فيلم تونسي، وهو آخر أفلام المسابقة، صنع مفاجأة سارة في مهرجان برلين السينمائي (15-25 الشهرالجاري) الحافل بالأفلام المتوسطة الجودة. انه "ماء العين"، باكورة الأعمال الروائية الطويلة للمخرجة الشابة مريم جعبر (صاحبة الفيلم القصير "أخوان" - 2018)، الذي يعود مجدداً إلى النبش في أحد المواضيع التي تكرر طرحها في السينما التونسية خلال السنوات الأخيرة: الشباب التوانسة الذين انضمّوا إلى صفوف تنظيم داعش الإرهابي، لخوض معارك مسلحّة في سوريا، قبل أن يعودوا إلى الوطن لمواجهة السجن. آخر الأفلام التي تطرقت إلى هذه القضية، هو "بنات ألفة" لكوثر بن هنية، الذي عُرض في الدورة الأخيرة من مهرجان "كان" السينمائي، وهو مرشّح حالياً لجائزة "أوسكار". لكن معالجة جعبر ورؤيتها للموضوع، تبتعدان سنوات ضوئية عمّا قدّمته زميلتها. من دون أن تقع في فخ "فيلم الملف" الذي يحاول الإحاطة بالموضوع من كل الجوانب، لا سيما السوسيولوجية منها، تقدّم جعبر عملاً سينمائياً ناضجاً ومتماسكاً، كل لقطة فيه تتنفّس سينما، ولا مبالغة في القول إننا إزاء أحد أفضل أفلام المسابقة ومرشّح حقيقي لـ"الدب الذهبي".
ينظر الفيلم إلى مسألة الخيبة الناتجة عند بعض الذين انضموا إلى صفوف التنظيم الإرهابي، من وجهة نظر التجربة الفردية والعائلية الأليمة، من دون أن يفتي بأي شيء في هذا المجال، ومن دون السقوط في وحول الأخبار الكاذبة المستقاة من قصاصات الصحف الصفراء. قيل وكُتب وصُوِّر الكثير عن ضحايا تنظيم داعش، وقد آن آوان النظر في معاناة أهالي الإرهابيين الذين ظلوا في الظلّ، وهذا يحتاج إلى جرأة وفضول ورغبة في الابتعاد عن السهولة والإبحار عكس التيار.
تونسيان يقاتلان في سوريا
القصة التي في "ماء العين"، هي أولاً قصة أم، عائشة (صالحة نصراوي)، ذهب إثنان من أولادها إلى القتال في سوريا، وها أحدهما (مهدي - مالك مشرغي) يعود بعدما ترك أخاه جثّة على أرض المعركة. المشكلة أنه لا يعود وحده، بل تصاحبه امرأة سورية، منقّبة وحامل، غامضة ومشبوهة، لن نسمع صوتها قط طوال الفيلم كله، تزوجها مهدي بعدما أنقذ حياتها، كما يقول. العائلة، وفي مقدّمها الأب (محمد حسين غرايا)، مستاء من رؤية ابنه يعود، وذلك لألف سبب وسبب. فهو رغم ريفيته، يبدو على قدر من الانفتاح مقارنةً بالإبن وأقل تعصّباً منه. أما الأم فتبقى أماً، تماماً كما هي حال الأم الدانماركية في "أبناء" لغوستاف مولر (فيلم آخر يشارك في المسابقة)، فهي مأخوذة بعطفها على ابنها وفي الوقت نفسه تريد أن تفهم ماذا حدث في جحيم سوريا ولماذا عاد هو ولم يعد أخوه. عودة الإبن الضال، تحدث اضطراباً على نطاق القرية التي تجري فيها الأحداث (شمال تونس)، فيُغرق الفيلم كله في أسى مزمن وسوداوية شديدة وأجواء متوترة تصورها جعبر عبر كادرات فيها عناية فائقة وحسّ بصري هائل (تصوير فنسان غونفيل)، تعكس ما في دواخل الشخصيات من صراعات متناقضة، وذنب وسقم وعار، وغيرها من الأحاسيس التي تنقلها كاميرا جعبر في شكل لافت لا يمكن التعبير عنها بالكلمات. وما أدراكم ما الذنب في حكاية كهذه! هي الثيمة التي لا يتوقّف الفيلم عن العودة اليها، خصوصاً في ظلّ ما يشعربه الجميع تجاه الجميع: الأخ تجاه أخيه وأهله وضحاياهما، والأهل تجاه الأبناء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هناك تفاصيل تخص شخصية الزوجة الحامل، لا يمكن كشفها أو تناولها في المقال، لأن هذا سيفسد على المُشاهد متعة الاكتشاف لما تمثّله. هذا كله محبوك حبكاً ممتازاً، والأهم أنه لا يسمح لنا أن نتوقّعه، لا بل سيتركنا مع حالة من الارباك الإيجابي.
الفيلم بأكمله مصوَّر ككابوس تدور فصوله في وضح النهار، نعيشه وتعيشه الشخصيات بعيون مفتوحة، وهذا ما يعطيه كاراكتيراً خاصاً به. الأم شخصية محورية، فيما الآخرون كلهم يتحلّقون حولها. إنها الأصل، ومنها يتفرع كل شيء وإليها يعود.
بيئة الحكاية
الأماكن التي موضعت فيها جعبر الحكاية، أي عمق الريف التونسي، تلقي بظلالها على الكاراكتيرات. يستمد الفيلم منها شرعية، فتصبح شخصيته أكثر تماسكاً وأكثر تجذراً في البيئة. وبالرغم من أن المخرجة عاشت طوال حياتها في الولايات المتحدة، فإنها تلتقط خصوصية هذه البيئة كما يتعذّر على المولودين فيها التقاطها. فكرة الزج بالأحداث في الطبيعة موفّقة وتأتي بثمارها على مستوى المناظر واحتضانها للشخصيات، فتلك المناظر غير منفصلة تماماً عن تصرف الناس وسلوكهم. الطبيعة قاسية كقسوة علاقاتهم بعضهم ببعض. ولكن، هذا ليس فيلماً ينبغي أن نتوقّع منه عواطف جياشة، كل شيء فيه ممسوك ومنضبط وعلى قدرعال من الثبات الإنفعالي، لا يملي علينا أي نوع من الأحاسيس، بل يتركنا على سجيتنا. رد الفعل يتأخّر ربما، لكنه يأتي، حتى بعد صعود جنريك النهاية.
صحيح أن جعبر، كامرأة أولاً وكمخرجة ثانياً وكتونسية ثالثاً، تضع قضية المرأة في عمق المسألة الإرهابية، وترد لها الاعتبار، سواء كانت زوجة أو أماً أو ابنة، لكنها تفعلها بصدق، من دون أدنى توظيف طمعاً بتمويل.
وكأي نصّ يمعن في المحلية، فهو ينتهي بأن يخاطب شريحة أوسع. هذه واحدة من نقاط القوة في الفيلم، لأن معناه يتجاوز المكان الذي يأتي منه، وهذا مرتبط بواقع أنه يحاول أن ينزل إلى عمق السؤال وعدم الاكتفاء بشيطنة الأشياء، وهذه مساحة تتيحها السينما، خلافاً لوسائل الاعلام.
عند السؤال عن اطلاعها على قضية الإرهاب الذي يمارسه "إسلاميون" ، تقول المخرجة في مقابلة: "لم أرغب في التركيز على هذه النقطة. إقتصرت نيتي على التقرب من سؤال انضمام الأخوين إلى داعش من منظور عالمي، مع تسليط الضوء على حقيقة أن هذه الظاهرة ليست حكراً على التطرف الإسلامي. أردتُ لفت الانتباه إلى الأصولية عموماً. شعرتُ بالفضول إزاء التجربة العائلية والشخصية المؤلمة التي تدفع بشخص ما إلى السقوط في الإيديولوجيا المتطرفة. إني من الجيل الذي نشأ في الولايات المتحدة ما بعد 11 سبتمبر/ أيلول. شهدت تونس ما بعد ثورتها، ارتفاعاً ملحظوظاً في التطرف والفكر المحافظ، كرد فعل على عدم الاحساس بالأمان. وما يثير اهتمامي هو القواسم المشتركة بين الأشخاص الذين يندفعون إلى اتخاذ إجراءات متطرفة، سواء عبر الانضمام إلى جماعات أصولية أو اعتناق إيديولوجيات متطرفة. يبدو أنهم كلهم ينطلقون من مكان واحد: البحث عن معنى ومساحة آمنة داخل مجموعة في أوقات الخوف، ومتنفس للجرح الشخصي والغضب والاستياء. يسهل تصنيف شيء ما على أنه محض شر والابتعاد عنه، لكنّ الأصعب هو فهم جذور المشكلة بهدف معالجتها".