كثيراً ما تحينت الفرصة لأكتب عن ديوان "ماضي الأيام الآتية" للشاعر أنسي الحاج الذي تحتفل الأوساط الشعرية اللبنانية والعربية بالذكرى العاشرة لرحيله (1937 - 2014). هذا الديوان الفريد في مسار الشاعر نفسه وفي مسار الشعر الحديث عرف حالاً من " العزلة "، على خلاف الدواوين الأخرى التي توالى صدورها منذ عام 1960 تاريخ نشر "لن"، الديوان الأول الذي قلب خريطة الشعر العربي المعاصر وأحدث ثورة في اللغة الشعرية، وكان بمثابة حجر الصوان الذي انطلقت منه شرارة قصيدة النثر العربية، كتابة ونظرية.
ربما وقع "ماضي الأيام الآتية" الذي صدر عام 1965 ضحية الصخب الذي أحدثه "لن" الذي بدا طالعاً من صميم اللغة العربية، ومقدمته الباهرة التي قد لا يصدق القارئ أن واضعها شاب في مقتبل الـ20، شاب ما لبث أن أصبح شاعر القصيدة العربية الجديدة التي افتتحت عصراً لم يكن مألوفاً من قبل.
ووقع هذا الديوان ضحية شعر الحب الذي تجلى عند أنسي الحاج في ديوانه "ماذا صنعت بالذهب، ماذا صنعت بالوردة؟" (1970) وقصيدته النشيدية الطويلة "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع" (1975)، منتقلاً بالقصيدة الغزلية العربية إلى فضاء العشق الذي يمتزج فيه البعد الحسي والروحي امتزاج الحبر بالماء، وفيه يغدو الحب حافزاً على إعادة اكتشاف العالم عبر رؤية العين العاشقة والولهى ومواجهته والانتصار عليه (ماذا صنعت...)، وعلى الخلق التخييلي للكينونة والحياة نفسها انطلاقاً من إكسير الحب السحري (الرسولة...).
الصرخة والتراجيديا
حل "ماضي الأيام الآتية" في مرتبة "البين بين" زمنياً وليس شعرياً في مسيرة الشاعر، فهو متفرد تفرد سائر أعماله. وأقصد هنا بين زمن الهدم والبناء اللذين جسدهما "لن" و"الرأس المقطوع" وزمن قصيدة الحب الجديدة كما في ديوان "ماذا صنعت..." وزمن النشيد المستعاد حداثياً كما في "الرسولة..."، بل إن هذا الديوان بدا أشبه بـ"المرحلة الوسيطة" التي تلتقي فيها شعرية اللعنة والهدم، وشعرية الاختبار العشقي والصوفي و"الكينوني".
في هذا الديوان تصب هواجس صرخة "لن" وتراجيديا "الرأس المقطوع"، ومنه تنطلق ملامح القصيدة الآتية، قصيدة الحب التي اكتسبت مواصفات متعددة، من القصيدة المتهادية غنائياً التي تنصهر في باطنها جمالية التوتر، إلى القصيدة الغنائية الملحمية التي تبلغ تخوم النشيد المغرق في سديم التأويل الديني ساعية نحو أفق التكوين الجديد.
ولعل مرتبة "البين بين" هي التي منحت "ماضي الأيام الآتية" خصائصه الشعرية والأسلوبية واللغوية، حتى غدا كأنه يؤسس تجربة شعرية مختلفة ومتآلفة في الحين نفسه، في رحاب التجربة "الأنسية" المتقطعة والمتداخلة في مراحلها، كما في عتباتها وخواتمها. هذا ديوان يستحق أن يقرأ على حدة بصفته تجربة متفردة بذاتها كما في لغتها ومجازيتها وتلاوينها الأسلوبية. وقد تكمن هنا خصال هذا الديوان الفريد الذي لا يقل حدة وتشنجاً عن سابقيه ولا فتنة وسحراً عن لاحقيه. ولعل قارئ أنسي الحاج يدرك هذا السر منذ أن تخطفه قصيدة "العاصفة" البديعة التي يستهل بها الشاعر ديوانه، وهي حتماً لا تقل قوة وجمالية عن قصائده الطويلة الأخرى، ويقول في مطلعها في ما يشبه المصادفة الفجائية "حين جننت وقررت أن أضحك/ وحملت على ظهور النساء سريراً/ حتى أصبحوا جميعاً يعرفون ما بي/ وكانوا ينظرون إلى الملك فصاروا إلى الجسد/ تلك القصة...". قصيدة تبلغ ذروتها في جمعها بين لحظتين متناقضتين ومنصهرتين في آن واحد، لحظة التدمير الذاتي ولحظة الانفتاح على العالم، لحظة التشنج ولحظة الصفاء، لحظة المستحيل ولحظة الممكن.
في هذه القصيدة أطلق الشاعر صرخته التي ما زالت تتردد في سماء الشعر الراهن، "الأوجاع الأوجاع الشخصية لا أحد يعرف كيف". وفي قصيدة أخرى يعلن جهاراً يأسه من العالم والأوهام التي كثيراً ما أحاطت به منتصراً لتلك "الأوجاع"، "غيرنا العالم، نحن الشعراء، نحونا". إنها الخلاصة باختصار شديد، حلم رامبو ومشروع كارل ماركس ينتهيان هنا، في ضمير الجماعة الذي يعود لـ "الشعراء". تغيير العالم لا يتم إلا داخل الشعر نفسه بل في سريرة الشعراء أنفسهم. حتى الحب في ديوان "ماضي الأيام الآتية" يتأرجح على حافة تطل من ناحية على هاوية عتمة الذات، ومن ناحية على هاوية الضوء المنبثق من الروح، "خرجت تصيحين كقديسة وتصمتين كعاهرة". على هذا "الشفير" الذي تتداخل هاويتاه، يدرك الشاعر ذاك "الجسد الذي لا يتجسد"، ذاك الجسد الذي لا يصح مثل القصيدة التي لا تصح أيضاً كما يعبر. إنها حال الاكتمال التي تبلغ أوجها عبر الاستحالة، أو حال الاستحالة التي تتحقق في اكتمالها المستحيل.
العنف والرقة
لم ينتبه معظم النقاد الذين تناولوا شعر أنسي الحاج إلى هذا الديوان الذي بدا منذ صدوره، سابقاً الشعر السائد مثله مثل "لن" و"الرأس المقطوع". توقف هؤلاء كثيراً كما أشرت عند "لن" وعند مقدمته الصارخة المكتوبة بعصب متوتر توتر القصائد نفسها، وقرأوا أنسي الحاج من خلال قصيدة النثر والدور التأسيسي الذي أداه في هذا القبيل، وتناولوا أيضاً مفهوم اللعنة في الشعر واللالغة وسواهما من المفاهيم التي رسخها "لن". ولم يتوانَ بعضهم عن التوقف لاحقاً عند قصائد الحب أو حيال الشاعر العاشق الذي ارتقى باللغة إلى مصاف الرغبة والشهوة النقية. أما "ماضي الأيام الآتية" الذي يمثل إحدى ذرى أنسي الحاج، فلم ينَل ما يستحق من مقاربة أو قراءة. وقد يكون هذا الديوان الأشد فرادة أو حداثة بين أقرانه نظراً إلى اللعبة الشعرية التي تتبلور فيه تمام التبلور وتبلغ أوجها في الممانعة والمكاشفة، في الانغلاق والانفتاح، في العنف والرقة، في الخسارة والاكتفاء.
في هذا الديوان يواصل الشاعر "تدمير" اللغة التقليدية، نحواً وتركيباً، خالقاً معاني جديدة للمفردات وسياقات أخرى لها، مرتكزاً على ما يسميه النقد الحديث "الانزياح". لكنه ينفتح في الحين عينه على الجماليات اللغوية، والتضاعيف الأسلوبية، محاوراً إياها ومكتشفاً فيها زوايا مجهولة وأصداء وتناغمات وتلاوين... إنها "جمالية التشنج" بحسب المقولة السريالية، تذوب في جمالية الانبساط خالقة إيقاعاً لغوياً عماده النفس الشعري والعصب والانسراح، "أحب ذكرى الأيام التي كانت تمشي تمشي، ولا تعرف أنها ستنتهي في كتاب. أحب ذكرى الأزمنة العالمة، المغموسة، الضبابية، ذات العمالقة الذين مشوا مشوا وهم لا يعرفون أنهم سينتهون في كتاب".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كثيراً ما خامرني شعور مفاده بأن شعر أنسي الحاج هو شعر إيقاعي بامتياز. وكثيراً ما أسرتني موسيقاه الداخلية واللفظية، المتوترة والمنسرحة التي تبدو كأنها طالعة من إيقاع الجسد نفسه، في عزلته أو صخبه، هذه الموسيقى التي لا تعرف رتابة الوزن والقوافي، الموسيقى التي لا تبدأ ولا تنتهي بل تتواصل أو تتابع داخل الجمل أو الأسطر.
إنها موسيقى النثر التي يجيد أنسي الحاج توقيعها، تلقائياً حيناً وتفنناً حيناً، وكأنها جزء من اللعبة الشعرية والتجربة عموماً. إنها موسيقى النفَس، نفَس الروح ونفَس الحواس، تتسارع أو تنبسط أو تنقبض أو تتهادى. هذه ناحية في شعر أنسي الحاج تستحق أن تدرس بذاتها حقاّ لأن شعره قائم على موسيقاه الخاصة التي اكتسبت في قصيدته الملحمية "الرسولة ..." طابع الموسيقى السمفونية. ومثلما قال هنري ميشونيك وجيرار دوسون في كتابهما الأكاديمي البديع "بحث في الإيقاع" (دار دونو - باريس )، فإن الموسيقى لدى أنسي الحاج هي بمثابة "الإيقاع الذي هو أبعد من أن يكون عنصراً جمالياً مكملاً للشعرية العروضية". في هذا الكتاب يميز الناقدان الفرنسيان بين الوزن العروضي والإيقاع الذي يتخطى النظام التفعيلي متجلياً في قلب النثر.
لا يزال "ماضي الأيام الآتية" ديوان المستقبل على رغم مرور أكثر من نصف قرن على صدوره. كل قصيدة فيه تحمل مفاجأة، في لغتها المنحرفة عن "لغة القبيلة" كما يعبر الشاعر الفرنسي مالارميه، أو في جماليتها الجامعة بين التوتر والغنائية، في صورها التي تجتحر الفضاء الغريب واللامألوف، وفي إيقاعها الكلي الذي يجمع المفردات والجمل تحت جناحه. من يقرأ هذا الديوان الآن يدرك كم أن شعر أنسي الحاج قادر فعلاً على التجدد وعلى مواجهة سطوة الزمن. إنه الشعر الذي يسبق نفسه دوماً إلى المستقبل.