كثيرة هي الشخصيات الإشكالية في الثقافة الإسلامية، ومنها ابن رشد بما أثاره وما زال يثيره من قضايا كانت ولا تزال موضع عداوات، وصلت إلى حد التكفير الذي أشهره أبو حامد الغزالي في وجهه في كتابه الشهير "تهافت الفلاسفة"، ورد ابن رشد عليه بكتاب "تهافت التهافت".
وإذا كان من الممكن وصف رواية إبراهيم فرغلي "بيت من زخرف – عشيقة ابن رشد" (دار الشروق) بأنها تاريخية تسرد جانباً كبيراً من حياة ابن رشد، يظل من الممكن أيضاً وصفها بأنها رواية معرفية من خلال طرحها لقضايا من قبيل العقل والنقل، والعقل المفارق والعقل الفاعل، أو لنقل العقل الموجود بالقوة الذي يشترك فيه ملايين البشر، والعقل الموجود بالفعل الذي يمتاز به بعض ممن يعملون عقولهم في تأويل النصوص الدينية لفض التعارض الظاهري بين النص والعقل، والتقريب بين الحكمة (الفلسفة) والشريعة، مما رفضه فقهاء النقل حين تعاملوا فحسب مع ظاهر النص، وتوقفوا أمام دلالاته السطحية المباشرة.
من البداهة أن نقول إن إبراهيم فرغلي لا يعود إلى ابن رشد لاستعادة فترة تاريخية فحسب، بل من أجل إسقاط هذا التاريخ على الواقع الراهن بتوظيف بنية التوازي بين محنة ابن رشد ومحنة أستاذ الجامعة المصري "سعد الدين إسكندر" الذي حكم القضاء بالتفريق بينه وزوجته "جليلة" التي أصيبت بجلطة دماغية ماتت على إثرها، إذ اعتبرت حكم التفريق بمثابة حكم بالإعدام. والحق أن محنة هذا الأستاذ الجامعي تقترب كثيراً من خلال بعض الإشارات السردية من محنة نصر حامد أبوزيد، فقد طلب من الاثنين النطق بالشهادة وهذا يعني أنهم تدخلوا في نيتيهما وحكموا بأنهما كافران، والنطق بالشهادة أمام المحكمة طريقة غرضها "الاستتابة".
وعندما يحكي "سعد الدين إسكندر" عن نفسه، يبدو وكأنه يتحدث عن حياة نصر أبوزيد التي نعرفها حين يقول، "أنا ابن عامل بسيط، عشت حياة بسيطة، ودرست دراسة عادية في أحد المعاهد، ولم أبدأ الدراسة الأكاديمية في مجال تخصصي إلا بعد زمن، وبعد معاناة مع الحياة"، وهكذا يبدو وكأننا أمام بنيتين متوازيتين، الأولى معلنة بين "إسكندر" وابن رشد، والثانية ضمنية يمكن استنتاجها بين "إسكندر" ونصر أبوزيد. تقول "إيليا" التي وقعت في غرام "إسكندر" واصفة التشابهات بينه وابن رشد، "اندهشت من شدة تشابه الصراع على السلطة المعرفية الذي راح ضحيته إسكندر كما راح ضحيته أفيرويس، أحد أسماء ابن رشد في الغرب، من قبل". واللافت هو ملاحظتها أن "إسكندر" ينتمي إلى المدرسة الرشدية وأن ما جعله يرى ضرورة الخروج من مصر هو شعوره بأنه وحيد في مواجهة قوى ظلامية يمكنها أن تغتال أي شخص معنوياً بالتشكيك في تدينه. وهذا ما يجمع بين الشخصيات الثلاث المشار إليهم.
يقول فرغلي إنه "مدين أولاً بالشكر لقائمة طويلة من المؤلفين والمفكرين الذين أتيحت لي قراءة ما كتبوه حول سيرة وأفكار ابن رشد وحول تاريخ الأندلس، وقد تضمنت الرواية بعضاً من فقرات اجتزأتها من تلك النصوص، وبعضها من كتب ابن رشد". هذا المقتبس من هامش الرواية يؤكد ما أشرتُ إليه من أن الرواية تتضمن جانباً معرفياً مباشراً. وقد اتضح هذا تحت عنوان "النسّاخ" حين يورد ما ذكره ابن رشد عن "التكلم بين الشريعة والحكمة"، وأنه "يجب بالشرع النظر في القياس العقلي وأنواعه"، وإثباته لعدد من الآيات الكريمة الداعية إلى إعمال العقل والتدبر في الآيات الكونية، وعليه "فمن الواجب أن نجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقلي".
تنقسم الرواية إلى ستة أقسام تحمل العناوين الآتية، الخبيئة وأفيرويس وكتاب مانويلا ولبنى القرطبية وكتاب إسكندر، ثم يأتي القسم السادس بلا عنوان لكنه مروي من خلال "ماريا إيلينا". وأدى هذا التقسيم إلى تعدد الأصوات الساردة ما بين ماريا وإسكندر ولبنى القرطبية والراوي الخارجي العليم، صانعاً بذلك ما سماه باختين "البوليفونية" وتعدد الرؤى ورسم لوحة سردية كبيرة تكمل كل حكاية فيها الأخرى. كما تتشابك الشخصيات، فماريا التي تعد رسالة دكتوراه عن فلسفة الفن تقع في غرام سعد الدين إسكندر المصري المهاجر إلى قرطبة والمهتم بالفلسفة الإسلامية، بخاصة فلسفة ابن رشد، بعد إقامته لفترة في موسكو ومعرفته بمارغريت، واهتمام مانويلا، صديقة ماريا، بمجموعة أوراق منسوبة لابن رشد الذي بدا بوصفه خيطاً رئيساً جامعاً لهذه الشخصيات القديمة والمعاصرة على نحو ما ظهر في علاقة لبنى القرطبية، تلميذته وعاشقته، وكأنها صورة قديمة لعلاقة ماريا بإسكندر الذي حولته من أستاذ فلسفة إلى نابش قبور لاستخراج أوراق مانويلا التي اضطرت ماريا إلى دفنها معها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي هذا السياق تأتي قصة عاصي الذي ترجم أحد أعمال ابن رشد إلى العربية وشارك في نحت تمثاله في قرطبة والذي أراد أن ينقذ منحوتاته "فحفر لها عميقاً في باطن الأرض في سوريا، وأردتُ، أي إسكندر، أن أستخرج مخطوط مانويلا من باطن الأرض". ويبدو أن المكان له تأثيره البالغ في المواقف والرؤى، فيذكر إسكندر أن مارغريت قد ذكرتنا "بمواقف وشخصيات وأساتذة درّسوا لنا، واستدعت طرائف ومفارقات من حياتنا في موسكو التي جسّدت لنا حلماً كبيراً آنذاك، وانحيازات عاطفية للاشتراكية والشيوعية والانبهار بالدفء الذي يسيطر على علاقات الناس الذين لا تفرق بينهم فوارق الطبقات". إننا أمام عولمة واضحة تجمع موسكو وقرطبة ومصر وسوريا، واتضح هذا من اختلاف جنسيات وأديان أصدقاء مارغريت الذين قدمتهم لإسكندر، بتول ولويس ومصطفى وكارمن وعاصي.
الكتب الطائرة
وظف إبراهيم فرغلي في كثير من المواضع الأحلام التي قد تتحول أحياناً إلى كوابيس. تقول لبنى القرطبية تحت عنوان "رؤيا"، "رأيتني ليلة أمس مع أبي الوليد. كنا نتحدث حديثاً هامساً كالذي يدور بين العشاق، ثم سمعنا أصواتاً وجلبة وقبل أن ندرك ما حدث، رأينا ملثميْن على جوادين يقتربان منا في هرولة". وهكذا تبدأ الرؤيا بحلم هامس جميل بين عاشقين ثم تتحول فجأة إلى كابوس بظهور هذين الملثمين. وربما تكون هذه الرؤيا على إيجازها تعبيراً عن حياة ابن رشد الذي وصل إلى منصب "قاضي القضاة" في زمن السلطان أبو يعقوب يوسف بن عبدالمؤمن المحب للفلسفة، ثم انتهى به الأمر إلى النفي في عهد المنصور الذي عادى الفلاسفة وأمر بإحراق كتب ابن رشد.
وقد يوظف الكاتب الخيال الفانتازي كما في رؤية إسكندر لتلك المرأة الغجرية التي رأى عينها تجحظ وتقع أمامها وتركض مثل كرة. ويمتد هذا الخيال الفانتازي في رؤية ابن أبي الوليد ابن رشد لكتب أبيه "التي غدت غرانيق محلقة في السماء مؤثرة أن تغدو حرة مثل أفكار صاحبها". هذه الأفكار التي استقاها ابن رشد من صباه وجعلت من الأندلس يوتوبيا تجمع بين أصحاب الديانات الثلاث حين يقول، "لم نكن نبالي إن كان العيد يخصنا نحن المسلمين أو عيداً للنصارى أو اليهود، فالعيد عيد والصبية من اليهود والنصارى ممن يشاركوننا احتفالات العيد يترقبون مشاركتنا لهم مرح عيدي الميلاد والفصح وسواهما". لكن هذا الحلم سرعان ما يتبدد تحت وطأة العقلية النقلية التي لم تفعل شيئاً سوى إعادة إنتاج الوثنية ولكن بأدوات جديدة، حيث "استخدم الدين نفسه الذي جاء ليثور على الوثنية ليغدو وثناً جديداً بواسطة تلك العقليات الجامدة". وتجسّد هذا العقل الجامد في "زياد" ابن كمال وبيلار شقيقة مانويلا الذي استباح قتل الأبرياء، ظناً منه أن ذلك جهاد في سبيل الدين.