في حمأة الصراع بين جارين كبيرين، روسيا الاتحادية، وأوروبا الغربية، ممثلة بأوكرانيا، حيث تلتهم النيران الحجر والبشر، وتتهشم آمال الشعوب بأمان لم يطل عهدها به، بعد حربين عالميتين كبريين، كان الغرب الأوروبي مسرحهما الأكبر، وامتد إلى سائر بقاع العالم، يرتفع صوت بعض الكتاب والأكاديميين، معيداً الاعتبار إلى الغرب، باعتباره "موئل الثقافة الكونية" على حد ما ينقل عن الباحث فريديريك أوغست هايك، في كتاب الأكاديمي فيليب نيمو الفرنسي (1949)، المعنون "ما الغرب؟"، والصادر بترجمته العربية عن دار المركز العربي لأبحاث ودراسة السياسات. وقد أنجز الترجمة إلى العربية الأكاديمي المغربي مراد دياني، واستهل ترجمته بمقدمة نبه فيها القراء العرب إلى أنه، وإن كان ينقل بأمانة مقولات الفيلسوف الفرنسي في ما خص اعتباره أن "الديمقراطية الليبرالية ظاهرة غربية أساساً" (ص:13)، فإنه يدع للقارئ النبه فرصة مناقشة هذا الزعم، أو الاستخلاص المغلوط والمبالغ فيه، بناء للوقائع التي يوردها في الهوامش، متزامنة مع الآراء المبثوثة في صورة مسلمات انتهى البت فيها، وها أن دلائلها ماثلة في الواقع.
معجزتا الإغريق والرومان
في الفصلين الأول والثاني من الكتاب، يعلل الكاتب فيليب نيمو مسلمتين، على التوالي، الأولى ويطلق عليها تسمية "المعجزة الإغريقية"، والتي فحواها أن "المدينة" ولدت على أيدي الإغريق، دون غيرهم، وأن لهم فضلاً آخر لا يقل أهمية عن الأول، وهو أنهم وضعوا الأسس الأولى لقيام العلوم العلمية والنظرية، كما صارت إليها اليوم.
ويورد الكاتب، في سياق تسويغه المسلمة الأولى، ست سمات دالة على صحة نشأة المدينة، وهي على التوالي، تحول السلطة إلى شأن عام، وظهور ما بات يدعى المجال (أو الشأن) العام، وشيوع فن الخطابة وقد تلازم معه نشوء المنطق وسيادته على ما عداه، وتحقق المساواة بين المواطنين في المدينة اليونانية، وظهور الدين مسوقاً بالدولة، وحدوث التمييز بين ما ينتمي إلى الطبيعة وما ينتمي إلى القانون. وفي السياق عينه، يشير الكاتب نيمو إلى عدد من الإسهامات اليونانية الحاسمة في اجتراح المعجزة الأولى، ومنها تلازم نشأة المدينة مع ظهور العلوم، ولا سيما العقلية منها التي كان لها الفضل في إرساء "روح علمية" بات ينظر من خلالها إلى الوقائع المادية في الطب والرياضيات، والفيزياء، وعلم الحيوان، وغيرها وفقاً لمنظور الكاتب نيمو. يضاف إليها، إنجاز المدرسة "وهي ابتداع عظيم آخر سيرثه الغرب" (ص:36)، الذي يعود إليه الفضل في إعداد أجيال من التلاميذ، منذ جيل أرسطو أي القرن الخامس ق. ب، وإكسابهم المعارف في العلوم المتاحة في حينه، وتعليمهم القراءة والكتابة، بناءً على مستويات متدرجة، والتنويع في المواد، بين اللغة والأدب، والفلسفة والبلاغة، والطب، والرياضيات، وغيرها.
وبالطبع، يسهل لدارس الحضارات القديمة إدراك مقدار المغالاة في هذا الشأن، إذ إن المسار العلمي في بلاد ما بين النهرين، والحضارة المصرية، والهندية، كانت أسبق إلى الكشف العلمي، وبالروح العلمية المجردة التي سبقت الإشارة إليها.
أما المساهمة الرومانية في تكوين الغرب، على صورته المشرقة، كما شاءها الكاتب والفيلسوف الفرنسي فيليب نيمو، فتتجلى في بلورة روما - ولا سيما الفلاسفة الرواقيون فيها - قانوناً كونياً يتماشى مع كل الإثنيات التي كانت تحيا في ظل الإمبراطورية الرومانية الممتدة الأطراف، بعد أن كانت تعامل باستبعاد ودونية، على ما يفترضه. ويذهب بافتراضاته بعيداً، إذ يعتبر أن المذهب الإنسانوي الذي نعمت به الإنسانية، بدءاً من القرن الـ14 مع بترارك، ودانتي، وصولاً إلى الـ16 مع إيراسم، ومونتاني، ورابليه، وغيرهم، إنما يعود الفضل فيه إلى الحضارة الرومانية، دون غيرها.
الليبرالية الديمقراطية
ومما يدركه القارئ، لدى تصفحه الفصول اللاحقة، أن الفيلسوف نيمو ينسب إلى الديانتين الكتابيتين، اليهودية والمسيحية أفضالاً حاسمة، برأيه، في تكوين روح الغرب، وفلسفته، إن صح أن تكون كذلك. فيقول بما معناه إن الديانتين أرستا "أخلاقية الحب أو الرحمة اليهودية - المسيحية التي منحتنا أول حركة تأرجح لدينامية التقدم التاريخي" (ص:57). ولئن تخضع المقولة الأخيرة لكثير من الجدل، ولا سيما افتراض انطباقها على الجانب اليهودي من المعادلة لاتسام هذا الخطاب (اليهودي) المستمد من التوراة بكثير من العدوانية تجاه الآخر المختلف (الأمم) عرقاً وجغرافية وتاريخاً، بحيث يتناقض مع المحمول المسيحي الخالص الوارد في الإنجيل (قيل لكم/ أما أنا فأقول لكم، التطويبات)، فإن دمج الفيلسوف أفضال الديانتين ربما كان إقراراً منه بتصور الفيلسوف إيمانويل ليفيناس القائل إن وصايا الرحمة المسيحية إن هي ألا استمرار واستكمال لما ورد في التوراة.
ومن ثم يعرج الكاتب نيمو على ما يدعوه "رؤية جديدة للعالم" كانت الكنيسة الرومانية (الكاثوليكية) قد أعدتها من جماع تعاليمها حتى القرن الـ13، فيركز على الثورة البابوية، التي دعا إليها البابا غريغوريوس السابع، في أواخر القرن الـ11، والتي أعادت بموجبها المستوى الروحي إلى مكانته الأولى، قبل المستوى الزمني، وحرمت كل صور الفساد التي استشرت في حينه (زواج الكهنة، واستغلال الثروات المادية، واستغلال النبلاء نفوذهم لتعيين الكهنة، وعيش الرهبان حياة إباحية، وغير ذلك). وبالطبع، لم تكن هذه التدابير البابوية (أو الإملاءات) لتجعل العالم مسيحياً، وإنما أسهمت في إضفاء طابع روحي على ذلك العالم، وأدخلت إلى القوانين المدنية مزيد من الرأفة والقانونية.
وبالنظر إلى المعيار الروحي نفسه، الذي وضعه الكاتب نيمو، فإن اتجاهاً إلى اكتساب العلوم آخذ في النمو، فأنشئت بنظام كامل كليات للاهوت، والقانون الروماني، والكنسي، والطب، والفنون، على أنواعها. وفي السياق نفسه، يعزو النهضة العملية، في الغرب، إلى تطور في الفكر اللاهوتي بالعصور الوسطى، بحيث لم يعد العمل لعنة، وإنما صار أشبه بالدعوة الربانية، يلتزمها المؤمن ويؤدي بمقتضاها عمله على خير وجه. ويعتبر كذلك أن مأثرة البروتستانت لا تقل تحفيزاً للعمل من الثورات الفكرية السالفة، لأنها تقدس العمل، وتنظر إليه من منظار ديني بحت، على أنه تثمير للوزنات (الهبات، أو النعم، أو المهارات) التي أعطيت للمرء من باريه.
وفي الفصول الأخيرة من كتابه، أعني الثلاثة (5-6-7) الأخيرة من الكتاب، يتناول فيليب نيمو المسوغات التي تجعل من المعجزتين الخامسة (الديمقراطية الليبرالية) والسادسة (كونية الثقافة الغربية) خليقتين بوراثة الحضارة الحديثة، وينهي كتابه بفصل ثامن يبين فيه موجبات وضع العرب والمسلمين خارج إطار الحضارة الغربية، لأسباب وعوامل كان سبق له ذكرها.
ظاهرة الغرب
إن من يقرأ كتاب الفيلسوف الفرنسي فيليب نيمو، يخلص إلى أن الأخير تجاوز حدود الوصف الدقيق لظاهرة الغرب - هذا إن سلمنا جدلاً بوجود هذه الظاهرة بمعزل عن عواملها الكثيرة - مركزاً على إثبات مسلماته، من خلال أمثلة، بل عناصر يعتبرها متعلقة بالغرب الأوروبي دون غيره. وها هنا، يسعنا أن نطرح بعض التساؤلات في معرض تعليقنا على رؤية نيمو.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أولاً: لو كنا سلمنا جدلاً بكونية الفكر الغربي، في ما خص أفكار الثورة الفرنسية، والديمقراطية، والحرية الفردية، وغيرها، فهل يجوز حصر منافعها على الإنسان الأوروبي الغربي، دون غيره؟ ثم ألا تستدعي كونية الفكر الغربي انفتاحاً على سائر المذاهب والفلسفات والعقائد الأخرى في العالم، والتي تحمل في طياتها أفكارا كلية (كونية)، وهي كثيرة؟ أم أن اكتشاف الكونية في الفكر الغربي هو مجرد امتياز حصري، يعلي من شأن الانتماء إلى الغرب، والدعوة إليه، ليس إلا؟
ثانياً: لو صح نسبة الغرب إلى تراث الديانتين، اليهودية والمسيحية، بما تحملانه من دعوة إلى التراحم، والحب والرأفة - وهي فضائل ماثلة في التراث المسيحي بقوة، فيما يتضاءل ذكرها في التراث اليهودي سوى في المزامير والأناشيد وليس في التعاليم، برأينا - فكيف نفسر هذا التاريخ الطويل من الاستعمار الذي انساقت إليه الأمم الأوروبية، منذ القرن الـ16 إلى أواخر الـ20؟ فهل كان لمجرد تبشير الشعوب بالقيم الروحانية، أم لتحقيق مصالحها المادية البحتة؟ وبم نفسر الحربين العالميتين اللتين انطلقت شراراتهما من أوروبا الغربية، وأزهقت أرواح عشرات الملايين من مواطنيها، ومن كثير من بلدان المشرق، جوعاً واضطهاداً واستبداداً، وقتلاً، في سبيل سيطرة أحد طرفي النزاع؟ فهل خيضت دفاعاً عن القيم الإنسانية المسيحية، أم دفاعاً عن أنظمة سياسية وأيديولوجيات متشابكة مع أنظمة اقتصادية معينة؟
أياً يكن الأمر، يطرح الكاتب، والفيلسوف فيليب نيمو وجهة نظر سياسية يمينية في ما يفترض أن يكون عليه الغرب الأوروبي، وما على القراء سوى فهم أبعاد الآراء التي تحملها فئة من المدافعين عن صورة الغرب وما تكتنفها من مخاوف تأتيها، حينا من الشرق العربي (الإسلامي)، وحيناً آخر من الشرق المسيحي المتمثل بروسيا (الأرثوذكسية) غير الأوروبية. ولعل الحرب التي تخوضها روسيا ضد أوكرانيا خير مثال على تلك المخاوف المضخمة حتى الموت، أو الإماتة.
ولكن، أما من أفق لحوار الحضارات، وتلاقي الإرادات الحسنة بين الشعوب العريقة ذات التراث الفكري والفلسفي والديني الأقدم من التراثين اليهودي والمسيحي، من أجل إحلال سلام كوني، ينهض بالبشر أجمعين، لا بشعوب وأمم دون آخرين؟