. وكان الأفراد الذين لم يتمكنوا من اجتياز هذه الاختبارات يواجهون عواقب اجتماعية قد تكون في شكل فقدان الحقوق السياسية أو عدم الاعتراف بالفرد كمواطن بالكامل في المجتمع. وكان الشباب الأفضل في التدريب في إسبرطة يصبحون جزءاً من الجيش المحترف المعروف باسم "هوبليتيا" Hoplites.

أما في أثينا، فكان هناك نظام ديمقراطي يسمح بمشاركة المواطنين في اتخاذ القرارات العسكرية، وكان التجنيد في العادة اختيارياً، لكن الفرد الذي يقرر عدم الالتحاق بالجيش يتحمل بعض العقوبات الاجتماعية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

امتلكت أثينا جيشاً محترفاً دائماً يتكون من الأثينيين القادرين على تحمل تكاليف العتاد العسكري والتدريب، وفي المقابل كانت هناك فترات تجنيد إلزامي للفلاحين لفترات محددة خلال الحروب أو الأزمات.

في بلاد الرافدين القديمة، لا يوجد دليل كبير على وجود نظام تجنيد إلزامي مشابه للنظم العسكرية الإلزامية التي ظهرت في بعض الحضارات الأخرى، ولكن كانت لديها قوى عسكرية مركزة تعتمد على المحاربين المحترفين والجيوش الملكية، واعتمدت الطبقة الحاكمة والأمراء على جيوشهم الخاصة، وغالباً ما ارتبطت الخدمة العسكرية بأغراض مقدسة ومحددة للطبقات الاجتماعية الريادية.

في أقصى الشرق، عرفت العصور القديمة أنظمة للتجنيد العسكري، لكنها لم تتبع نهجاً إلزامياً على نطاق واسع، ففي الصين مثلاً كان هناك نظام يعرف باسم "تشين" Qin وطبق في بعض الفترات التاريخية، بخاصة في فترة الدول المتحاربة (475-221 قبل الميلاد).

أما الهند القديمة فتكونت القوى العسكرية غالباً من محاربين وقوات خاصة تابعة للملوك والحكومات المحلية، أما في اليابان فكان النظام السائد هو "ساموراي"، وهم فئة مكونة من محاربين خدموا تحت حكم القادة العسكريين (شوغون) وقادة الأقاليم (دايميو) في فترات مختلفة. كانت خدمة الساموراي تعتبر تقليداً وفخراً شخصيين، ولكنها لم تكن تجنيداً إلزامياً للفرد.

بشكل عام تكونت القوات العسكرية في العصور القديمة في كثير من الأحيان من محاربين محترفين أو من الطبقات الاجتماعية الريادية، وغالباً ما ارتبطت الخدمة العسكرية بالرغبة الشخصية، أو بالالتزام الاجتماعي أو بالولاء للحكومة المحلية.

 


في العصر الحديث أصبح الاستخدام واسع النطاق للخدمة العسكرية الإجبارية أكثر انتشاراً خلال القرنين الـ19 والـ20، وأنشأ أول نظام شامل للتجنيد الإجباري على مستوى البلاد من الجمهورية الفرنسية في الحروب التي تلت الثورة الفرنسية، وكان نابليون بونابارت هو من أضفى عليه الطابع المؤسسي لما أصبح إمبراطوراً عام 1804.

صارت هذه الممارسة أكثر انتشاراً خلال الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية عندما نفذت دول عدة، بما في ذلك القوى الكبرى مثل المملكة المتحدة والولايات المتحدة وألمانيا والاتحاد السوفياتي، التجنيد الإجباري لتلبية متطلبات الصراعات واسعة النطاق. واعتمد التجنيد الإجباري في المملكة المتحدة لفترتين، الأولى بين عامي 1916 و1920، والثانية من 1939 إلى 1960 وترك آخر المجندين الخدمة في عام 1963.

الإلزامية لا تنحصر في الجيش

تاريخياً ظلت دول عديدة معتمدة نظام التجنيد الإلزامي لضمان استدامة القوات العسكرية وتعزيز قوة الدفاع الوطني، ومع ذلك مورس هذا المفهوم بأشكال مختلفة عبر الثقافات والفترات الزمنية المختلفة، ويختلف إدخال الخدمة العسكرية الإجبارية وإيقافها من بلد إلى آخر، وغالباً ما يتأثر بالظروف الجيوسياسية، وحاجات الأمن القومي، والمواقف المجتمعية تجاه التجنيد العسكري.

يستمر بعض الدول في تبني التجنيد الإلزامي باعتباره أساسياً للحفاظ على أمنها، بينما تختار دول أخرى الاحتراف والتطوع لتحقيق أهدافها الدفاعية والوطنية والمدينة الأخرى.

وتشمل الخدمات الإلزامية مجالات عدة أبرزها التجنيد الإلزامي الذي يشير إلى الخدمة العسكرية التي يستدعى المواطنون فيها بشكل إجباري، والخدمة الوطنية التي تستخدم للدلالة على الخدمة العامة التي تشمل التجنيد العسكري وغيرها من الخدمات الأخرى، والاستعداد العسكري ويعني التدريب والتحضير العسكري للفرد في إطار التجهيز للخدمة العسكرية، والخدمة العسكرية الشاملة التي تشمل فكرة تجنيد الجميع، بغض النظر عن الجنس أو العمر، والخدمة العسكرية المجتمعية التي تهدف إلى خدمة المجتمع في إطار تجنيد عسكري، والخدمة الوطنية الإجبارية التي تعبر عن فكرة إلزام المواطنين تقديم خدمة للدولة، والخدمة الوطنية المجتمعية التي تعني توجيه جهود المجندين نحو الخدمة المجتمعية بدلاً من التركيز الحصري على الجانب العسكري.

تبعات مختلفة

لا تزال فكرة التجنيد الإجباري تتسبب في جدل واسع، ويثار السؤال حول فعاليته وتأثيره في المجتمعات المعنية، بخاصة أنه يأتي مع تبعات متنوعة تختلف اعتماداً على السياق الثقافي والاقتصادي والاجتماعي.

على المستوى الفردي مثلاً، يمكن أن يشكل التجنيد تحدياً نفسياً للأفراد، فقد يواجهون تحولات حادة في حياتهم اليومية ويجدون صعوبة في التكيف مع الحياة العسكرية.

كذلك قد تتسبب التجربة في فصل الأفراد عن أسرهم لفترات طويلة، مما يؤدي إلى ضغوط على الحياة العائلية. ويمكن أن يعوق التجنيد فرص التعليم والتدريب المهني، بخاصة إذا كان الفرد في سن الدراسة أو في بداية حياته المهنية.

أما على مستوى المجتمعات، فيمكن أن يسهم في تعزيز توازن القوة العسكرية وضمان وجود جيش قوي للدفاع عن الدولة، وقد يؤدي إلزام الجميع بالخدمة العسكرية إلى تعزيز المساواة بين الطبقات الاجتماعية، إذ يلزم الجميع بالمشاركة على حد سواء، ومن الممكن أن يؤثر التجنيد في الاقتصاد بشكل مباشر من خلال كلفة تدريب ودعم الجيش، والتأثير في إنتاجية العمال المشاركين في الخدمة العسكرية.

أما على المستوى الإنساني فيثير هذا الموضوع قضايا حقوق الإنسان، بخاصة إذا طبق بشكل غير عادل أو إذا كان يعاني الفرد سوء معاملة أثناء الخدمة، إضافة إلى تأثيره المحتمل في زيادة حالات الهجرة للهرب من الخدمة العسكرية أو التأثيرات السلبية المحتملة.

تعتمد تبعات التجنيد الإلزامي على كثير من العوامل، بما في ذلك طبيعة النظام والسياسة والثقافة في البلد المعني، مثلاً لا يمكن مقارنة التجربة في كوريا الشمالية التي تفرض نظاماً إجبارياً على الرجال والنساء بفترة تصل إلى 10 سنوات مقسمة بين خدمتين عسكرية واحتياطية، مع تلك في نيوزيلندا (ما بين 14 و18 أسبوعاً) أو سويسرا (21 أسبوعاً) أو الدنمرك (4 أشهر).

 

 

وفي البلدان التي تفرض فترات تجنيد طويلة، قد يواجه المجندون إلى جانب التحديات السابقة، خطر اندلاع الحروب أو النزاعات التي تؤدي إلى استمرار الخدمة العسكرية لفترات أطول وتعريض المجندين للخطر والتأثيرات الهائلة.

في سوريا، مثلاً، شهد الصراع المستمر منذ عام 2011 الاحتفاظ بمجندين لمدد وصلت إلى تسع سنوات كان لها أثر نفسي واقتصادي مدمر على حياتهم وفرصهم في التعليم والعمل عندما عادوا للحياة المدنية في بلد منهك.

وبينما توجد دول تلزم مواطنيها بخدمة العلم لفترات طويلة، هناك دول أخرى صغيرة الحجم تتبنى نهجاً مختلفاً تماماً، إذ لا تمتلك جيوشاً رسمية أو نظامية، لأسباب مختلفة مثل الحياد أو ضمان الحماية الدولية أو القيود الدستورية أو النزعة السلمية.

وفي حين تختلف تلك الدول في حجمها وأمنها الداخلي، فإن بعضها لا يمتلك قوات مسلحة إطلاقاً مثل أندورا وكوستاريكا ودومينيكان وليختنشتاين والفاتيكان، وبعضها ليس لديه جيش نظامي ولكن قوة عسكرية غير شرطية مثل إيسلندا وموناكو وتونغا، وأخرى لا تمتلك جيشاً نظاماً ولكن محدوداً مثل هايتي وموريشيوس وسنغافورة.

عند الاطلاع على تاريخ التجنيد الإلزامي وأنواعه وتبعاته، ندرك تعقيدات هذا النظام وتأثيراته في الفرد والمجتمع، وبينما يظهر بعض الأشخاص استعداداً للتفاعل مع هذا الموضوع بروح الدعابة، يظل من المهم الإشارة إلى أن هذه القضية لها أبعاد جادة وتأثيرات في مستوى الأمن الوطني والتوجيه السياسي، لكن يبدو أن الشعب البريطاني اختار التعامل معها بروح من الفكاهة والسخرية وأسلوب مبتكر وغير تقليدي، ربما لأنه لا يشعر بجدية خطر الحرب المحتملة... حتى الآن.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات