ملخص
فيلم يطرح أسئلة حول هوية الإنسان ومظهره والفرق بين الداخل والخارج
فيلم عن الاختلاف، ولكن من دون جرعات زائدة عن التسامح وقبول الآخر، تواصلت به ظهر أمس عروض أولى أفلام المسابقة، داخل مهرجان برلين السينمائي الرابع والسبعين الذي يستمر إلى 25 الشهر الجاري. هذا العمل الفريد، الذي يحمل عنوان "رجل مختلف" سبق أن شارك في مهرجان ساندانس الأخير، وهو من إنتاج شركة "أي 24" الأميركية المستقلة التي فرضت نفسها مؤخراً في المشهد السينمائي. وكنّا قد شاهدنا من إنتاجها العام الماضي في الـ"برليناله" فيلماً بعنوان "حيوات سابقة" لسيلين سونغ. هناك بصمة وشيء مشترك في الأعمال التي ولدت من رحمها، ويصح القول أيضاً أنها أعمال مختلفة بقدر اختلاف العمل الذي نحن في صدد الحديث عنه. أما الإخراج، فتولّاه أرون شيمبرغ، في ثالث مرور له خلف الكاميرا.
تتمحور الحكاية على إدوارد (سيباستيان ستان)، أربعيني يعاني من تشوّه في وجهه، نتيجة اصابته بمرض الورم العصبي الليفي. حياته عزلة ورفض. هل تتذكّرون "الرجل الفيل" في فيلم ديفيد لينتش الشهير؟ هو شبيه به، لكن، إدوارد لا يقبل بهذا المصير، ولذلك يخضع لجراحة تغيير الوجه. يعمل إدوارد ممثلاً في أدوار ثانوية وكليبات إرشادية سخيفة. وما أدراكم ما الشكل بالنسبة لممثّل؟ لكنه، بعد التحول، سيعيش الكثير من التغييرات في محيطه، لا سيما نظرة الآخرين له، وطريقة تعاملهم معه. ومع ذلك، فجوهر ما يعيشه وما يختبره سيبقى هو هو، بل ستزداد معاناته، لكن في إتجاه جديد.
لحسن الحظ، أن لإدوارد جارة (ريناته رنسفه) تعمل على مسرحية وتبدي اهتماماً غريباً به. عندما يصبح له مظهر جديد، يشعر بالإجحاف أن مظهره القديم هو الذي فاز بالدور الذي كان يحلم به في مسرحيتها، وهذا من خلال شخص اسمه أوزفالد (آدم بيرسون) يعاني ما كان يعاني منه، لكن النجاح حليفه. والأنكى أن المسرحية التي يلعبها أوزفالد مستوحاة من حياته السابقة، لذلك يصبح هذا الممثّل الذي يلعب دوره، هاجسه. هنا تبدأ الأزمة التي يحاول الفيلم طرحها، على طريقته الخاصة جداً، مفكّكاً مقولة أن أصحاب الجمال ينالون الفرص أكثر من غيرهم.
الهوية الإنسانية
جمال الفيلم أولاً في كونه ينطوي على أسئلة كثيرة حول هوية الإنسان، مظهره، الفرق بين الداخل والخارج، وهو محمّل بالهواجس التي يتشربها المُشاهد بأحاسيسه وحواسه من دون أن يعطينا أي محاضرة أخلاقية، بل بالعكس، كل شيء يمر عبر الحبكة التي هي بعيدة جداً عن أن تكون درساً في كيفية التعاطي مع الآخر. صحيح أننا نتعاطف مع البطل في محنته، ونشفق عليه في بعض الأحيان كذلك، لكنه ليس نموذجاً للطيبة وحسن السلوك.
ماذا يتغير فينا اذا امتلكنا وجهاً آخر؟ هل نبقى على حالنا، وهل من الممكن التحكّم بطريقة تلقّي الآخرين لكينونتا؟ هل نحن سذج لدرجة الاعتقاد بأن الهوية مجرد صورة تنعكس في مرآة أو في عيون الآخرين؟ هذه بعض الأفكار التي تخطر في البال ونحن نتابع فصول هذا الفيلم الوجودي الذي يتفادى الوقوع في فخ التنميط والميلودراما، بل يحملنا إلى مناطق "بورلسكية" في بعض الأحيان، مع إقحام حس الطرافة فيه وإشباعه بالكوميديا السوداء التي تقف على حدود اللا صواب السياسي من دون أن يتجاوزها بالضرورة. هذا يجعل من "رجل مختلف" مادة لا يمكن قبضها على محمل الجد، ومع ذلك لا يوجد أكثر جديةً من الموضوع المطروح. هذه المفارقة هي التي تمد الفيلم بخفّة يمكن قبولها بسهولة، لأنها تحض على التفكير، وتمنع تخدير العقل لتفعيل المشاعر، وثمة فصول تذكّرنا ببعض أعمال الأخوين كووين.
على مستوى الشكل والمعالجة البصرية، للفيلم شخصية قوية غاية في التعقيد والبساطة في آن واحد، وقد التُقِطت مشاهده بالشريط السينمائي الخام، ممّا يميزه عن الكثير من الأعمال المعروضة في المهرجان. هذه القماشة تتناسب تماماً مع أجواء الفيلم وموضوعه والفوضى الخلاقة التي نشهدها على مدار ساعتين. نيويورك شخصية حاضرة بقوة في الفيلم، لا يصوّرها شيمبرغ بطريقة تقليدية، بل يلتقط نبضها بحس جمالي خاص، على خلفية موسيقى جاز تعكس دواخل الشخصية وصدى تجربتها عند المُشاهد.
هذا لا يعني أننا أمام تحفة سينمائية، بل عمل طموح يملك الكثير من الجرأة كي يقول "هذا أنا، شئتم أم أبيتم"، ويشق طريقه بعيوبه وميزاته من دون أن يكترث لأحد. الممثّلون الثلاثة الذين يأتون من ضفاف مختلفة، هم الأميركي من أصل روماني سيباستيان ستان، والنرويجية ريناته رنسفه والبريطاني آدم بيرسون. هؤلاء حيناً يصيبون وحيناً يخيبون، وأداؤهم لا يتطور على خط واحد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من المتوقع ان يأخذ الفيلم طابع الـ"مانيفستو" أو البيان العصري لقضية التعامل مع الجمال في السينما، وهي عادةً، معبد الجمال والسحر، انطلاقاً من التفكير في مكان المصابين بإعاقة داخل الصورة، وإسناد دور البطولة إليهم، كي لا يبقوا مجرد شخصيات في الخلف. المخرج نفسه كشف في المؤتمر الصحافي أمس، أنه وُلد بتشوهات في الوجه، لكنه خضع لجراحات تجميل لازالة تلك الشوائب. واعترف أيضاً أن أسئلة متعلقة بالجمال رافقته طوال حياته، خصوصاً في ما يخص الإعاقة وكيف صنعت تلك الإعاقة هويته، وتساءل مراراً ماذا كان قد تغيّر في حياته لو لم يولد على هذا الشكل.
اضطر شيمبرغ إلى اختيار ممثّليَن، أحدهما يلعب دور رجل مصاب بالمرض، وهو فعلاً صاحب وجه مشوّه (آدم بيرسون) والآخر ممثّل عادي لكنه يلعب هذا الدور (سيباستيان ستان). والسبب خلف ذلك هو أنه قيل له إن الاستعانة بممثّل ذي إعاقة تُعتبر نوعاً من الاستغلال، فيما الاستعانة بممثّل سليم ليلعب دور مشوّه، فهذا يتعارض حتماً مع فكرة الفيلم القائمة على التجسيد والحضور ونبذ الرأي المسبق. لذلك وجد أن الحل الأمثل هو إعطاء الفرصة لكليهما للظهور على الشاشة.
آدم بيرسون الذي انطلق قبل نحو عشرة أعوام في فيلم "تحت الجلد" لجوناثان غلايزر، وهو ممثّل ومذيع وناشط ضد التمييز، قال إن الجمهور أذكى ممّا نعتقد وإن فيلماً جيداً يغيره، فيما قد يغيّره إلى الأبد، فيلم ممتاز. أما سيباستيان ستان، الذي يلعب دور إدوارد، فلم يستطع إخفاء استيائه وهو يرد على صحافي نعت شخصيته بـ"الوحش"، خلال المؤتمر الصحافي، بالقول: "عليك أن تختار مفرداتك بشكل أفضل. جزء من أهمية الفيلم يأتي من حقيقة أننا غالباً لا نعرف استعمال الكلمات المناسبة".
المفارقة ان إدوارد يواجه المشكلة نفسها عندما ينعت أحدهم زميله أوزفالد بـ”الوحش” في الفيلم، لكنه يتعامل معه بطريقة أعنف بكثير، وهذه حكاية أخرى نترك للمُشاهد متعة اكتشافها في حال تسنّى له مشاهدة “رجل مختلف” عند نزوله في الصالات التجارية.