Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

توني موريسون حددت بدايات التمييز العنصري في "رحمة"

الكاتبة الأفرو ـ أميركية نجحت قبل رحيلها في كتابة روايتين أخريين إذ عدلت نظرتها القديمة إلى العبودية

توني موريسون "كلوي أنتوني ويلفورد" [1931 – 2019] (أ ف ب)

ملخص

كان يمكن النظر إلى أميركا باعتبارها حقاً فردوساً حتى وإن كان الواقع الاجتماعي سرعان ما سيجعل منه "فردوساً مفقوداً" كما ستخبرنا موريسون في "رحمة" فكيف كان ذلك؟

عندما أصدرت توني موريسون الكاتبة السوداء الأميركية الوحيدة الحاصلة على جائزة نوبل الأدبية (1987)، رواية "رحمة" أو "نعمة" وإن كانت ترجمات كثيرة للرواية قد فضلت أن تعنونها بـ"هبة"، وكان ذلك في عام 2009 قبل رحيلها عن عالمنا بعقد كامل من السنين، كان يحلو لها على سبيل المزاح لا أكثر أن تعلن خشيتها من أن تكون تلك الرواية التي حملت الرقم تسعة بين رواياتها، آخر ما تكتبه من روايات.

ولقد بدأ تعبيرها عن تلك الخشية حين كتب ناقد نيويوركي من أصدقائها أن الرواية تبدو وكأنها "حركة ختامية في سيمفونية طويلة كانت افتتحتها بتمهيد روايتها الأولى (أكثر العيون زرقة) التي مهدت للتالية (محبوبة)". ومن المؤكد أن تعليق موريسون نبع من استخدام الناقد الترقيم، كما للإشارة إلى البعد السيمفوني متذكرة تلك "اللعنة" في عالم الموسيقى التي فحواها الخوف من تلحين سيمفونية تلي التسعة (على خطى بيتهوفن وماهلر وغيرهما) باعتبار أن التاسعة تعلن عادة ختام إبداع الفنان الكبير، بل حتى ختام حياته.

نشاط السنوات الأخيرة

نعرف إذاً أن الكاتبة الأفريقية - الأميركية الكبيرة كانت تمزح فهي كانت في صحة جيدة ولا تزال قادرة على العطاء، بل إنها عاشت أعوامها الـ10 الأخيرة في نشاط تحسد عليه: روايتان أخريان، وتدخل مسرحي من خلال اقتباس لافت وبديع لـ"أوثيلو" (عطيل) شكسبير يركز، من موقع نسوي تحديداً، على محبوبته ديدمونة، وتدخل سياسي أيضاً من خلال دعم متأخر لبيل كلينتون تمثل بخاصة في انتقاد حاد لمن دانوه بصدد "فضيحة مونيكا" خلال رئاسته، ثم دعماً لانتخاب باراك أوباما رئيساً للبلاد "ليس لأنه أسود، بل لأنه بدا لي كحال كلينتون نفسه، واحداً من المثقفين الكبار المتنطحين ليكونوا سادة للبيت الأبيض"، كما راحت تقول مؤكدة أنها لولا تعرفها إلى أوباما ومناقشته في أمور عديدة نقاشات أدهشها فيها ذكاؤه وثقافته ولطفه، لكانت اختارت هيلاري كلينتون للترشيح الديمقراطي مكانه. ومهما يكن من أمر أكدت موريسون مراراً وتكراراً أنها لم تكن هي التي بادرت إلى إعلان مساندتها لأوباما "بل اتصل بي عدد من أصدقائي الذين كانوا من العاملين معي في عالم النشر واقترحوا عليَّ لقاءه بطلب منه".

رئيسان ورواية واحدة

والواقع أن في وسعنا اليوم بعد خمس سنوات تقريباً من رحيل توني موريسون أن نربط واحدة من أقوى روايات سنواتها الأخيرة، بنظرتها إلى ذينك الرئيسين الكبيرين اللذين اعتبرتهما من أفضل من حكم الولايات المتحدة منذ جون كينيدي. والرواية التي نعنيها هنا هي تحديداً تلك التي خارج إطار "مزحة" السيمفونية التاسعة، أعلنت نوعاً من إعادة نظر لافتة في واحدة من المشكلات التاريخية الكبرى التي كانت موريسون تعالجها في كتاباتها الروائية وغير الروائية أيضاً: مشكلة العبودية التي نجدها ماثلة منذ "أكثر العيون زرقة" وتاليتها "محبوبة" قبل أن تتعمد الكاتبة تغييبها أكثر وأكثر تدريجاً في تركيز على أمور جديدة عديدة مثل وضع المرأة والتفاوتات الاجتماعية وصولاً إلى نوع من سبر لا يخلو من استفزازية لصراعات أجيال لدى "السود" أنفسهم أسفر دائماً عن استسلام لواقع قاد الأجيال الجديدة قسراً إلى العنصرية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الوجود الحاسم لذلك التضافر بين العنصرية والعبودية، والذي يشكل نقطة القوة في رواية "رحمة" بدأ مع حلول القرن الـ18 كما تخبرنا توني موريسون في هذه الرواية. قبل ذلك كان يمكن النظر إلى أميركا باعتبارها حقاً فردوساً بالجديد الذي جاءت به إلى العالم حتى وإن كان الواقع الاجتماعي سرعان ما سيجعل منه "فردوساً مفقوداً" كما ستخبرنا موريسون في "رحمة" وفي عديد من الحوارات التي أجريت معها من حول "رحمة". فكيف كان ذلك؟

بالنسبة إلى الكاتبة لم يكن الفردوس مكتملاً، فقد كان الأميركيون يقترفون موبقات كثيرة لكن التمييز العنصري لم يكن من بينها حتى وإن كانوا يمارسون إحراق السحرة وإبادة الهنود. فكان العالم الأميركي الشمالي يمثل تهديداً دائماً. تقول موريسون مضيفة: "لكن الطبيعة كانت كريمة وكان الرزق يصل إلى الجميع وبخاصة إلى الأيدي العاملة والخاضعة على أية حال لنوع أبوي من العبودية وكما كانت الحال في أنحاء عديدة من العالم ومنذ فجر التاريخ. فالعبودية كانت وستبقى وإن بمستويات أقل حدة مما جابهه السود كشكل من أنماط الإنتاج والتوزع الطبقي، لكن الفارق هو أن العبودية في بدايات أميركا الشمالية كانت تشمل السود لكن كثراً من الأوروبيين وغير الأوروبيين البيض أيضاً من الذين كما حال السود الأفارقة كانوا ينتزعون من أحضان أهلهم ويرسلون إلى العالم الجديد حيث الوفرة والفرص والخيرات المتدفقة".

 

لذا ترى موريسون هنا أن المأساة والقطيعة الكبرى في التاريخ بدأت حين راحت تبرز الفروق بين السود والبيض، إذ حتى ولو ظلت أعداد هؤلاء هائلة فإن كثراً منهم راحوا يندمجون في المجتمعات حتى حين يهربون من عبوديتهم ليلقوا في الكنائس البيضاء الملاجئ وفرصاً لهم باختبائهم فيها خلف لونهم، فيما رفاقهم في التعاسة يفضحهم لونهم، مما خلق ذلك التفاوت بين الفئتين، واحدة منهما راحت تندمج وتحصل على ما يميزها من حماية وفرص، فيما الثانية بقيت أسيرة تكوينها الجسدي.

عبيد بيض

هنا لا يفوت موريسون أن تشير إلى دنو المكانة الاجتماعية للعبيد البيض "الذين كانت لهم غالباً وفي بداياتهم على أية حال، مواقع تليق بهم كلصوص محرومين وعاهرات وتجار متجولين، لكن لونهم ودينهم وما إلى ذلك، سيساعدهم على الاختفاء في التاريخ وقد جعلهم ذلك التاريخ جزءاً من الأمة أكثر وأكثر". وهكذا "اختفوا تماماً في المكان وفي الزمان ونسوا هم أنفسهم وجودهم كعنصر مكون لتاريخ الأمة، لأنهم باتوا جزءاً منسياً من تلك الأمة" تقول موريسون التي تضيف أنها إنما أرادت في روايتها "رحمة" أن "تعيد أولئك القوم إلى التاريخ الأميركي" لكن ليس بقصد تحميلهم ذنباً ما، أو الحط من شأنهم، بل للتذكير بأن وجودهم في العبودية كان هو ما أسبغ على العبودية طابعها الطبقي الاجتماعي، أما خروجهم منها فإنه كان هو مما جعل العبودية وبصورة عامة، لصيقة بالآخرين: السود، من ثم اندمجت العبودية بالعرقية لتنتج ما سيكون نوعاً شديد القسوة من التمييز العنصري. "والحقيقة أنني إنما أردت في (رحمة) أن أعيد هذه الحقيقة التاريخية إلى واجهة الصورة وتحديداً من خلال حركة التمرد المنسية الآن تماماً حتى من كبار المتخصصين بالأدب والتاريخ الأميركيين".

بدايات التمييز

وتعود توني موريسون، في روايتها "رحمة"، بقرائها إلى ولاية فرجينيا المعتبرة إحدى الولايات المؤسسة لتلك الأمة وتحديداً إلى عام 1676. ففي ذلك العام السابق مباشرة على الأحداث المروية في الرواية، اندلع تمرد هائل قامت به مجموعات من "صغار البيض" وهو التمرد الذي عرف تاريخياً بـ"ثورة بيكون" وهي في الحقيقة ثورة قام خلالها بضعة آلاف من البائسين البيض لكن إلى جانب أعداد أقل من الهنود الحمر والسود غايتها الاستيلاء على الحكم في الولاية، غير أن الثورة فشلت وتمكنت السلطات بدعم من جنود ومرتزقة جيء بهم من ولايات مجاورة، من اعتقال كثر من القائمين بها وحاكمتهم لتحكم على معظم السود والهنود من بينهم بالشنق. وكان من نتيجة ذلك أن أصدرت السلطات التشريعية في فرجينيا تلك القوانين التي طاولت بخاصة الفئات السوداء والهندية.

كما راحت القوانين تنص على منع أي أسود من أن يحمل سلاحاً ولو كان مدية، وأي هندي من أن يقتني أي سلاح ناري، ناهيك بما سيكون أكثر خطورة، إذ إن تلك القوانين أفتت بأنه يمكن لأي أبيض أن يقتل أي أسود بنفسه مهما كان شكه ضئيلاً في العثور على سبب يبرر ذلك. وكان من نتيجة ذلك أن فرضت السلطات من أعلى، ما اعتبر أول تمييز عنصري في تاريخ تلك الأمة.

المزيد من ثقافة