ملخص
حمل المعلم طارق لوحه الخشبي، وأحضر أنصاف الطباشير، ونزل إلى ساحة المدرسة التي تحولت إلى مركز إيواء وهناك بدأ يشرح دروسه
نظر المعلم طارق العنابي إلى لوح خشبي كان قد أحضره معه من شمال غزة واصطحبه طوال رحلة نزوحه إلى جنوب القطاع من دون أن يتخلى عنه للحظة واحدة، وأخذ يفكر في حال الأطفال الذين انقطعوا عن الدراسة.
"كيف سيكون مستقبل الأطفال إذا استمرت الحرب، من المؤكد أنهم نسوا دروسهم في هذا الصراع" سأل المعلم طارق نفسه هذا السؤال، ثم نهض من مكانه وقرر العودة للعملية التعليمية بمفرده في محاولة منه للحفاظ على مستوى الطلاب الدراسي.
في ساحة المدرسة
حمل المعلم طارق لوحه الخشبي، وأحضر أنصاف الطباشير ونزل إلى ساحة المدرسة، التي تحولت إلى مركز إيواء يعيش فيها آلاف النازحين مثله، وقد لجأوا إليها هرباً من القصف الإسرائيلي والتوغل البري في شمال غزة.
بمجرد أن وضع المعلم اللوح في ساحة المدرسة تجمع حوله 10 أطفال انقطعوا عن مقاعدهم الدراسية، وجلسوا يراقبون طارق ماذا سيفعل، وقتها كان الأستاذ بدأ في إحضار بعض الكراسي الخشبية وصفها بطريقة منظمة أمام سبورته الخشبية الصغيرة.
على الفور جلس الأطفال على الكراسي، وبادلوا طارق الذي وقف أمامهم ابتسامات سريعة، خاطبهم المعلم قائلاً "ما رأيكم في العودة للدراسة، أنا أستاذ اللغة الإنجليزية، وسأعمل على مراجعة بعض الدروس معكم، دعونا نتجاهل الحرب، إن التعليم سلاحكم في المستقبل الذي أتمنى أن يكون مشرقاً وأفضل من هذه الأيام الصعبة".
بصوت واحد هتف الأطفال مع بعضهم "أهلاً بك يا معلمنا"، وبدا المشهد كأن بين الصغار وطارق علاقة وثيقة وقديمة، على رغم أنه يلتقيهم للمرة الأولى، لكنه برر ذلك بشغف الطلاب للتعليم.
حصة اللغة الإنجليزية
في ساحة المدرسة حيث تجمع الأطفال لأخذ أول حصة دراسية لهم على رغم الحرب، كان المشردون الذين نزحوا إلى المدرسة يواصلون حياتهم. يدخلون ويخرجون من غرف الفصول المعدة للدراسة وبعضهم يحمل عبوات ماء، فيما النساء كن يغسلن الملابس.
بينما كان طارق بدأ يكتب على السبورة "هل تحب فلسطين" باللغة الإنجليزية، وأخذ يقرأها بصوته ويطلب من تلاميذه الجدد قراءتها، رفع الأطفال أياديهم واختار منهم المعلم واحداً ليردد العبارة.
بعدها بدأ المعلم طارق يشرح القواعد في هذه الجملة البسيطة ويتأكد أن الطلاب على تركيز معه، ولم يشتت ذهنهم ما يجري حولهم من حركة النازحين أو صوت الطائرات الإسرائيلية التي تشن غارات جوية بشكل مستمر.
جو دراسي غير مناسب
كان الجو الدراسي غير مناسب، فالتعليم وسط ضوضاء النازحين يجعل من مهمة المعلم طارق بالأمر الصعب والمعقد، ويضطر أحياناً إلى رفع صوته كثيراً حتى يسمع التلاميذ ما يقول، وبعض الأوقات يعيد شرح الدروس مرات حتى يفهم الطلاب.
منذ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة توقفت العملية التعليمية بالكامل وحرم أكثر من 625 ألف طالب من مواصلة دروسهم، فيما اضطر أكثر من 80 في المئة منهم إلى النزوح من بيوتهم.
فكر المعلم طارق في تخصيص غرفة فصل دراسي في المدرسة لمواصلة تعليم الأطفال في جو يشبه التعليم في المدرسة، لكنه لم يجد أي مكان فارغ، إذ بسبب أعداد النازحين بات المرفق التعليمي مكتظاً بالأشخاص فوق طاقته وأضعافها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
زار طارق أكثر من مدرسة في وسط القطاع (محافظة دير البلح)، وانتقل إلى أقصى جنوبه نحو محافظة رفح، بحثاً عن مكان يخصصه لغرفة فصل دراسي في مدرسة، لكنه لم يجد أي زاوية فارغة، وكانت جميع المرافق التعليمية مكتظة بالنازحين.
في الواقع، تحولت جميع مدارس قطاع غزة سواء التابعة لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" أو التابعة لوزارة التربية والتعليم، إلى مراكز إيواء يعيش فيها نحو 1.8 مليون نسمة منذ 123 يوماً.
في الخيمة
على رغم هذه الصعوبات فإن المعلم لم يصب باليأس وشرح لتلاميذه الجدد بعض الدروس في ساحة المدرسة، حتى عرض عليه أحد النازحين استخدام خيمته لتعليم الصغار، بعد أن أعجب بفكرته.
بالفعل، انتقل المعلم برفقة تلاميذه إلى خيمة إيواء وأخذ يشرح بعض دروس اللغة الإنجليزية للتلاميذ من المرحلة الابتدائية، ويركز في بناء جمله التي يعلمها للطلاب على ما يدور في قطاع غزة.
وفرت الخيمة لطارق والتلاميذ جواً نسبياً من التركيز والهدوء، وأسهمت بطريقة ما في تحسين فهم الطلاب الدروس التي يشرحها معلمهم، وأخذ الأستاذ يلاحظ مدى انسجام الصغار معه أثناء الحصص التي يقدمها على فترتين الأولى في الصباح الباكر والثانية بعد الظهر.
جهد تطوعي
ما يقوم به طارق جهد تطوعي وليس عودة رسمية إلى التعليم. فقرار وزارة التربية والتعليم الفلسطينية لم يتخذ بعد بالعودة لمقاعد الدراسة، يقول "هدفي الحفاظ على استمرارية العملية التعليمية وتحسين مستوى الأطفال الذين توقفوا عن الدراسة بسبب الظروف الصعبة".
كان طارق معلماً في شمال غزة، وتوقف هو الآخر عن مهنته ونزح مع النازحين، لكن على رغم ظروفه عاد لممارسة عمله، يقول "على رغم عدم وجود بيئة مساعدة للتدريس، فإننا نعمل بما توفر لدينا من إمكانات من أجل خلق واقع بديل ومساعدتهم على مواجهة المستقبل".
فلسطين
وزع طارق على الطلاب لوحات خشبية صغيرة وطباشير بدلاً من الأوراق والأقلام غير المتوفرة، وبدأ يشرح لهم عن غزة وبعض المدن الفلسطينية، كما تطرق إلى مدينة القدس التي عليها صراع طويل بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لكن المعلم كان يقول للطلاب إنها عاصمة فلسطين.
يؤكد طارق أنه في هذه الظروف يصعب الحديث عن شيء آخر غير الحرب والصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، ويشير إلى أن الأطفال كل يوم يسألونه متى تنتهي الحرب ونعود إلى بيوتنا؟
في هذه الحرب قتل 3500 طالب، و203 موظفين بالتعليم، وفقاً لوزارة التربية والتعليم الفلسطينية، التي تؤكد أن مصيراً مجهولاً ينتظر الطلاب بعد انتهاء القتال وعودة الحياة إلى طبيعتها بسبب تدمير إسرائيل مباني المدارس.
يقول المتحدث باسم وزارة التربية والتعليم صادق الخضور "هناك تحديات كبيرة تواجه العملية التعليمية، منها نقص المباني وقتل المعلمين المؤهلين، إضافة إلى تدمير المواد التعليمية مثل المختبرات، فضلاً عن سوء الصحة النفسية للصغار، وهذا يجعل العودة للعملية التعليمية بعد الحرب أمراً مستحيلاً".