Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

واشنطن وحرب السودان... فائض العرض الانتخابي

ليست حرباً أهلية بالمعنى المتعارف عليه وإنما صراع يعكس أجندات سياسية وإقليمية داخلية وخارجية

ما سيبدو عسيراً في وجه الجهود الأميركية لإنهاء الحرب هو ما جرى من مياه تحت جسرها في الأشهر العشر الماضية (أ ف ب)

ملخص

من الواضح جداً أننا إزاء إعادة ترتيب لتجربة سياسية ربما تكون مختلفة عن تلك التي قادها تحالف "قوى الحرية والتغيير" خلال حكومة المرحلة الانتقالية السابقة

هل يمكن القول إن تعيين الولايات المتحدة توم بيرييلو مبعوثاً خاصاً للسودان، وتعيين قائم جديد بالأعمال هو دانيال روبنستاين، جزء من محاولات إدارة بايدن لتحقيق إنجاز ما قبيل الانتخابات تعويضاً عن تعثر ملفات عالمية وإقليمية معقدة كملفي أوكرانيا وغزة؟ الأرجح أن توجه الولايات المتحدة نحو محاولة إنهاء وضع الحرب في السودان ضمن أولوياتها للأشهر المقبلة هو جزء من ذلك السعي (ضمن أسباب أخرى منها قلقها من تجدد علاقات السودان مع إيران وتزويد الأخيرة لحكومة البرهان بمسيرات) لا سيما في ضوء بيان وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، الذي نشر على حسابه بمنصة "إكس" ("تويتر" سابقاً) بمناسبة تعيين بيرييلو، أن الهدف من تعيين بيرييلو هو "تعزيز جهودنا الرامية إلى إنهاء الأعمال العدائية وضمان وصول المساعدات الإنسانية بلا عوائق".

هكذا بعد أكثر من 10 أشهر خضعت إدارة بايدن لضغوط المشرعين الأميركيين من الحزبين في الكونغرس باتجاه تعيين مبعوث خاص للسودان من أجل إنهاء الحرب، لكن لا يزال الجدل ساخناً بين سياسيين في واشنطن حول نجاح المهمة الجديدة للمبعوث الأميركي توم بيرييلو على رغم ترحيبهم بقرار تعيين بيرييلو.

 فمن الواضح أن تلكؤ إدارة بايدن في الاستجابة المتأخرة لضغوط المشرعين - الذين يشكلون غالبية ضاغطة من الحزبين - لا يتناسب مع اهتمامهم الكبير بالوضع السوداني، فـ"أغلبية المشرعين الأميركيين لا يريدون مبعوثاً خاصاً فحسب، بل يطالبون بمبعوث رئاسي يتمتع بالصلاحيات المطلوبة لتنفيذ مهماته"، بحسب تقرير نشرته صحيفة "الشرق الأوسط".

وفي سياق البحث عن إنجاز ما للإدارة الديمقراطية في السودان قبيل الانتخابات، فإن ما سيبدو عسيراً في وجه الجهود الأميركية لإنهاء الحرب، هو أن ما جرى من مياه تحت جسر الحرب الطاحنة في الأشهر العشر الماضية خلق وقائع كثيرة وأسس لمراحل متقدمة من الصراع نخشى القول إنها أوشكت أن تكون قائمة على خلفية انقسام اجتماعي، وهو أخطر تداعيات الحرب الأهلية.

حراك إقليمي مواز

ويبدو أن هذه المقاربة الأميركية الجديدة في المسألة السودانية حركت على هامشها حراكاً إقليمياً موازياً، إذ رأينا (على رغم تصريحات سابقة لقائد الجيش الفريق أول عبدالفتاح البرهان بأنه لن يقبل بأي حل غير سوداني) توجهاً للبرهان إلى ليبيا تلبية لدعوة رئيس الوزراء الليبي عبدالحميد الدبيبة (الذي وجه كذلك دعوة إلى قائد قوات "الدعم السريع" الفريق حميدتي)، ثم رأينا مالك عقار نائب البرهان في مجلس السيادة يتوجه هو الآخر في جولة إقليمية شملت أوغندا ورواندا، معلناً انفتاح السودان على أي حل سياسي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي ظل أوضاع تشهد فيها ليبيا انقساماً يشبه الوضع السوداني، لا يمكننا قراءة لقاء البرهان – الدبيبة بمعزل عما جرى قبل أسبوعين من تقارب تركي - مصري في اللقاء التاريخي بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والمصري عبدالفتاح السيسي في القاهرة، لهذا كان من المتوقع أن يزور البرهان جمهورية مصر العربية بعد زيارته ليبيا، كما أفادت به قناة "الشرق" الإخبارية.  

ويبدو واضحاً أن هذا الحراك الإقليمي حول السودان على ضوء الحراك الأميركي أعاد فرزاً لتقاطعات إقليمية، لكننا لا ندري بالضبط ما إذا كانت جهود هذه التقاطعات تتجه نحو سياق حل الأزمة السودانية، أم تصب في إطار الجهود الموازية لمصالح الأطراف الإقليمية في إطار إبقاء الصراع السوداني ضمن أجنداتها المتناقضة.

فكما هو معروف ثمة تنسيق محكم ومتين في السياسات الإقليمية لكل من طهران وأنقرة حول المنطقة العربية، وفي ضوء هذا التنسيق يمكننا فهم التقاطع الذي يجمع بين مصر وإيران وتركيا في الوضع السوداني، وعليه هل يمكن القول إن التحرك الأميركي الأخير نحو الملف السوداني على هذا النحو غير المسبوق يأتي في إطار جديد لاحتواء وعزل الأجندات الإقليمية لحلفاء الولايات المتحدة في السودان باتجاه تقريب وجهات النظر، والعمل على حل الأزمة السودانية المتفاقمة على نحو ينذر بخطر كارثي يهدد مصالح تلك الأطراف؟ لا سيما أن المبعوث الأميركي للسودان بيرييلو صرح، بحسب صحيفة "الشرق الأوسط"، أنه "سيبني على جهود الشركاء في جميع أنحاء أفريقيا والشرق الأوسط لوضع حد للحرب والأزمة الإنسانية والأعمال الوحشية"، مضيفاً أن تعيينه "يعكس مدى الإلحاح والأهمية التي أولاها الرئيس الأميركي جو بايدن والوزير بلينكن لإنهاء هذه الحرب ووضع حد لكثير من الأعمال الوحشية في حق المدنيين، والحيلولة دون تحول الوضع الإنساني المروع بالفعل إلى مجاعة كارثية".

رهان قديم وأجندات إقليمية

لكن معطيات سابقة عن الوضع السياسي للسودان قبل الحرب ربما تكشف لنا عن أن حراك ما بعد الحرب من تلك الأطراف الإقليمية على ضوء المقاربة الأميركية هو كذلك استئناف للسياسة في ضوء أجندة تلك الأطراف قبل الحرب وبعدها، فوجود السودان في الأجندة الدولية والإقليمية بعد الثورة كان واضحاً من خلال مبادرات البعثة السياسية للأمم المتحدة في السنوات الأربع بعد الثورة إلى جانب مشاركات للاتحاد الأفريقي و"إيغاد"، فقد كان انخراط الأطراف يعكس توجهاً  لإرادات مختلفة لصورة وهوية السودان في أجنداتها المتعددة الوجهة والمكان، وعلى رأس تلك الأطراف الرباعية الدولية (الولايات المتحدة – المملكة العربية السعودية – بريطانيا – الإمارات) التي رعت الاتفاق الإطاري، فيما استضافت مصر مؤتمر الكتلة الديمقراطية التي عارضت هذا الاتفاق.

 

 

على ضوء ما قدمنا سندرك أن الحرب السودانية الجارية الآن، التي وصفها وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بـ"النزاع الفارغ من المعنى"، ليست حرباً أهلية بالمعنى المتعارف عليه، وإنما صراع يعكس أجندات سياسية وإقليمية داخلية وخارجية، ويرتبط في معنى أصيل منه بحدث الثورة السودانية ذاته، فالطرفان المتحاربان اليوم (الجيش و"الدعم السريع") كانا قبل الثورة جزءاً أساسياً من نظام الجنرال المعزول عمر البشير، الذي ظل على رأس الحكم 30 عاماً.

هذا ما سيفسر لنا بوضوح طبيعة الأجندات الإقليمية التي تنشط في هذه الحرب. لذا نعتقد أن أي  إمكان لحل الصراع – نظرياً – ترتبط على نحو عضوي بتوافق الأطراف الدولية والإقليمية متى أدركت تلك الأطراف أن انفجار الصراع في السودان وتداعياته الكارثية قد تبلغ حدوداً خطرة تتجاوز مصالح الأطراف الإقليمية كافة وتؤثر عليها سلباً. وهذا هو ما أكد عليه المبعوث الأميركي السابق للسودان دونالد بوث، حين قال في تصريحات لصحيفة "الشرق الأوسط"، "في حال السودان من الصعب أن نرى القوات المسلحة السودانية وقوات (الدعم السريع) يوافقان على وقف القتال والالتزام بمسار سياسي، إلا أن يصبح داعموهما مستعدين للضغط عليهما".

الخيار المدني ومواجهة الانسداد

ومع انسداد الحل الداخلي واستحالة حسم الحرب عسكرياً من أحد الطرفين، تراهن الولايات المتحدة على خيار لطرف ثالث يتعين عليه تولى السلطة السياسية في السودان بعد الحرب (القوى السياسية المدنية)، وهو خيار نرجو أن تكون أطراف إقليمية عديدة في المنطقة أدركت اليوم ضرورته على النحو الذي يسمح لها بالعدول عن محاولات عرقلته عبر دعم أطراف سياسية سودانية ظلت باستمرار عامل تعطيل وإعاقة لأهداف الثورة السودانية.

ويبدو هذا الرهان الأميركي على القوى المدنية واضحاً في بيان وزير الخارجية أنتوني بلينكن على "إكس"، حين أكد بوضوح "دعم الشعب السوداني في سعيه إلى تحقيق طموحاته بالحرية والسلام والعدالة".

لهذا يمكن القول إن تزامن انعقاد الورشتين الأوليين من الورش التسع لتنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم) برئاسة عبدالله حمدوك في كينيا حول "الترتيبات الدستورية وقضايا الحكم المحلي ما بعد وقف الحرب" (التي اختتمت أعمالها الأحد الماضي واستمرت لثلاثة أيام)، مع جهود المقاربة الأميركية الجديدة حول السودان، ربما يعكس تواطؤاً على منهج جديد نرجو أن يكون قادراً على تحقيق اختراق يقطع الطريق على  المأساة التي تلوح بها النتائج الكارثية لهذه الحرب.

 

 

وبحسب صالح عمار عضو المكتب التنفيذي وعضو اللجنة التحضيرية للمؤتمر التأسيسي لتنسيقية (تقدم)، فإن "هذه الورش التسع التي أقرها المؤتمر التحضيري لتنسيقية القوى الديمقراطية في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي بأديس أبابا تستهدف توافقاً وإجماعاً بحد أدنى على عدد من القضايا المعقدة، كالعدالة الانتقالية والأمن والترتيبات الدستورية والحكم المحلي والأوضاع الإنسانية، كما تستهدف الورش إشراك أكبر عدد من الفاعلين السياسيين من مكونات "تقدم" ومن خارجها، لتكوين رؤية استراتيجية يتم من خلالها إجازة توصيات الورش في المؤتمر التأسيسي ل"تقدم" المقرر عقده نهاية شهر مارس (آذار) على مدى خمسة أيام بمشاركة أكثر من 600 عنصر من أطياف القوى السياسية والمدنية والنقابات كافة".

في ما يرى المتحدث باسم تنسيقية "تقدم" علاء الدين نقد، أن الورش "تستهدف القضايا المحورية حول تنمية وتطوير الأقاليم وقضايا السلم المجتمعي هناك، ويمكن اعتبارها لبنة أساسية للمشروع الوطني السوداني بعد الحرب. هناك ورشتان ستنعقدان في بداية مارس المقبل حول العدالة الانتقالية والإصلاح الأمني والعسكري، كما تجري هذه الأيام تحضيرات للمؤتمر التأسيسي لتنسيقية القوى الديمقراطية والمدنية".

وبحسب علاء نقد، فإن "ورشة الإصلاح الأمني والعسكري من أهم الورش، لأن فشل التوافق عليها هو الذي أدي لقيام الحرب، وستعالج هذه الورشة أهم مشروع في الثورة السودانية في الانتقال الديمقراطي عبر الرهان على تكوين جيش مهني واحد ذي عقيدة وطنية من الجيوش المتعددة كافة، لأن هذه الجيوش المتعددة تشكل الخطر الأعظم على الانتقال السياسي، بل على السودان ذاته كما نشهد ذلك في مجريات هذه الحرب. أما ورشة العدالة الانتقالية فهي ركيزة أساسية للانتقال، لأنها الضامنة لإعادة الحقوق إلى السودانيين كافة الذين تضرروا من كل الحروب السودانية، وهناك ورش ستأتي تباعاً كورشة إصلاح الخدمة المدنية، وورش أخرى ستنعقد بعد قيام المؤتمر التأسيسي".

"تقدم" تجريب سياسي جديد  

وفق هذه التصريحات من الواضح جداً أننا إزاء إعادة ترتيب لتجربة سياسية ربما تكون مختلفة عن تلك التي قادها تحالف "قوى الحرية والتغيير" خلال حكومة المرحلة الانتقالية السابقة، يتبين هذا إذا ما عرفنا مثلاً أن 70 في المئة من الهيئة القيادية لتنسيقية "تقدم" الحالية تتكون من عناصر تشمل قوى سياسية ومدنية ولجان مقاومة ونقابات وأجسام مهنية ومستقلين، فيما تمثل الأحزاب والتحالفات السياسية (ومنها تحالف "قوى الحرية والتغيير") 30 في المئة من الهيئة القيادية لتنسيقية "تقدم".

ولعل هذا هو ما يفسر لنا اختلافاً واضحاً لموقع رئيس تنسيقية "تقدم" عبدالله حمدوك اليوم عن موقعه السابق بالأمس (حين كان رئيساً للوزراء يحكم بالتوافق مع الاختيارات السياسية لتحالف "قوى الحرية والتغيير")، إذ شهدت العلاقة بين حمدوك والتحالف آنذاك حالات شد وجذب انعكس أثرها سلباً في مسار حكومة المرحلة الانتقالية إلى الدرجة التي دعت حمدوك إلى تبني مبادرات إصلاح حالت دونها جهودها انقلاب البرهان – حميدتي على المرحلة الانتقالية في الـ25 من أكتوبر 2021.

تقول التسريبات إن حمدوك استفاد من أخطاء تجربته السابقة مع تحالف "قوى الحرية والتغيير"، لا سيما خلال النقاش الساخن الذي استمر لساعات بينه وبين قيادات من التحالف في أكتوبر الماضي قبيل انعقاد الاجتماعات التحضيرية لتكوين تنسيقية "تقدم" بأديس أبابا، ففي حين استعجلت قيادات من "الحرية والتغيير" عقد الاجتماعات التحضيرية في غياب قيادات أخرى مستقلة - تأخر حضورها عن موعد الاجتماع المضروب -  أصر حمدوك على ضرورة استكمال حضور قيادات وفود الكتل المشكلة للتنسيقية كافة، مما أدى إلى تأجيل الاجتماعات ليوم واحد حتى تم استكمال النصاب بحضور القيادات السياسية المستقلة، وأسفرت تلك الاجتماعات التحضيرية عن الوضع الجديد في نسب الهيئة القيادية لتنسيقية القوى الديمقراطية والمدنية التي تتكون من 30 عضواً.

اليوم في ظل الخطر الوجودي على السودان من تداعيات هذه الحرب، يتعين على تنسيقية "تقدم" وهي تستعد لانعقاد مؤتمرها التأسيسي في نيروبي نهاية مارس المقبل الاضطلاع بروح نقدية حساسة حيال مهمتها الوطنية المعقدة، بالقدرة على التغلب على العقبات التي تواجه استحقاق تكوين جسم سياسي قوي وواسع له القابلية والمرونة لاستقطاب القوى السياسية والمدنية والنقابية ولجان المقاومة والمستقلين كافة (ماعدا "المؤتمر الوطني" المنحل وواجهات الحركة الإسلامية) في جبهة واحدة، وببرنامج إنقاذ وطني للوضع السياسي السوداني ما بعد الحرب، وعلى نحو لا يعذر أية قوى سياسية من الالتحاق بالجبهة السياسية الجديدة بوصفها قاطرة المهمة الأخيرة لفرصة استرداد السودان من عاصفة فوضى الحرب العبثية المدمرة.   

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل