"قاتل مأجور" للأميركي ريتشارد لينكلايتر أضحى إحدى مفاجآت مهرجان البندقية السينمائي الأخير، ليس لأن مخرجه يقدم عملاً ممتازاً لأول مرة، بل لأننا لم نتوقع منه ضربة معلم بهذه الرشاقة بعد مجموعة أعمال لم تترك أثراً كبيراً. الفيلم أضحك الجمهور العريض وسحر النقاد وأقنع أصحاب الآراء الأكثر تشدداً. إلا أنه بعد عروضه في مهرجاني البندقية وتورونتو، تعرض لتعتيم، لأسباب يصعب فهمها. قد لا يتعلق الأمر بمؤامرة، بل فقط تجاهل من النوع المكرر والمنتشر بكثرة في السنوات الأخيرة، ويتعرض له عديد من الأعمال، في زمن أصبح فيه العرض أكثر من الطلب، ولا يتوفر مكان للجميع خصوصاً في قائمة الجوائز، التي باسم تمييز بعض الأفلام، تهمش أفلاماً أخرى. والطامة الكبرى في قضية "قاتل مأجور" تتجسد في إقصائه تماماً من ترشيحات مسابقة الـ"أوسكار" التي ستوزع في منتصف الشهر المقبل، هذا على رغم أن كثراً توقعوا أن يرشح غلين باول لجائزة أفضل ممثل عن دوره فيه، لكن الأكاديمية فضلت أفلاماً أخرى عليه، أحدها هو "باربي"، عمل ركيك حقق نجاحاً باهراً في شباك التذاكر.
مضحك وعميق ومجنون
الناقد جوردان رومي الذي حضر مهرجان البندقية في سبتمبر (أيلول) الماضي، كتب يقول تحت قوة تأثير اللحظة: "عرض الفيلم (قاتل مأجور) للتو، والمكان بأكمله أصيب بالجنون. هناك من أدهشهم عدم مشاركة هذا الفيلم في المسابقة. أخبرني أحد الحاضرين أنه فيلم "مضحك وعميق، كل ذلك في وقت واحد. تحفة سينمائية!" وهو لم يكن الوحيد الذي كان له هذا الرأي. ناقد آخر أخبرني أن الفيلم "أربكه" وأنه من أفضل ما أنجزه لينكلايتر في مسيرته. مزيج غير عادي من الدراما والكوميديا. كان التصفيق هو الأعلى في أي فيلم عرض حتى الآن في المهرجان".
موقع "ذي أتلانتيك"، نصح قراءه بمشاهدة "قاتل مأجور" ضمن قائمة تضم "22 فيلماً مثيراً تنبغي مشاهدتها في هذا الموسم". نقرأ في المقال المذكور: "مشاهد الشرطة خفيفة بما يكفي لتكون مضحكة، أما المشاهد المجنونة فهي سوداوية بما يكفي لإبقائك على حافة مقعدك". باختصار، كثر اعتبروا الفيلم رائعة سينمائية، لكن هذا لم يكن كافياً ليغزو الصالات وينال الجوائز. وهذا إن دل على شيء، فعلى عدم التعويل على الجوائز كمعيار لجودة أي عمل سينمائي. من الواضح إننا أمام حالة من الظلم التي يسعى بعض النقاد في الغرب إلى التخفيف من حدتها، عبر إطلاق تسمية "خروف أسود" على فيلم لينكلايتر، وهي تعني "عضو غريب داخل مجموعة"، فضلاً عن أن الفيلم لم يخرج حتى الآن إلى الصالات الأميركية، ومن المتوقع عرضه في السابع من يونيو (حزيران) من هذا العام على "نتفليكس" بعد أن قامت المنصة الشهيرة بشرائه بـ20 ميلون دولار (كلف الفيلم نصف هذا المبلغ)، في أكبر صفقة شهدها العام الماضي. ويقع هذا ضمن سياستها التي تطمح إلى جذب الأسماء الكبيرة. أما عرضه في الصالات في أميركا، فلا يزال غير أكيد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الفيلم مبتكر في أسلوبه، غني في مضمونه، متشعب في سرده. أما على مستوى الأجواء، فيمكن القول إنه لو قرر الأخوان كووين وكوانتن تارانتينو أن يتشاركا في تأليف عمل ما وإخراجه، لأصبح شبيهاً بهذا العمل الذي توفر مشاهدته متعة لا تضاهى، علماً أنها تأتي على جرعات، هذا لا يعني أن لينكلايتر قلد أحداً، بل على عكس ذلك، فالفيلم على قدر من الأصالة، بعيداً من التكلف والافتعال.
تجري الأحداث في نيو أورليانز، الرجل الذي سنتعرف إليه (غلين باول) أكاديمي يدرس علم النفس، وفي وقت فراغه يساعد الشرطة على توقيف الناس الذين على وشك ارتكاب جريمة. تقتصر مهمته على عرض خدماته كقاتل مأجور لمن ينوي التخلص من خصم أو زوج معنف أو غيرهما من الأعداء، فيستدرجهم مستخدماً أساليبه الخاصة. ولكن، ذات يوم، يقع في شباك امرأة لاتينية مغرية (أدريا أرخونا) تنوي قتل زوجها الذي يعنفها. عوضاً من تسليمها للشرطة جرياً للعادة، يرفض التعاون معها ويتركها تتابع طريقها، لكن طريقيهما ستلتقيان مجدداً، مما يشرع الباب لمجموعة من مفارقات وملابسات، يصورها لينكلايتر بخفة دم وروح مرحة ودعابة تفعل فعلها في المشاهد.
الممثل غلين باول الذي شارك في كتابة السيناريو المقتبس من مقال صحافي نشر في عام 2001، له دور كبير في إضفاء هذه النبرة على الفيلم، فهو يحمل على كتفيه الجزء الأكبر منه. إنه شخصية ساحرة، تستوفي كل شروط الكاريزماتية. أما النص ففيه ما هو ذكي ولماح، لا يكتفي بالحكاية بل يطرح في تفاصيلها ما هو أبعد منها.
بين التجريب والجمهور
يعتبر لينكلايتر (64 سنة) من أعلام السينما المستقلة في أميركا. ينتمي إلى تيار يمزج بين التجريب ومغازلة الجمهور العريض. عرف بأفلامه التي تجري أحداثها على مدار يوم واحد ومسرحها تكساس، ومشغولة بحكايات أشخاص من عمق الواقع الأميركي. اشتهر بثلاثيته التي تضم "قبل الشروق" و"قبل الغروب" و"قبل منتصف الليل" بطولة إيثان هوك وجولي دلبي التي قدمها بين عامي 1995 و2013. في "أمة الفاست فوود"، تناول مساوئ الوجبات السريعة على نحو غير مسبوق. في عام 2014، شاهدنا له فيلمه "صبا" الذي صوره على فترة 12 عاماً ليواكب مراحل تطور الشخصية. عرض الفيلم في مهرجان برلين السينمائي ونال "الدب الفضي". أما عمله ما قبل الأخير، "أبولو عشرة ونصف"، فوضعته مجلة "دفاتر السينما" في قائمة أفضل أفلام 2022.
في حوار مع موقع "ددلاين"، يرد لينكلايتر على سؤال عن السينما المستقلة، بعبارات تضمر مرارة: "أي مكان للفيلم السينمائي في ثقافتنا الممزقة اليوم؟ بالنسبة لي، هنا عمق الأزمة. الأمر لا يتعلق فقط بالسينما بل بالحياة العصرية. فهل يهتم أحد حقاً بأي شيء لدرجة دعمه، بما في ذلك، الديمقراطية؟ لنبدأ من هنا. هل ثمة نموذج جديد يلغي القديم، ولكن لا يستبدله بأي شيء مستقر، مثل توقف الإعلام عن العمل واستبداله بإعلانات النقرات الخادعة؟ هل يعد هذا خطوة إلى الأمام؟ لا أعتقد، هذا لا يخدم أحداً، هذا ليس لمصلحة الكتاب أو لمصلحة المجتمع. لماذا ندعمه إذاً؟ كلامي ينسحب على صناعة السينما أيضاً. دخلت شركات التكنولوجيا ميدان السينما، وانتقلنا من كون الفيلم فناً ذا قيمة، إلى محتوى تنقر عليه، لكن في النهاية، لا أحد سعيد بهذه الترتيبات الجديدة. حتى العاملون في مجال التكنولوجيا يشتكون بأنهم يخسرون مليارات الدولارات. أيعقل إنهم صنعوا لنا عالماً تكيفنا معه وهم ليسوا سعداء به؟!".