ملخص
"غريب الوجه واليد واللسان" في عالمنا العربي... كيف وجد الناقد السينمائي نفسه في المأزق الصعب؟
يعيش النقد السينمائي غربة مزدوجة في العالم العربي. الأولى من لدن الباحثين أنفسهم، بحيث لا يسعون في ما بينهم إلى تأسيس جمعية أو مركز يسهم في تثمين علاقتهم الكبيرة بالسينما وصناعتها، وهو أمر يحضر في أجناس أدبية أخرى مثل الرواية والقصة والشعر. وكأن الكتابة عن السينما في نظر بعض المهرجانات مجرد حديث صحافي عابر على هامش المهرجانات والأفلام.
أما الغربة الثانية فتتمثل في أن حضور الناقد داخل هذه المهرجانات السينمائية يتراجع يوماً بعد يوم. فهو في نظر كثير من المهرجانات العربية شخص "مزعج" ينتقد البرامج وأفلام المخرجين والـ"ماستر كلاس" من دون أن يقدم بديلاً فنياً عن نقده، بل إن المهرجانات تتعمد تحاشي الناقد ولا تدعوه، لا إلى المشاركة في قراءة فيلم سينمائي وتقديمه، أو فتح حوارات مع المخرجين، بل عدم دعوته بالمرة لحضور المهرجان.
بهذه الطريقة يجد الناقد السينمائي نفسه في مأزق صعب. إما أن يسهم في تثمين برامج المهرجانات حتى لو كانت تافهة فيكون مدعواً للحضور بين النجوم وأحياناً يعد من المكرمين. أو يظل محافظاً على مواقفه ونقده لكل ممارسة هشة تحسب على السينما فيكون بذلك مهمشاً ومقصياً ومنفياً.
غياب الاهتمام المؤسساتي
لا توجد مؤسسة سينمائية عربية واحدة تدعم الناقد وتعمل على تكريسه باعتباره أحد صناع الفعل السينمائي. ومرد هذا التهميش إلى ارتباك الوعي بمفهوم الناقد ودوره في تجميل الحياة السينمائية عبر ما يطرحه من آراء ومواقف، بل إن هذه المؤسسات الفنية تعتبر عمل الناقد يدخل ضمن الإعلام والصحافة، ومن ثم لا يربط السينما أية علاقة به إلا من جانب التعريف بالأعمال. وكأن جان لوك غودار وفرانسوا تروفو لما كانا يكتبان عن السينما الفرنسية في إطار التنظير لبراديغم "الموجة الجديدة" كان يهمهم التطبيل والإشهار للفيلموغرافيا الفرنسية، بل إن قراءة دراسات هذين الناقدين وغيرهما تضمر البعد الفلسفي الذي يظلل مفهوم العملية النقدية.
كتب غودار عشرات الدراسات مبرزاً قوة النقد، لا في تقريب عملية الفهم بالنسبة إلى المشاهد وشرح قصة الفيلم وأنسجته الحكائية وعلاقتها، بقدر ما كان همه الأساس يتمحور في إمكانية اجتراح أفق فكري للصورة السينمائية.
وكانت غالب الأفكار التي جاءت بها هذه الجماعة تشكل منعطفاً قوياً بالنسبة إلى عدد من المخرجين السينمائيين. أي إن الممارسة النقدية ليست هامشاً على السينما ومتخيلها، كونها يمكن أن تغدو مختبراً بصرياً بالنسبة إلى المخرج.
في خضم العشرات من المهرجانات السينمائية التي تشهدها المنطقة العربية. غالباً ما يكون الناقد مجرد أكسسوار، إذ ليس غريباً أن تكون هناك ندوة حول النقد السينمائي بمشاركة روائي أو شاعر أو ممثل في حين يغيب الناقد السينمائي. فكل شيء ممكن في عالم عربي يفقد السيطرة على أي شيء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتدفع السطحية بعض المنظمين أحياناً إلى اختيار نجوم يجلبون لهم الأضواء والجماهير في حين يبقى المحتوى هشاً وضعيفاً. فعن أي مشروع نقد سينمائي نتحدث ونحن لا نزال نلخص النقد في عملية تعريفية؟ المؤسسات الفنية نفسها تزيد في غربة الناقد لأنها لا تريد أحداً أن يجادلها. فهي من تفرض السينما التي تريد والنجوم الذين يستحقون أن يكونوا في لجان المهرجان. وكلما حضر مخرج أو ممثلة داخل مهرجان ما يصبح بطريقة أو بأخرى مكرساً في باقي المهرجانات. وهذا شيء يدل على التبعية العمياء ومحاكاة الآخر من دون التفكير في ما يقدمه للمجتمع من نظام معرفي وصناعة جمالية.
يقول الناقد السوري علي سفر "على النقد السينمائي أن يتأسس في فضاءات المناهج النقدية، وأن يتم الفصل بين النقد الدعائي الذي يمهد لحضور الأفلام على الشاشات، والنقد الذي يغوص في قراءة الأفلام والأساليب والتجارب المتراكمة للمخرجين، وربط الفعل السينمائي كعملية تبدأ من السيناريو وتنتهي عند المشاهد بالفضاء العام الذي تنتج فيه. الحديث عن مهام النقد وجوهر المفهوم لا يزال شائكاً حتى اللحظة، وهذا تجد همومه في كتابات النقاد الرواد، إذ لا يزال السؤال عن فاعلية النقد السينمائي حاضراً في كتاباتهم، فضلاً عن أسئلة جوهرية أخرى لا تقل أهمية عن هذا، كالسؤال عن ديمومة الإنتاج السينمائي في الظروف الحالية للمنطقة، وهل رسخت السينما العربية نفسها، بتعددها القطري والإقليمي، في المشهد الوطني والعالمي؟ والحديث عن السينما المستقلة، وغيرها من الأسئلة الملحة دائماً".
أين المونوغرافيات السينمائية؟
حين نتحدث عن غياب الكتابة عن السينما لا نقصد بذلك المجهودات الكبيرة التي يقوم بها عدد من النقاد يومياً داخل الصحف والمواقع والمجلات. وإنما نعني الأبحاث الأصيلة التي يمكن أن ينجزها هؤلاء النقاد أنفسهم بدعم من المؤسسات. فحتى الساعة لا توجد منح مادية مخصصة للنقاد أو لقاءات خاصة تقام بشكل مركزي داخل هذه المهرجانات، إن من شأن ذلك أن يسهم في تكثيف مجهوداتهم وتصويب رؤاهم وتوجيهها نحو قضايا وإشكالات، وهذا الأمر لا يستقيم من خلال كتابة عابرة وآنية تستجيب لليومي ومساحة العمود الصحافي، بل ينبغي التفرغ الكلي لكتابة مونوغرافيات نقدية تفكر في السينما من وجهة نظر فكرية.
على هذا الأساس، يعتبر الناقد سليمان الحقيوي في كتابه "الخطاب السينمائي"، أنه "ما دام النقد غير مرحب به، ويستقبل بخفوت لا يقارن بالتصنيف الذي يستقبل به الإبداع. ويتعرض النقد دوماً إلى نقد، فهو مرتبط بكل مستويات الثقافة الحديثة، بل ويمثل أساساً من أسس الفكر العصري. لكنه تعرض للتشكيك وللطعن، وأقيمت له مناسبات لنزع المشروعية عن مناهجه وأساليبه".
وإذا كان النقد السينمائي عملية فكرية قبل أن تكون نقدية. فهو عبارة عن خطاب فكري يفكر بالصورة السينمائية في علاقتها بالمونتاج والموسيقى والتصوير وأداء الممثل وغير ذلك، كما أنه خطاب لا يظل حكراً على المشهد السينمائي ولقطاته الفنية، بل يفكر أيضاً في قضايا برانية على السينما مثل التلقي والجمهور والإنتاج والكتابة.
من ثم تعتبر أهم الكتابات النقدية هي تلك التي تستلهم مناهج العلوم الإنسانية ونظيرتها الاجتماعية بكل نظرياتها ومفاهيمها، من خلال العمل على بلورتها على مستوى التفكير لحظة الكتابة، وذلك بحكم أن الصورة السينمائية تتخذ طابعاً تركيبياً يجعلها مفتوحة ومشرعة على مختلف التأويلات، إذ على رغم التحولات التي باتت تطبع النقد السينمائي الغربي في ارتباطه بمختلف أشكال المعرفة المعاصرة، لا تزال بعض النماذج النقدية العربية انطباعية تحكمها دوافع وصفية لا تحليلية، لذلك فإن النقد عبارة عن خطاب فكري إلى جانب كونه يسهم في بناء المعنى، ويمتلك خصوصيته في التفكير على مستوى إنتاج المعرفة.