ملخص
مع تزايد أزمات القارة الأفريقية المتوالية أخذت المنظمات الإقليمية في التفكك تزامناً مع التحولات السياسية والعسكرية في عديد من دول القارة وانعكاس آثارها على سكانها
مع تزايد أزمات القارة الأفريقية المتوالية وحدة تداعياتها، أخذت المنظمات الإقليمية في التفكك تزامناً مع التحولات السياسية والعسكرية اللافتة في عديد من دول القارة وانعكاس آثارها على سكانها. وجاءت هذه التغيرات مع عجز واضح للمنظمات عن تبني مقاربة وقائية لمواجهتها، حيث ظلت منذ استقلالها تمر بنزاعات مستمرة، وانقلابات عسكرية ومطالب بالانفصال، وتقسيم بعض الدول، وتدخلات قوات دولية تابعة للأمم المتحدة لحفظ السلام، وتنافس القوى الدولية وصراعها على المصالح في مواقع استراتيجية وغنية بالموارد الطبيعية، إضافة إلى تصاعد نمو الجماعات الإرهابية. وفي كل هذا، كان دور الاتحاد الأفريقي ضئيلاً، بينما لعبت المنظمات الفرعية الأخرى دوراً أكبر ولكنه مقيد أيضاً، مثل المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا "إيكواس"، والهيئة الحكومية للتنمية "إيغاد" في شرق أفريقيا، والسوق المشتركة لشرق وجنوب أفريقيا "كوميسا"، و"تجمع دول الساحل والصحراء" وغيرها. وظلت هذه المنظمات تعمل من دون تفويض كامل، واتفاق من دولها التي يتجاهل البعض منها بؤر تمركز النزاع، بينما تتناول أخرى الحروب في الدول الأعضاء بانتقائية، كما ظلت أسيرة لتجاهل السياق المؤثر على توظيف دورها وتحجيمه، وكفه عن المواجهة والسعي الجدي لحل الأزمات.
وبسبب التداخلات، يمكن ملاحظة نشوء عدد كبير من الهيئات والوكالات الإقليمية خارج نطاق هذه المجموعات الكبرى، تتولى مهام تتداخل وتتقاطع في ما بينها في كثير من الأحيان. وتضم كلاً من الجماعة الإنمائية للجنوب الأفريقي "سادك"، والجماعة الاقتصادية والنقدية لدول وسط أفريقيا "سيماك"، والاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب أفريقيا "إيموا"، وغيرها. وهناك أيضاً مجموعة من منظمات أحواض الأنهار، نشأت مع أزمات مياه حوض ونهر النيل. وتتميز هذه المنظمات في كثير من الأحيان بقدرات تنظيمية محدودة وسلطة فوق وطنية ضعيفة، ويمكن للدولة الواحدة في أي موقع من أفريقيا أن تنتمي إلى نحو ثماني منظمات وهيئات إقليمية مختلفة.
تجلي التغيير
بدأ تأسيس المنظمات في القارة الأفريقية مع فجر استقلال معظم دولها في ستينيات القرن الماضي، فقد أنشئت منظمة الوحدة الأفريقية عام 1963، وحتى تحولها إلى الاتحاد الأفريقي عام 2002، كانت تعمل على آمال ما بعد التحرر من الاستعمار والوحدة في الحكومات الوطنية. وبعد عقود حلت محل ذلك حقبة جديدة من المواجهة والصراع الأيديولوجي، وظهرت أفكار "إمبريالية" ذات صبغة أفريقية متأثرة بـ"الإمبريالية" العالمية، أثرت على القوميين الأفارقة. تجلى التغيير في طبيعة السياسة الأفريقية من المثالية الحالمة إلى السياسة الواقعية الصارمة، بوضوح أكبر بعد مرور عقود عدة، في الشلل الحالي الذي يعانيه الاتحاد الأفريقي و"إيغاد" وغيرها من المنظمات، كما تجلت في انهيار "إيكواس" بقرار النيجر ومالي وبوركينا فاسو الانسحاب من عضوية التكتل، كنتيجة لما عدوه ممارسة ضغوط من قبله عليهم وفرض عقوبات قاسية للعودة إلى المسار الانتخابي.
ذلك يشير إلى أن شعارات التعاون والتكامل الإقليميين نتيجة لتبعات المسار التاريخي لمرحلة ما بعد الاستعمار، وحاجة آباء الاستقلال المعنوية، أما بعد تقسيم الحدود وتقاطع المصالح، وظهور الاختلافات الإثنية والأيديولوجية، إضافة إلى نشوء هوية سياسية تخضع للمساومات، بدأ التفاوض على مبدأ احتكار القوة داخل الدول وبين الدول والمنظمات الإقليمية المختلفة. وعليه برز التداخل في العضوية حتى أصبحت تتجاهل الأسباب التي دفعت البلدان إلى إنشاء منظمات إقليمية. ونتيجة لذلك، فإن توازن القوى الداخلية وولاءات الدول الأعضاء اختلفت كثيراً عن مبادئ التأسيس، ثم بدأ انفراط عقد هذه المنظمات بعد ظهور دول مهيمنة بسبب قوتها الاقتصادية أو موقعها الاستراتيجي، مما يمنحها قدرة كبيرة على التأثير في الديناميات الإقليمية من خلال تعزيز أو عرقلة جهود الكتلة.
انقسام المنظمات
لقد سلطت الأزمة في السودان وغيره من الدول الأفريقية الضوء، بين قضايا أخرى، على عدم فعالية المنظمات الإقليمية مثل الاتحاد الأفريقي، و"إيغاد"، والمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) وغيرها. فالاتحاد الأفريقي الذي تنضوي تحته نحو 55 دولة، الذي كان ينبغي له أن يتحرك بأقصى قدر من الإلحاح لوقف إراقة الدماء والعنف نتيجة النزاع في السودان، لم يفعل إلا أقل القليل ومتأخر للغاية حتى إنه عهد به لـ"إيغاد". كان هناك افتقار واضح للوحدة والإجماع بين الدول الأعضاء لإدانة النزاع في السودان الذي وقع في أبريل (نيسان) الماضي. ومع أن الأمر لم يستغرق سوى أسبوعين لتقديم "إيغاد" مبادرتها التي تضمنت مقترحات لحل الأزمة بتمديد الهدنة المفروضة لمدة ثلاثة أيام، وإيفاد ممثلين عن القوات المسلحة وقوات "الدعم السريع" إلى جوبا عاصمة جنوب السودان، ولكن لا تزال تحركات "إيغاد" غير مجدية، وفقدت بعض فعاليتها بالاتهامات التي وجهها لها رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش السوداني عبدالفتاح البرهان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويبدو أن المنظمات مثل "إيغاد" قد فشلت في إظهار أي روح تضامن مع السودان، ومن خلال عدم التصرف في الوقت المناسب، فقد سمحت لنزاعات مناطق أفريقية عدة بأن تتفاقم إلى حد أن الحل المناسب للأزمات قد لا يتحقق قريباً. وهناك حقيقة كان يتم مداراتها لزمن طويل، وهي انقسام المنظمات الأفريقية في شأن قضايا القارة، فمنظمة "إيغاد" منقسمة ما بين الجيش وقوات "الدعم السريع". وفي حين دان المجتمع الدولي بشدة حملة النهب والقتل التي تمارسها قوات "الدعم السريع" ضد السكان المدنيين، فقد امتنع زعماء "إيغاد" عن الإدلاء بتعليقات بهذا الخصوص.
ومع ذلك، فهذه ليست المرة الأولى التي تثبت فيها "إيغاد" أنها كيان انتقائي، كما كشفت أزمة النيجر ومالي عن افتقار "إيكواس" إلى الإجماع داخل الكتلة عندما دعم بعض الأعضاء جهود الأمم المتحدة لتحقيق استقرار الوضع في هذه الدول، في حين ظل البعض الآخر غير ملتزم به.
تفضيل نظم ديكتاتورية أو شبه ديمقراطية؟
على رغم وجود هذه المنظمات التي أنشئت لأهداف مختلفة، لكن ظلت أفريقيا مسرحاً للتحديات السياسية والأمنية والاقتصادية والبيئية، كما أن الأزمات التي لم يتم حلها بين الدول وداخلها، خلقت عقبات أمام الأمن الإقليمي، والتكامل الاقتصادي في ما بينها. وكبديل لها، ظهر لاعبون دوليون مثل الصين وروسيا وتركيا وإيران، وظهر التنافس واضحاً بين هذه القوى من جهة، والقوى الغربية في مقدمها الولايات المتحدة والمستعمرون السابقون من الدول الأوروبية من جهة أخرى. ويتراوح الدور الغربي بين الانسحاب التكتيكي والتركيز على بعض المناطق لاعتبارات عدة، مما أحدث آثاراً تمثلت في إحداث فراغ أمني بسبب سحب القوات التابعة لهذه الدول، سواء كان ذلك طوعاً أو بضغوط من الحكومات الانقلابية مثلما حدث في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، حيث استغل الرؤساء الانقلابيون في هذه الدول النزعة الإقليمية لتعزيز أمن النظام الداخلي، ولكن نسبة للجفاء بين الرؤساء الجدد والمنظمات الإقليمية خصوصاً "إيكواس"، فإنهم لم يستطيعوا التوافق معها مما نتج منه قرارهم بالانسحاب منها، خصوصاً بعد تلويح المنظمة بالتدخل العسكري فيها. وكانت هذه الدول محسوبة على فرنسا والقوى الغربية قبل انقلاباتها وتراجع نفوذها في أفريقيا.
ولم يكن السبب في خروج الدول الثلاث، هو حرص المنظمة على أن تكون عضويتها محصورة فقط في الدول الديمقراطية، إذ إن المنظمات الإقليمية، ساعدت في تعزيز بقاء عدد من الحكومات الاستبدادية بتوفير الموارد واستراتيجيات البقاء، ومواجهة المنافسين في أفريقيا، إضافة إلى تحسين صورة هذه الدول ومحاولة تشبيكها مع المنظمات الدولية الفاعلة وحصولها على رضا الغرب، الذي أصبح يفضل نظم ديكتاتورية أو شبه ديمقراطية ولكن مستقرة، على دول ديمقراطية ولكن تعاني اضطرابات سياسية وأمنية. فالأولى يمكن تمكينها وتحفيزها للتحول نحو الديمقراطية، ومراعاة حقوق الإنسان، وسيادة القانون من مجرد معاهدات إقليمية إعلانية، لا سيما أن بعض الدول ترضخ لهذه المطالب لاحتواء العوامل الخارجية السلبية المؤدية إلى فقدان الاعتراف الدولي بها، وحتى لا تفقد أشكال الدعم المختلفة.
مسارات الحلول
يرى مراقبون أن دور الاتحاد الأفريقي في الأزمة السودانية ونظراً إلى الديناميات المعقدة القائمة، باعتباره أحد الميسرين للطريق نحو حل الأزمة، فإنه يتعين عليه مراعاة مسارات الحلول الإقليمية، لا سيما أنه مشارك ضمن مبادرات إقليمية عدة، فينبغي مراعاة حالة التوتر بين مصر وإثيوبيا، ومراعاة الانقسام العربي- الأفريقي حول الأزمة. فبينما تدعم واشنطن الوساطة المؤدية إلى وقف إطلاق النار وتمرير المساعدات الإنسانية وصولاً إلى السلام، فإن "إيغاد" اقترحت في وقت سابق تدخلاً عسكرياً لاحتواء الأزمة، مما أدى إلى نفور قادة الجيش من الحلول المطروحة من قبلها. وهو ما لم تؤيده الأمم المتحدة أو المنظمات الأفريقية الأخرى، واستبدلت تلك الخطوة بالضغط على طرفي النزاع، وكذلك على الجهات الفاعلة الإقليمية للامتناع عن دعم أي منهما.
على مدار أعوام عدة، ظل التعاون مع المنظمات الإقليمية الأفريقية راسخاً في مناطق النزاعات، لكنه لم يكن تعاوناً تحدد الفائدة منه بشكل استراتيجي، وظلت جهود المنظمات غير محورية في سياق التعاون الاقتصادي أو طرح الحلول السياسية، كما أثبتت قصورها عن حل أزمات التنمية ومنع النزاعات والهجرة والنزوح. ولهذا وغيره من الأسباب كان موقف الدول المنسحبة من "إيكواس" لافتاً، لكن ما هو أكثر من ذلك بداية فقدان المنظمات الإقليمية الأفريقية دورها المنوط بها باتخاذها "شركاء مركزيين" في حل أزمات عدة، ولمواجهة التدخلات الدولية.