ملخص
تلاعبت الدول الأوروبية بالعقوبات المفروضة على موسكو فيما النفط الروسي ما زال يتدفق إلى القارة العجوز على نحو غير مباشر من طريق الهند والصين
في أسواق الطاقة كان عام 2022 تاريخياً بكل المقاييس، فقد نتج من الحرب الروسية - الأوكرانية تغيير اتجاهات التجارة العالمية في النفط والغاز والفحم، وكانت الحرب السبب الرئيس الذي رفع أسعار النفط إلى 130 دولاراً للبرميل، ومن ضمن الأسباب الرئيسة التي أسهمت في ارتفاع أسعار الغاز والكهرباء في أوروبا إلى مستويات تاريخية. وكان ذلك السبب الرئيس لقرار الرئيس بايدن سحب 180 مليون برميل من مخزون النفط الاستراتيجي.
فرضت مجموعة السبع حظراً على النفط الروسي نهاية 2022، ثم فرضت حظراً آخر على المنتجات النفطية الروسية بداية فبراير (شباط) 2023، ومع الحظر فُرضت الأسقف السعرية على النفط الخام والمنتجات النفطية.
المشكلة أن هناك كثيراً من المعلومات الخطأ التي يتداولها الناس ووسائل الإعلام، وبعضها تروج له الحكومة الأميركية والسياسيون الأوروبيون في محاولة لإخفاء فشلهم في إجبار بوتين على التراجع وإظهار نجاح سياساتهم. حصلت تغيرات كثيرة في العامين الماضيين في التجارة الدولية للطاقة، كما عانت عديد من الدول الأوروبية بسبب ذلك.
فشل العقوبات الاقتصادية في تحقيق أهدافها
كل الدراسات الأكاديمية التي تركز على آثار العقوبات الاقتصادية تشير إلى فشلها. العقوبات تفرض لتجبر الخصم على تغيير موقفه، فيما ليس هناك أي أدلة على أن العقوبات الاقتصادية على مدى الـ120 سنة الماضية أجبرت الخصم على تغيير موقفه.
وهناك خلط كبير عند السياسيين والمحللين والناس بصورة عامة بين تحقيق أهداف المقاطعة والمشكلات التي تسببها المقاطعة. كل الأدلة والبيانات تشير إلى أن المقاطعة تؤذي الطرفين وتضر بمصالحهما، لكن حصول الضرر لا يعني نجاحها. فتضرر الولايات المتحدة من المقاطعة النفطية عام 1973 لا يعني نجاحها لأن هدفها المعلن كان إجبار إسرائيل على العودة إلى حدود 1976 ووقف الدعم العسكري الغربي لإسرائيل. والكل يعلم أن كلا المطلبين لم يتحققا.
الأمر نفسه بالنسبة لروسيا الآن: روسيا ما زالت تتوسع في أوكرانيا. لم توقف الحرب، ولم ترجع إلى الحدود على رغم الأضرار التي لحقت بها من المقاطعة. في الوقت نفسه هناك أضرار كثيرة لحقت بدول مجموعة السبع ودول الاتحاد الأوروبي من فرض المقاطعة على روسيا، وهي كما يقول البعض: هم قاطعوا أنفسهم.
النفط والغاز والفحم ما زالت تتدفق من روسيا إلى الأسواق العالمية، وإن كان بأسعار أقل نسبياً من أسعار السوق، ولكن علينا أن نكون حذرين عند الحديث عن خفض إيرادات الحكومة الروسية من النفط والغاز، وهذا مثال مبسط على ذلك وبأرقام تقريبية:
ارتفعت أسعار النفط من 80 دولاراً للبرميل قبل الحرب إلى 130 دولاراً للبرميل بعدها نظراً إلى تخوف البنوك وشركات التأمين الأوروبية من مقاضاتها قانونياً في بلادها، أوقف بعضها التعامل مع الشركات الروسية، هذا أجبر الشركات الروسية، على رغم عدم وجود عقوبات وقتها على تحويل النفط من أوروبا إلى آسيا.
المشكلة أن فرق المسافة بين الموانئ الأوروبية ونظيرتها الآسيوية كبير جداً، وعدد حاملات النفط في تلك المنطقة قليل، فارتفعت أجور الشحن بصورة كبيرة، هذا يعني خفض سعر الخام الروسي في الموانئ الروسية بمقدار فرق كلف الشحن. فإذا كان الفرق 30 دولاراً للبرميل، فإن ما تحصل عليه شركات النفط الروسية هو 100 دولار للبرميل وليس سعر السوق، الذي هو 130 دولاراً للبرميل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فكر معي الآن: السعر قبل الحرب 80 دولاراً للبرميل، والآن 100 دولار، فلماذا تنخفض إيرادات الحكومة الروسية؟ قد يقول قائل، ولكن السعر في السوق 130 دولاراً، وهم حصلوا 100 دولار فقط، والجواب، روسيا هي السبب في رفع السعر إلى 130 دولاراً أصلاً. بعبارة أخرى، أسعار النفط الروسي في الصين والهند لم تكن أقل من سعر السوق بـ30 دولاراً كما ظن البعض، هذه كلف الشحن. التخفيض الذي حصلت عليه هذه الدول هو بضع دولارات فقط.
الأمر نفسه ينطبق على الغاز. لم توقف أوروبا استيراد الغاز من روسيا حتى الآن، حتى أوكرانيا نفسها تستورد الغاز الروسي وتدفع ثمنه للروس! خفض واردات الغاز سببه تخفيض روسيا للصادرات، وليس تخفيض أوروبا للواردات. إلا أن الروس لعبوا لعبة قانونية تم فيها وقف التعامل بالعقود طويلة المدة والتي كانت تحصل فيها أوروبا على الغاز الروسي بأسعار منخفضة مقارنة بأسعار الغاز في الأسواق الفروية، ثم باعت لأوروبا الغاز المسال الذي وصلت أسعاره وقتها إلى مستويات قياسية في الأسواق الفورية.
أدركت الدول الغربية مصالحها تماماً، فجاء قرار حظر النفط والمنتجات الروسية متضمناً فقرة ضمنت إمدادات النفط لأوروبا: إذا تم تكرير النفط الروسي في دولة ثالثة فيمكن للدول الأوروبية أن تستورده.
بعبارة أخرى، السياسيون الغربيون ظهروا أمام شعوبهم أبطالاً بسبب مواقفهم الصارمة من بوتين وحظر النفط الروسي، لكنهم يستوردون المنتجات النفطية من الهند والصين ودول أخرى، وهي الدول التي قامت باستيراد النفط الروسي وتكريره، ثم شحنته إلى أوروبا وشعوبهم المسكينة لا تدري أن ما يستخدمونه هو نفط روسي أصلاً.
هذه الألاعيب الأوروبية هي التي رسخت التغيير الكبير في تجارة النفط العالمية، وأسهمت في الوضع الذي نحن فيه الآن: زادت أهمية البحر الأحمر بصورة كبيرة بسبب تضاعف كميات النفط الروسي الذاهبة لآسيا، وتضاعفت كميات المنتجات النفطية الذاهبة من آسيا إلى أوروبا، وتضاعف كميات النفط الذاهبة من دول الخليج إلى أوروبا للتعويض عن النفط الروسي، هذا التغير مكن الحوثيين من الضغط على خطوط الملاحة في المنطقة، وأدى إلى مزيد من تدخل الدول الغربية ببوارجها في المنطقة.
فشل السقف السعري
تلاعبت الدول الأوروبية بالعقوبات المفروضة على روسيا حيث إن النفط الروسي ما زال يتدفق إلى أوروبا بشكل غير مباشر كما ذكر أعلاه، كما فرضوا السقف السعري الذي يقضي بعدم شراء النفط الخام والمنتجات النفطية فوق أسعار معينة. اختاروا أسعاراً أعلى من سعر السوق، وبهذا لم يكن للسقف السعري أي أثر، وبهذا أيضاً جعلوا شراء النفط الروسي قانونياً لأي دولة تود شراءه خارج الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي.
وبهذا، مكنوا الهند والصين ودول أخرى من شراء النفط الروسي وتكريره ثم تصديره إلى أوروبا بشكل قانوني! وعندما ارتفعت الأسعار في السوق فوق السقف السعري، لا يمكن تطبيقه على كل الحالات، وبهذا لم يكن له أي أثر، بخاصة أن إدارة بايدن والحكومات الأوروبية غضت الطرف تماماً عن تجاوز أسعار الخام الروسي السقف السعري. وقد قامت فعلاً بوضع حظر على بعض السفن لنقلها نفطاً بيع فوق النفط السعري، ولكن هذا الحظر لا أثر له في الواقع إلا إذا وصلت هذه السفن للموانئ الأميركية، فإنها لا تحصل على الخدمات ولا يتم تزويدها بالوقود. وعليه يمكن لهذه السفن أن تجوب موانئ العالم وتتجاهل الولايات المتحدة.
خلاصة القول إنه بعد مرور عامين على الحرب الروسية في أوكرانيا، ما زال النفط والغاز الروسيان يتدفقان إلى الأسواق، إلا أن اتجاهات التجارة العالمية تغيرت بصورة كبيرة، وكل هذا مكن الأميركيين من تأمين أسواق لغازهم المسال في أوروبا لعقود مقبلة.