ملخص
لا تجاري بريطانيا مثيلاتها من الدول الأوروبية في مجال إنقاذ حياة مرضى السرطان، فما السبب؟
أظهر تقرير صدر حديثاً عن "مؤسسة بحوث السرطان في المملكة المتحدة" (CRUK) أن المملكة المتحدة تسجل المعدلات الأعلى في مجال النجاة من السرطان، ولكن لا تتسرعوا في الاحتفال بهذا الخبر السار الآن، لأنه بالنظر إلى التقدم المحرز في مجال البقاء على قيد الحياة بعد الإصابة بالسرطان، نجد أن البلاد قد تخلفت إلى أدنى معدل لها منذ 50 عاماً. ففي العقد الأول من القرن الـ21، كانت الزيادة في التقدم أسرع بنحو خمس مرات مما كانت عليه خلال العقد الثاني من القرن عينه.
وأعربت ميشيل ميتشل، الرئيسة التنفيذية لـ"مؤسسة بحوث السرطان في المملكة المتحدة"، عن قلقها من أن معدل تحسن نسبة النجاة من السرطان قد تباطأ في السنوات الأخيرة، فيما يواجه مرضى السرطان اليوم فترات انتظار غير مسبوقة تتركهم مهمومين ومحبطين قبل الخضوع للاختبارات والعلاجات المطلوبة". وتضيف: "يصاب شخص واحد تقريباً من أصل شخصين في مختلف أنحاء المملكة المتحدة بالسرطان في حياته. ويتزايد عدد الحالات الجديدة سنوياً. عليه، فإن التغلب على السرطان يتطلب وجود قيادة سياسية حقيقية، ولا بد من أن يشكل أولوية [في أجندات] كل الأحزاب السياسية قبل الانتخابات العامة المقبلة في بريطانيا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وإذ ننظر إلى البيانات الصادرة عن التقرير في شأن السرطان في المملكة المتحدة، نجد أن متوسط الزيادة السنوية في احتمال النجاة من السرطان طوال 10 سنوات أو أكثر قد لمس نسبة مذهلة بلغت 2.7 في المئة في الفترة الممتدة بين عامي 2000 و2001، وبحلول 2018، تراجع المعدل إلى 0.6 في المئة، بمعنى آخر: على رغم أن الوضع ما زال يتحسن، بيد أن سرعة التحسن انخفضت بصورة كبيرة. وبطبيعة الحال، وكما هي الحال في أي مجال يعتمد التقدم فيه على التطورات المستمرة، لا بد من وجود فترات صعود وهبوط. ولعل الجانب الأكثر إثارة للقلق أن المملكة المتحدة تقبع خلف دول أخرى مماثلة.
وأشارت "الوكالة الدولية لبحوث السرطان" (IARC) و"منظمة الصحة العالمية" في توقعاتهما إلى أن عدد حالات السرطان في المملكة المتحدة سيقفز بنسبة 37 في المئة ليبلغ زهاء 625 ألف حالة بحلول عام 2050، علماً أنه معدل مذهل يفوق متوسط الزيادة المتوقعة في أوروبا بنسبة 22.5 في المئة، ويفوق المعدلات المسجلة لدى كثير من دول الجوار الأوروبية القريبة منا.
عموماً، يبقى أسلوب الحياة سبباً جزئياً من أسباب الإصابات، فبحسب الدكتورة باناغيوتا ميترو، مديرة قسم البحوث والسياسات والابتكار في "الصندوق العالمي لبحوث السرطان" World Cancer Research Fund، "يمكن الحيلولة دون حدوث 40 في المئة تقريباً من حالات السرطان"، مضيفة أن "تقاعس حكومات المملكة المتحدة المتعاقبة عن إعطاء الأولوية للوقاية من هذا الداء ومعالجة عوامل الخطر الرئيسة التي تقف وراء الإصابة بالسرطان، مثل التدخين، والأنظمة الغذائية غير الصحية، والسمنة، واستهلاك الكحول، والخمول الجسدي، قد أدى من ناحية إلى اتساع فجوة التفاوتات الصحية بين السكان".
ومعلوم أن التدخين ما زال السبب الرئيس للإصابة بالسرطان في المملكة المتحدة. فالسجائر تسبب 150 حالة سرطان يومياً، في مؤشر صارخ على عدم المساواة بين السكان، إذ يسكن أفقر المناطق في إنجلترا نحو ضعف عدد الحالات مقارنة مع أغنى المناطق، ولكن معدلات الإصابة بالسرطان تختلف عن معدلات النجاة منه. ومن البديهي أن الوقاية خير من العلاج، ولكن عند إصابة شخص ما بالمرض تبقى المملكة المتحدة متخلفة عن الدول الأخرى المرتفعة الدخل بالنسبة إلى خفض معدل الوفيات.
في دراسة دولية كبيرة نشرت في مجلة "لانسيت" عام 2019، عملت "الشراكة الدولية لتقييم معدلات السرطان" على تحليل بيانات خاصة بـ3.9 مليون مصاب بالسرطان بين عامي 1995 و2014 في سبع دول، هي: أستراليا وكندا والدنمارك وإيرلندا ونيوزيلندا والنرويج والمملكة المتحدة. نظرت الدراسة في التغيرات التي شهدتها حالات سرطانات المريء والمعدة والقولون والمستقيم والبنكرياس والرئة والمبيض، ومعدلات النجاة منها. صحيح أن معدلات البقاء على قيد الحياة تحسنت في مختلف السرطانات السبعة في المملكة المتحدة، بيد أن البلاد تسجل أدنى معدلات البقاء على قيد الحياة لجميع هذه السرطانات باستثناء اثنين منها (سرطان المبيض وسرطان المريء).
ولكن لا يعزى ذلك إلى أننا عالقون في مكاننا في ما يتصل بالاكتشافات العلمية، بحسب ما أخبرني البروفيسور آلان هاكشو، مدير "مركز تجارب السرطان" التابع لـ"كلية لندن الجامعية". يقول في هذا الصدد: "بعض الأدوية الجيدة جداً. والوضع أفضل كثيراً مما كان عليه سابقاً. مثلاً، كان علاج سرطاني الرئة والجهاز الهضمي محدوداً قبل 10 سنوات، أما الآن ففي جعبتنا مجموعة علاجات قادرة على تعزيز البقاء على قيد الحياة لمدة ستة أو 12 شهراً. حالنا جيدة لأن في متناولنا كثيراً من هذه الأدوية الآن، وفي إنجلترا، فإن "المعهد الوطني للتميز في الرعاية الصحية أو "نايس" NICE [الهيئة التي تضع تقييمات للتكنولوجيات الصحية الجديدة بغية استخدامها في مؤسسات "هيئة الخدمات الصحية الوطنية" NHS] يعمل بجد على إجازة استخدام الأدوية الجديدة سريعاً.
ومع ذلك، حتى مع "نايس"، المعروف عموماً بالكفاءة وتقديم نتائج فاعلة من دون كلفة كبيرة، تتبدى بعض المشكلات. مارك ميدلتون، رئيس قسم الأورام وبروفيسور في طب السرطان التجريبي في "جامعة أكسفورد" الإنجليزية، يتحدث عن إنجاز طبي يتمثل في علاج جديد للأورام الميلانينية في العين طورته شركة على مقربة من أكسفورد. في الوقت الحاضر، يستخدم العلاج على نطاق واسع في الولايات المتحدة وبقية دول أوروبا، ولكننا هنا في المملكة المتحدة ما زلنا نتباحث في إمكانية استخدامه من عدمها. أخبرني: "إنها صورة مصغرة عن أن الأمور تتحرك بشكل أبطأ قليلاً هنا. ليس هذا انتقاداً بالضرورة، فنحن في حاجة إلى توفر رعاية صحية مجدية إنما ذات كلفة معقولة، وليس إلى علاج في مقابل أي ثمن، ولكن ينبغي أن نتوخى الحذر بعض الشيء كي لا يؤدي هذا المسار إلى حرمان الناس من فرص العلاج".
ويقول البروفيسور هاكشو إن المعرفة العلمية في هذا المجال ما انفكت تتنامى، مستشهداً باكتشاف أن سرطانات عدة لا تشكل فئة واحدة بل تحددها طفرات وراثية، مع وجود أدوية مستهدفة تتناسب مع كل نوع منها. وبالمثل، يوافق البروفيسور ميدلتون على أن المملكة المتحدة تحقق تقدماً مثيراً في الابتكارات التكنولوجية المتطورة، مثل الجراحة الروبوتية.
إذن، أين يكمن الخطأ إذا كانت البحوث تحقق قفزات إلى الأمام وتقدم لنا علاجات أفضل؟ لا تتوفر إجابة سهلة، ولكن البروفيسور هاكشو يعزو التباطؤ في التقدم إلى عاملين رئيسين: التأخر في التشخيص وفي وضع العلاجات الجديدة حيز الاستخدام. ويقول إن "مجموعة بحوثنا مبهرة جداً، ولكن وصول علاج ما إلى مرحلة الاستخدام العملي عند التأكد من نجاعته يكون بطيئاً أحياناً. تتفاوت إمكانية الاستفادة من خدمات ووسائل التشخيص في صفوف المرضى المحالين لعلاج السرطان، وعندما يكشف التشخيص إصابتهم، لا يكون الحصول على الأدوية والعلاجات الحديثة ذات الفاعلية الكبيرة بالدرجة التي ينبغي أن يكون عليها".
في فترات تخلفنا عن الركب وفي فترات أخرى لحقنا بها وقد تميزت الفترات الأولى بتوظيف الاستثمارات في السرطان ووجود خطة
البروفيسور مارك ميدلتون، جامعة أكسفورد
في الحقيقة، "يشكل المرضى أنفسهم جزءاً من السبب وراء التأخر في تشخيص الإصابة بالسرطان، إذ لا يسارع الناس دائماً إلى زيارة الطبيب عندما يواجهون الأعراض. يوضح البروفيسور هاكشو أن "الناس للأسف ما زالوا يعتقدون أن السرطان بمثابة حكم بالإعدام، وهذا الافتراض يدفع البعض إلى تجاهل الحقيقة عمداً. حظي السرطان بمتابعة إعلامية جيدة طوال عقود عدة بغية جذب اهتمام الناس. وقد أدى ذلك إلى توفير مبالغ ضخمة بغرض تمويل البحوث، ما قاد إلى تطوير مجموعة كاملة من العلاجات الشديدة الفاعلية، ولكن عامة الناس لم يستوعبوا هذه المعرفة. مثلاً، يظن المدخنون تلقائياً أنه لا يتوفر أي علاج، ولكن الشفاء من سرطان الرئة في المرحلة المبكرة منه يسجل معدلاً مرتفعاً هذه الأيام".
ويضيف البروفيسور هاكشو أن "المعرفة العلمية تتقدم بسرعة، والمهم الآن التأكد من أن الناس ونظام الرعاية الصحية يواكبانها".
وتتسبب الصعاب التي تواجهها المملكة المتحدة في التوظيف في حدوث تأخيرات أيضاً، مما يؤدي إلى بعض أسوأ أوقات الانتظار المسجلة. يقول البروفيسور ميدلتون: "في مؤسسات "هيئة الخدمات الصحية الوطنية" عدد كبير من الوظائف الشاغرة، من بينها وظائف للممرضين والممرضات واختصاصيي الأشعة". صحيح أنه لا يستخدم كلمة "بريكست" تحديداً، ولكن بالقراءة بين السطور، يبدو أن خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي ترك تأثيراً سلبياً لا ريب: "على المستوى الدولي، تبقى المملكة المتحدة وجهة محتملة أقل جاذبية بالنسبة إلى العمال، لا سيما في قطاع الرعاية الصحية. لقد اعتدنا وجود كثير من الموظفين الأوروبيين، ولكن تغيرت هذه الحال في السنوات القليلة الماضية".
كذلك كانت خطواتنا بطيئة في تبني الابتكارات، سواء في مجال الأدوية أو التحاليل الطبية أو التقدم التكنولوجي أو الطرق الجديدة لتسيير الأمور، خصوصاً بالمقارنة مع البلاد الأخرى. ويقول البروفيسور ميدلتون: "أحياناً، مرد ذلك إلى المال، وأحياناً أخرى إلى العقلية والثقافة السائدتين. نظام الرعاية الصحية لدينا مركزي، لذا سيكون دائماً أبطأ مما لو كان أكثر تطوراً".
ربما لا يبدو التخلف قليلاً عن ركب الدول المتقدمة الأخرى سبباً للقلق في الوقت الحالي، ولكن المشكلة أنه سيزداد سوءاً مع ارتفاع حالات السرطان. وأرقام الحالات ستتصاعد طبعاً. ومن المتوقع أن تصل المملكة المتحدة إلى نصف مليون تشخيص سنوياً بحلول عام 2040، أي بزيادة قدرها 20 في المئة تقريباً مقارنة مع الأرقام المسجلة اليوم. ومن المتوقع أن تستمر معدلات الوفيات في الخفض، ولكن عندما يرتفع المعدل الإجمالي بهذا القدر، فإن عدد الوفيات سيزداد بشكل مطرد بأي حال. وتتوقع بحوث نهضت بها "الوكالة الدولية لبحوث السرطان" و"منظمة الصحة العالمية" أن ترتفع وفيات السرطان في المملكة المتحدة بنسبة 53 في المئة بحلول عام 2050.
ومن المفارقات إلى حد ما، أن الارتفاع في حالات السرطان يرجع في جزء كبير منه إلى نجاحات تحققت في مجالات أخرى، إذ ترانا نعيش سنوات أكثر وتتهددنا الوفاة بسبب أمراض القلب بشكل أقل. "جميعنا سنفارق الحياة بسبب ما"، كما يقول البروفيسور ميدلتون. "إما بسبب السرطان أو مشكلات تلاشي صحة" أجسامنا، بما في ذلك الخرف. إذا تأخرنا ولو قليلاً في ما يتصل بتحقيق التقدم، سيترك ذلك عواقب وخيمة على صحة السكان، وعلى إنفاق ميزانيتنا المرصودة للصحة. إذا نجحنا في زيادة الإنفاق على رصد وعلاج حالات السرطان القابلة للعلاج في مراحلها المبكرة، سيكلفنا ذلك أموالاً أقل كثيراً من المبالغ التي نصرفها على رعاية المرضى الذين يتعذر علينا علاجهم".
ولكن لم يفت الأوان بعد: ففي المتناول تدابير عدة تساعد المملكة المتحدة على اللحاق بالركب وسد الفجوة في مسار التقدم. وتدعو" مؤسسة بحوث السرطان في المملكة المتحدة" إلى إنشاء مجلس وطني للسرطان، يكون مسؤولاً أمام رئيس وزراء البلاد، بغية وضع استراتيجيات طويلة المدى. تقول صوفيا لويز، مديرة أولى لمعلومات السرطان في المؤسسة: "يعترينا قلق أيضاً من حدوث عجز بقيمة مليار جنيه استرليني في تمويل البحوث. لذا على الحكومة أن توظف هذا المبلغ طوال السنوات الـ10 المقبلة كي تجاري الإنفاق الحالي على السرطان لكل حالة."
المعرفة العلمية تتقدم بسرعة والمهم الآن التأكد من أن الناس ونظام الرعاية الصحية يواكبانها
البروفيسور آلان هاكشو، كلية لندن الجامعية
يعتبر التمويل جزءاً لا يتجزأ من التقدم في النجاة من السرطان، كما يوافق البروفيسور هاكشو، الذي يصف كيف تحول سرطان الثدي من "سرطان رهيب" إلى "سرطان قابل للشفاء غالباً"، وذلك بفضل استثمار مبالغ ضخمة [في البحوث وتطوير علاجات]. وعلى نحو مماثل، أدت زيادة الأموال المخصصة من أجل بحوث سرطان الرئة إلى تطورات مبهرة في الأعوام الأخيرة.
ويوضح البروفيسور هاكشو أن "توفير مزيد من الأموال من أجل علاج أمراض سرطانية يستعصي علاجها حالياً، مثل أورام الدماغ، سيكون خطوة بالغة الأهمية في الحفاظ على الزخم اللازم. وسيثمر الوصول السهل إلى الفحوص والتحاليل الطبية التشخيصية المبكرة فائدة كبيرة أيضاً".
ولكن ربما تكون القيادة القوية العامل الأكثر أهمية في تحقيق النجاح، ولكن المملكة المتحدة تفتقر إليها في الوقت الحالي. ويفيد البروفيسور ميدلتون: "في فترات تخلفنا عن الركب وفي فترات أخرى لحقنا بها وقد تميزت الفترات الأولى بتوظيف الاستثمارات ووجود خطة. وفي أواخر تسعينيات القرن الـ20، كنا نستفيد من كليهما، ولكن يبدو واضحاً أن الأحوال المالية لم تعد كما كانت آنذاك. لا يمكننا الاستمرار في التهليل من أجل الحصول على مزيد من المال، ولكن لا بد من وجود القيادة الواضحة وتحديد أولوياتنا".
© The Independent