ملخص
فيلم ينقل مأساة السوريين في قارب الهرب وآخر يوثق الأمل المفقود في لبنان
يحضر العالم العربي بأزماته السياسية والاقتصادية وحروبه وثوراته إلى الدورة الـ74 من مهرجان برلين السينمائي الذي يختتم مساء غد، ولو بمشاركة خجولة هذا العام. هذا ما نلمسه من خلال مشاهدتنا عديداً من الأعمال التي إما تأتي من العالم العربي مباشرة ومن منظور عربي خالص، أو تحمل توقيعات سينمائيين أجانب لهم اهتمامات بالعرب وبشؤونهم ومشكلاتهم وقضاياهم، خصوصاً في ظل اللجوء الذي تشهده بلدانهم. لسوء الحظ، إن الجودة على المستوى الفني ليست دائماً المعيار الوحيد الذي يقنع المبرمجين لضم هذه الأفلام إلى مهرجانهم. فالانفتاح على قصص وتجارب من مناطق مختلفة من العالم، وإعطاء منبر لمن لا منبر لهم، من هواجس مهرجان برلين الذي كثيراً ما تباهى بأنه تظاهرة سياسية في المقام الأول، ولا يهم إذا كان الفيلم المشارك فيه يتضمن عديداً من العيوب الإخراجية والهفوات الكتابية والضعف الأدائي.
أحد النماذج الصارخة التي تعبر عن هذه النزعة إلى تفضيل المضمون الإنساني والسياسي على الشكل الفني وطريقة المعالجة، هو "حال الغريب" (قسم "خاص برليناله") للمخرج والناشط في مجال حقوق الإنسان برانت أندرسن، الذي سبق أن أنجز فيلماً قصيراً بعنوان "لاجئ"، كان رشح لـ"أوسكار"، مما جعله يقرر تطويله كي ينجز أول فيلم روائي طويل له. يعبر أندرسن عن حبه للسوريين وإعجابه بهم في كلمة منشورة داخل الملف الصحافي للفيلم، ولكن هل الحب والإعجاب كافيان لصنع سينما ونقل تجربة شعب ومعاناته؟ في أي حال، هذا الإعجاب هو ما قاد خطى هذا المخرج لتصوير قصة أم وابنتها تفران من جحيم الحرب السورية إلى اليونان، هرباً من قصف الطيران الروسي وبطش النظام الحاكم. كاميرا أندرسن تتعقب مسارهما المحفوف بالأخطار، خصوصاً مع صعودهما وآخرين في قوارب الموت للانتقال من تركيا إلى اليونان.
العسكري والمهرب
الحكاية، أساساً، عن هذه السيدة وابنتها، لكن هناك حكايات متداخلة أخرى تطل برأسها وتتشابك بعضها ببعض. أبطالها: عسكري في جيش النظام السوري ووالده المعارض، ومهرب أفريقي مقيم في تركيا لا تهمه أرواح الناس بقدر ما يهمه المال، وشاعر يحاول نقل عائلته إلى اليونان، وقبطان سفينة نجاة يوناني لا يستطيع التخلص من عقدة الذنب تجاه الناس الذين فشل في إنقاذهم… لهؤلاء كلهم، أطفال، يضعهم الفيلم في الصدارة لخلق مزيد من التحسيس الأخلاقي والضغط على ضمير المشاهد. أما السيناريو فيتبنى تقنية تشابك المصائر، التي كان اشتهر بها السيناريست المكسيكي غييرمو أرياغا في أفلام أليخاندرو غونزاليث إينياريتو.
الفيلم يحاول أن يشد انتباه المشاهد الغربي إلى المأساة التي عاناها هؤلاء الناس في بلدانهم، ويبرر انطلاقاً منها انتقالهم إلى الغرب، ورغبتهم في الحصول على ملاذ آمن. لا اعتراض على هذا الخطاب، وهو مدعوم بمقولة لشكسبير تظهر في بداية الفيلم، يستمد منها فكرة التضامن البشري مع الضعفاء والمضطهدين. لكن، المشكلة في الأساليب التي يستخدمها والتي سرعان ما تخنقنا. ما من لحظة راحة في الفيلم المستعجل، ثم إنه يملي علينا جملة مشاعر، من خلال موسيقى وحركات كاميرا وإيقاع مونتاجي. هذا كله يحول الفيلم كليباً طويلاً عن حقوق الإنسان. لا نشعر بكثير ونحن نتابع الأحداث، والسبب الأبرز في ذلك هو الفرط في توظيف المواقف الدرامية لدفعنا إلى ذلك. طبعاً، هناك مشاهد قوية، لكن إذا تم توزيعها على ساعة ونصف الساعة، فالنتيجة ستكون مخيبة.
وإذا كان أندرسن بنظرته الخارجية على الأحداث والناس ورغبته العارمة في خلق وعي عند المتلقي الغربي لم يستطع نقل ما يجب أن ينقل إلى العالم بنضج وعمق، فهذه المشكلة هي ما تعانيها أيضاً ابنة البلد عندما تحكي عن قصتها وتجربتها. والمقصود بها المخرجة اللبنانية ميريام الحاج وفيلمها "متل قصص الحب" الذي عرض في قسم "بانوراما" المخصص للأفلام الوثائقية.
توثيق لبناني
الفيلم عبارة عن توثيق للأحداث التي مر بها لبنان منذ عام 2018، من انتفاضة الـ17 من أكتوبر (تشرين الأول) وصولاً إلى تفجير مرفأ بيروت، مروراً بالوباء وأزمة المصارف، ويبدأ بفوز الصحافية والكاتبة جمانة حداد بمقعد برلماني خلال انتخابات 2018، قبل أن تصادره منها بلا وجه حق في صباح اليوم التالي المافيا الحاكمة.
ثمة أحداث وتفاصيل يجب أن تقال وتروى وتنقل للعالم، وهذا يصح أيضاً في حال الأزمة اللبنانية التي تعاني تجاهلاً دولياً كبيراً. لكن من الضروري أن نسأل أنفسنا كيف يجب أن يقال ذلك كله، والأهم ما الفرق بين الفيلم الوثائقي الذي ينطوي أولاً على لغة سينمائية ومقاربة فنية للموضوع، وتقرير تلفزيوني الهدف منه محض إخباري. من الواضح أن ثمة لغطاً بين هذين المفهومين وقعت فيه المخرجة. فما قيمة مشاهد تظاهرات ومقابلات، إذا لم يكن هناك توظيف لها ووجهة نظر تبررها؟
عادة، عندما نقول وثائقياً نفهم شخصيات، والفيلم يعرفنا على اثنتين: جمانة حداد وميليشياوي سابق خاض الحرب، وقام بما قام من أعمال وممارسات، ومن جملتها إطلاق النار على بوسطة عين الرمانة التي أطلقت شرارة الحرب الأهلية اللبنانية (1975 - 1990). شخص يصعب التعاطف معه ولا يمكن فهم محله من الإعراب، وهو يحمل كل عيوب المحارب السابق الذي لا يزال يعيش الحرب في خياله ويحلم بعودتها. يكرر هذا الرجل زياراته إلى حلاق الحي، وفي الصالون يتبادلان أطراف حديث بلا أهمية كبيرة. هذا الرجل المقيم في الماضي يضعه الفيلم في محاذاة جمانة حداد، التي تملك رؤية لمستقبل لبنان، قائمة على نسف الطاقم السياسي القديم ورموز الحرب، والإتيان بدم جديد. وهذا ما نراه تسعى إليه في نشاطها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
جمانة وجورج (المحارب السابق) نقيضان، الأولى عقلانية تطمح إلى التغيير، الثاني يعتاش على البهورة وعينه على الماضي. يائس، يغلف يأسه بشعارات ماضوية ثم يعترف بالخسارة، أما جمانة فتؤكد رداً على سؤال أنها ستواصل المعركة، لكن الانتقال المفتعل من هذه إلى ذاك يحدث خللاً، ويحول الفيلم مسخاً، لا نفهم ما المطلوب منه. فنسأل ما علاقة هذا كله بعضه ببعض؟ هذا ما لا يمكن فهمه، والأجدر طرح السؤال على المخرجة.
لعل الجانب الذي يعبر عنه الفيلم جيداً هو انحسار الأمل، وكيف أن الزمن ترك آثاره العميقة في وجوه الناس بعد الجائحة والتفجير والأزمة المالية وفشل الثورة. بسرعة يخسر هؤلاء حماستهم للأشياء، فيسيطر على الفيلم النغم الحزين، وهذا ينقله الفيلم جيداً من خلال الوجوه.
تجوب كاميرا ميريام الحاج أزقة المدينة المنكوبة، وتعلق بصوتها على ما وصلت إليه الحال، متحسرة ومتحدثة عن قصصها العاطفية وتفاصيل قليلة عن أهلها.
لكن السؤال يفرض نفسه: من يخاطب هذا الفيلم؟ فاللبناني يعرف هذا كله عن ظهر قلب، بل عاشه ويعيشه إلى هذه اللحظة، أما الغربي فلا يوجد في الفيلم ما يروي عطشه السينمائي والمعرفي. في أي حال تبدو القضية اللبنانية هامشية، عند إلقاء النظر عليها من مسافة 3500 كيلومتر، وبعد زجها بين كم هائل من الأفلام التي توثق مآسي البشر والخراب الذي يحل بهم، من شرق الكرة الأرضية إلى غربها.