شكل تقسيم العراق إلى أقاليم متعددة الهاجس الأكبر لدى الحكومات المتعاقبة بعد 2003 التي رفضت تكرار تجربة إقليم كردستان العراق الذي أخذ حكمه الذاتي نهاية القرن الماضي، إذ ترى السلطات أن الأقاليم تهدد وحدة البلاد وسلامته رغم أن الدستور كفل ذلك.
وخلال العقدين الماضيين، دعا بعض القوى السياسية إلى إنشاء إقليم السنة، الذي يضم (نينوى والأنبار وصلاح الدين وديالى، فضلاً عن مناطق حزام بغداد) إلا أن تلك المحاولات يراها مراقبون للشأن العراقي بأنها لا تخلو من تحقيق غايات سياسية ومنافع ومكاسب انتخابية وبعيدة كل الواقع عن طموح المواطنين.
والأمر نفسه في مشروع إقليم البصرة (عاصمة العراق الاقتصادية) الذي أخفق في عامي 2008 و2013، التي تمتلك ميناء العراق الوحيد وطريقه التجاري الأبرز، ونحو 80 في المئة من احتياط النفط في البلاد.
وشهد العراق خلال العقدين الماضيين كثيراً من المتغيرات السياسية والأمنية والاقتصادية، إذ لم تحقق النهضة التي يطمح لها العراقيون في تحسين واقعهم المعيشي والاقتصادي بل ازداد سوءاً في غالبية المحافظات مقارنة مع تجربة إقليم كردستان الذي شهد نهضة عمرانية رغم الخلافات السياسية مع الحكومات الاتحادية بعد 2003.
وعلى رغم وجود إقليم واحد في العراق في الوقت الحالي، فإن هناك من يرى أن الأقاليم خطوة نحو تقسيم البلاد بينما يذهب آخرون بأنه سيكون سبباً في نهضة كثير من المحافظات التي افتقدت إلى كثير من الخدمات.
ويرى مراقبون في الشأن العراقي لـ"اندبندنت عربية"، أن "هناك كثيراً من الشكوك حول نية الأطراف السياسية جميعاً في احترام ثوابت الفيدرالية الدستورية والثقافية"، مضيفين "نجد أن كثيراً من نصوص الدستور في حاجة إلى مراجعة لتلافي الثغرات والعقبات والمشكلات الواردة فيه".
وأشاروا إلى أن المخاوف من إقامة الأقاليم تكمن أن تكون سبباً في تعزيز الانشقاق العرقي والمذهبي وتفكيك البلد، موضحين أن إقامة أقاليم متعددة غير مستندة على المذهبية والعرقية فرصة نحو تكوين إدارات جغرافية ناجحة.
وشددوا على أن الدعوات الحالية لإقامة أقاليم ما هي إلا دعوات الغرض منها سياسي للتفرد بالحكم المحلي والاستحواذ عليه، لافتين إلى أنه يتطلب تحقيق الفوائد الاقتصادية للأقاليم في العراق التوازن بين تعزيز الحكم المحلي والمرونة الإدارية والحفاظ على وحدة البلد وتعزيز الشمولية الوطنية.
تنوع إثني
تتميز بلاد الرافدين بالتعدد والتنوع الإثني والديني والقبلي والطائفي واللغوي، إذ أكد رئيس مجلس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في هذا الشأن أن الحكومة تعتز بجميع المكونات العراقية، مضيفاً أن "قوتنا في تنوعنا، حيث أسهم هذا التنوع والتعدد في ازدهار الأفكار ونمو الإبداع، وأعطى للعراق نكهته الخاصة، وهو من أهم الثروات الوطنية الواجب الحفاظ عليها".
وزاد، "نعتز بكل عراقي، ونقدر الحاجة إلى ضرورة الحفاظ على وجودهم في بلدهم وإعماره وبنائه"، لافتاً إلى أن "نهج العراق وحكومته يكمن في المساواة وسيادة القانون وتكافؤ الفرص".
آلية إنشاء الأقاليم
على رغم أن الدستور العراقي لم يعترض على إنشاء الأقاليم إذ نصت المادة 119 على أنه "يحق لكل محافظة أو أكثر، تكوين إقليم بناء على طلب بالاستيفاء عليه، ويقدم بإحدى طريقتين:
أولاً: طلب من ثلث الأعضاء في كل مجلس من مجالس المحافظات الراغبة في تكوين الإقليم.
ثانياً: طلب من عُشر الناخبين في كل محافظة من المحافظات التي ترغب في تكوين الإقليم.
الأقاليم مرفوضة
لكن رئيس مجلس القضاء الأعلى في العراق فائق زيدان، اعتبر فكرة إنشاء أقاليم أخرى في أي منطقة بالبلاد "مرفوضة"، مشدداً على أنها تهدد وحدتها وأمنها.
رفض أعلن عنه زيدان خلال استقباله، أمس الأحد، لمحافظ الأنبار محمد نوري الكربولي ورئيس مجلس المحافظة عمر مشعان دبوس.
وبحسب بيان للمكتب الإعلامي لمجلس القضاء، أبدى المحافظ ورئيس مجلس المحافظة استعدادهما للتعاون مع القضاء في المجالات كافة، كما تم تأكيد حرص أبناء المحافظة على وحدة البلاد ورفض الأفكار التي تمسها والتي يروج لها البعض لغايات سياسية بحتة بعيدة عن واقع وقناعات أبنائها.
بدوره، قال زيدان إن "الواقع الجغرافي والقومي لإقليم كردستان موجود قبل نفاذ دستور جمهورية العراق سنة 2005 وتحديداً سنة 1991 إثر غزو الكويت وما نتج منه من آثار سلبية بسبب السياسات الفاشلة للنظام السابق".
وأشار إلى أن "إقليم كردستان له وضع خاص معترف به من جميع أبناء الشعب العراقي وأن الدستور تضمن الأحكام الخاصة بتنظيم الأقاليم إلا أن ظروف صياغة الدستور في حينه تغيرت الآن ومعظم من كانت لديه القناعة بهذه الأحكام مقتنع الآن بضرورة تغييرها قدر تعلق الأمر ببقية المحافظات عدا إقليم كردستان بحكم وضعه الخاص".
زيدان نبه إلى أن "فكرة إنشاء أقاليم أخرى في أي منطقة في العراق مرفوضة لأنها تهدد وحدة البلاد وأمنها"، مؤكداً "دعم إدارة المحافظة الجديدة في الوقوف ضد أي أفكار تهدد وحدة وسلامة أمنه".
حق دستوري
في المقابل، أكد المتخصص في الشأن القانوني علي التميمي، أنه يمكن لمحافظة أو أكثر تكوين إقليم بناء على طلب يقدم عبر استفتاء من ثلث أعضاء مجلس كل محافظة أو محافظة واحدة تسعى إلى التشكيل أو طلب من عُشر الناخبين على أن يقدم الطلب إلى مجلس الوزراء الذي يكلف المفوضية خلال 15 يوماً باتخاذ ما يلزم ويكون الاستفتاء ناجحاً إذا صوَّت نصف عدد المستفتيين زائد واحد من كل محافظة مشتركة.
وشرح، أن المرحلة الثانية يتم من خلال مصادقة المحكمة الاتحادية على الاستفتاء ثم يصدر قرار من رئيس مجلس الوزراء خلال 15 يوماً من وصول المصادقة بإعلان الإقليم ويتم إنشاء مجلس تشريعي للإقليم والتصويت على دستور الإقليم.
ونوَّه، في حالة فشل الاستفتاء يمكن إعادته بعد سنه من ذلك، وفي حالة الرفض غير المبرر من مجلس الوزراء يمكن الطعن أمام المحكمة الاتحادية بذلك.
التجربة الفيدرالية
وفي هذا السياق، كشف المتخصص في الشأن القانوني والأكاديمي خالد العرداوي، أن موضوع وجود الأقاليم في الدول الفيدرالية العريقة في تجربتها الفيدرالية على المستوى الدستوري القانوني والمؤسساتي، والمستوى الثقافي (رسوخ واحترام قيمها وقواعدها الأخلاقية) يعد مصدر قوة لهذه التجارب، ومرتكز أساس في توزيع الصلاحيات بين المركز والأقاليم، وحماية حقوق والتزامات الطرفين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بحسب العرداوي فإن هناك كثيراً من الشكوك حول نية الأطراف السياسية جميعاً في احترام ثوابت الفيدرالية الدستورية والثقافية، مضيفاً "على رغم كون تشكيل الأقاليم من البنود الدستورية التي تم إقرارها في دستور العراق لسنة 2005، فإننا نجد أن كثيراً من نصوص الدستور في حاجة إلى مراجعة لتلافي الثغرات والعقبات والمشكلات الواردة فيه، فضلاً على كون الحديث عن الأقاليم في بيئة سياسية قائمة على المحاصصة والصراع بين القوى السياسية".
لكنه قال في الوقت نفسه إن هناك رغبات وطموحات لدى البعض في تحويل الأقاليم الدستورية من حكومات محلية تحفظ هوية وحقوق وحريات المواطنين إلى إقطاعيات مالية وسياسية يحكمها أفراد وأحزاب محددة.
ووصف العرداوي مثل هذه التوجهات بأنها "خطر حقيقي" يهدد وحدة الأرض العراقية، وسلامة وأمن العراقيين، وحقوقهم وحرياتهم المحترمة، مضيفاً "لا يمكن في ظل هذه البيئة إلا القول إن تشكيل الأقاليم مع بقاء ظروف البيئة السياسية الحاضرة لن ينفع التجربة الفيدرالية في العراق".
تعزيز الإدارة العامة
وفي السياق قال، الباحث في الشأن السياسي والاقتصادي نبيل جبار التميمي، إن من الناحية النظرية قد تطور فكرة الأقاليم كنظام إداري لا مركزي في تعزيز الإدارة العامة للبلد وإنجاح السياسات العامة، كما هي الحال في تجربة نجاح إقليم كردستان، إلا أن المخاوف من هذه الخطوة تكمن في أن تكون سبباً في تعزيز الانشقاق العرقي والمذهبي وتفكيك البلد.
وتابع "لذلك قد تكون فكرة إقامة أقاليم متعددة غير مستندة على المذهبية والعرقية فرصة نحو تكوين إدارات جغرافية ناجحة، بمعنى آخر استبدال النظام الإداري المكون من 15 محافظة إضافة إلى إقليم كردستان بسبعة أقاليم في عموم العراق".
وأكد أن الدعوات الحالية لإقامة أقاليم مثل إقليم البصرة أو إقليم الأنبار ما هي إلا دعوات الغرض منها سياسي للتفرد بالحكم المحلي والاستحواذ عليه، مبيناً أنه على رغم ذلك لا يمكن اعتبار إقليم كردستان مشروعاً سياسياً ناجحاً نتيجة الخلافات المستمرة والعقد القانونية والدستورية بين المركز والإقليم.
النظام الإداري اللامركزي
من جهته اعتبر المتخصص في مكافحة الفساد سعيد ياسين، أن دستور العراق الدائم يقر بالنظام الإداري اللامركزي وهو من أفضل الأنظمة في إدارة الحكم، ولكن تم استخدامه سلباً لأن النظام السياسي انحرف ليكون قائماً على "نظام مكونات" ضارباً بعرض الحائط المواطنة لهذا وغيره من الأسباب الإقليمية والتوجهات الدولية التي تقر بالعمل على التقسيم تولد انطباع عن تقسيم العراق إلى دولة مفككة وصولاً إلى تقسيم واقع الحال، وهذا مؤشر إلى تخلف المنظومة السياسية وفشلها في بناء عقيدة وطنية خالصة.
أضاف أنه مهما كانت الدعوات سيبقى العراق واحداً موحداً، لكن تبقى الحاجة إلى الحكم الرشيد وتطبيق مبادئ العدالة والحقوق وتعزيز المشاركة المجتمعية لترسيخ الثقة بالنظام السياسي.
وطالب بالتركيز على أولويات "تعزيز النزاهة ومكافحة الفساد وسيادة القانون وإنفاذه بعدالة وصرامة على الجميع دون محاباة وتمييز مع توفير إرادة سياسية واضحة في بناء نظام النزاهة الوطني مع توزيع وتعدد الأدوار".
ولفت إلى أن تراجع جودة الحياة والفقر والبطالة والتخلف الاقتصادي مع عدم توزيع الموارد بعدالة والاستحواذ على الموارد الريعية من خلال استغلال النفوذ السياسي مع توفر بيئة الجرائم العابرة للوطنية مثل تهريب النفط والأموال وغسل الأموال وغيرها كلها تؤدي إلى تفكيك الدولة.
تحسين جودة الخدمات
في حين، قال المتخصص في شأن الاقتصاد الدولي نوار السعدي، إنه "عندما نلقي نظرة على فكرة إنشاء الأقاليم في العراق من الزاوية الاقتصادية، نجد أن هذه الخطوة قد تفتح أبواباً جديدة للتنمية وتحسين إدارة الموارد، ولدينا تجربة فعلية إقليم كردستان العراق، معتقداً أنها تجربة ناجحة جداً بخاصة في جانب السيطرة على الأمن وتحقيق الاستقرار الذي أدى إلى زيادة التنمية في محافظات الإقليم مقارنة مع باقي المحافظات العراقية.
وفي ظل الصراعات السياسية في العراق، تثير فكرة إنشاء أقاليم جديدة كإقليم السنة وإقليم البصرة مخاوف تتعلق بتقسيم الموارد واحتمالية تفاقم الصراعات.
وأقر السعدي، بأن الجوانب الإيجابية، لفكرة الأقاليم ستوفر فرصاً كبيرة لتحسين الخدمات والبنية التحتية في المناطق المحلية، وسوف تسهم في تحسين جودة الخدمات الأساسية مثل المياه والكهرباء والصرف الصحي، وهو ما من شأنه أن يعزز جودة حياة المواطنين ويسهم في تعزيز الثقة بالحكومة المحلية.
ونوه إلى أنه "قد تعمل الأقاليم على جذب الاستثمارات المحلية والأجنبية إلى مناطقها، مما يمكن أن يؤدي إلى خلق فرص عمل جديدة وتحفيز النمو الاقتصادي المحلي. فعلى سبيل المثال، يمكن لإقليم البصرة، الذي يوجد فيه موانئ العراق وأكبر حقوله النفطية، استخدام موارده بشكل أكثر فاعلية لتعزيز التنمية المحلية وخلق فرص عمل جديدة للسكان البصريين وسكان الجنوب ككل، مما يعود بالفائدة على الاقتصاد الوطني بصورة عامة".
وزاد، أنه في ظل الظروف الحالية في العراق، لست مع تقسيم الموارد والثروات لأنه قد يؤدي إلى نزاعات وتوترات بين الأقاليم الجديدة والحكومة المركزية، فضلاً عن ذلك، قد تؤدي هذه الأقاليم إلى تعميق الانقسامات الطائفية والعرقية في العراق، بخاصة إذا لم يتم تصميم هذه الأقاليم بعناية وإدارتها بشكل فعال لضمان تمثيل جميع الفئات السكانية بشكل عادل.
وختم حديثه، "يتطلب تحقيق الفوائد الاقتصادية للأقاليم في العراق التوازن بين تعزيز الحكم المحلي والمرونة الإدارية، والحفاظ على وحدة البلد وتعزيز الشمولية الوطنية"، مطالباً بأن تكون أي إصلاحات تتعلق بالأقاليم ناتجة من حوار واسع النطاق يشارك فيه جميع الأطراف المعنية، ويجب أن تراعي تلك الإصلاحات مصالح جميع الفئات السكانية في العراق من دون التفريط في وحدة البلد واستقراره.