يقول توم بيرك وقد أرخى بجسده على المقعد "أنا أتهيّب من المقابلات نوعاً ما .. أعتقد أنني سأكون حذراً للغاية، ما رأيكَ بهذا؟ وما رأيكَ بذاك؟ ثم يقول صوت داخلي: حسناً، إليكم عِظتي الفريدة والخالدة. إنه أمر مؤلم جداً، لأن الكثير من غرورك يطفو إلى السطح".
نحن جالسان في حانة في أحد فنادق لندن ، وهو موقع تصوير مشهد من مسلسل "سترايك" الذي كتبته الروائية جي كي رولينغ ويؤدي فيه بيرك، 38 عاماً ، أشهر أدواره.
ثمة رسم كاريكاتوري لبوريس جونسون معلق خلفنا على الجدار. يقرأ بيرك بصوت عال التعليق المرفق بالرسم: "خِداع، خِداع"، ثم يقول ببطء وهو يرتشف الشاي الأخضر "يبدو ذلك صحيحاً".
يرتدي الممثل المولود في لندن قبعة مسطحة وسروالاً بحمّالات، ولايقل سحراً عن أنتوني، الشخصية التي يؤديها في الفيلم الجديد "التذكار" ( The Souvenir) للمخرجة البريطانية جوانا هوغ. إنه ليس من النمط الهوليوودي التقليدي؛ فبيرك ولد بشفة مشقوقة، ويبدو وسيماً لكنه أشعث الشعر، وهو حسبما وصفته هوغ "يختلف تماماً عن جميع أولئك الممثلين الشباب المنشغلين بممارسة التمارين البدنية". ولفتت المخرجة أيضاً إلى أن بيرك لا يختلف كثيراً عن النجم الأميركي الراحل أورسون ويلز في أيام شبابه، والحق ان هذه المقارنة تبدو دقيقة بشكل مذهل.
في كل الأحوال، بيرك لايشبه من قريب أو بعيد الكريه أنتوني الذي يؤدي شخصيته في الفيلم. فهذا رجل جذاب له شخصية مزدوجة، إذ هناك احتمال بأن لديه وظيفة حكومية مُختـَلـَقة، أقام علاقة مع طالبة تدرس السينما تصغره بسنوات عدة تدعى جولي (تؤديها الممثلة الاسكتلندية أونر سوينتن بايرن ابنة الممثلة تيلدا سوينتن في أول دور تمثيلي لها)، مما أحدث اضطراباً نفسياً وعاطفياً لدى الفتاة.
يقول بيرك وهو ينقر بإصبعه على الطاولة مع كل مقطع يتلفظ به "أنا أحب أنتوني ... عدم صدقه يبلغ أقصى الحدود التي يمكن أن تتخيليها، إنه يتمتع بجميع أنواع الصفات السيئة، ولكن لديه شيء ما أحبه. لا أعرف لماذا، لكن هناك ذلك الشيء فقط. بالنسبة لي، أراد أن يصدم جولي قليلاً، حسناً، هذا تصرف عنيف في حد ذاته، لكنه أرادها أن تغتنم الفرص أكثر مما كانت تفعل بقليل".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويقول، إن محاولة استنتاج ما إذا كانت الشخصية جيدة أو سيئة أمر ممجوج في نهاية المطاف. "فهناك ما يكفي من هذا في العالم من حولنا، في السياسة والدين وحتى الصحافة. يوجه الجميع الجميع أصابع الاتهام قائلين : إن هؤلاء قد أخطأوا.. لكننا لسنا بحاجة إلى المزيد من هذا. دعونا فقط نترك هؤلاء الأشخاص ليعشيوا على حقيقتهم".
يمكن وصف عدد قليل جداً من شخصيات بيرك بأنها جيدة أو سيئة. في "سترايك" هو شخص فظ ومتهكم ومعذَّب. أما في مسلسل الحركة التاريخي "الفرسان" الذي أنتجته "هيئة الإذاعة البريطانية" (بي بي سي)، فكان شخصاً مضطرباً لايطمئن للنساء. وفي مسرحية "روزمرزهولم" التي نالت استحساناً كبيراً من النقاد لدى عرضها على مسارح لندن الراقية في "ويست إيند"، لعب بيرك دور البطولة كشخص تائه ومخذول إلى جانب هيلي أتويل في وقت سابق من هذا العام.
يقول الممثل "أردت أن أؤدي تلك المسرحية لأنها تتعلق بشخص يتساءل: ’ألا يمكننا التوقف والإصغاء والاعتراف بأننا جميعاً مشوشون للغاية حول الحياة؟’ .. أعتقد أن هناك قيمة في الأشخاص الذين يتحدثون، كل ما في الأمر هو أننا نعيش في هذه الثقافة التي يريد فيها الجميع ’فضح’ بعضهم بعضاً في كل لحظة، بسبب تحيزهم اللاواعي أو أيا كان السبب، والناس لا يشعرون بعد ذلك بحرية كافية كي يتحدثوا. هل تفهمين قصدي؟"
هل يتحدث عن ثقافة الفضح وكيف يعيب البعض على آخرين فعل شيء يعتبرونه غير مقبول؟ يردّ الممثل "حسناً، هذا صحيح. أقصد، أنني لا أريد تناول موضوع ثقافة الفضح هذه، لأنني أعتقد أن ثمة حاجة لها، ولكنني قرأت مقالاً مثيراً للاهتمام لكاتبة نسوية سوداء تقول فيه إن تلك الثقافة تجلب العار إلى الجو كله. ويمكن للعار أن يشل الناس بشكل كبير. عندما نريد للأشياء أن تتحرك إلى الأمام وتتطور، يمكن لهذه الثقافة أن تكبح الحركة". يدرك أنه قد استرسل في الحديث فيتوقف فجأة ويصيح بنبرة المنتصر "أرأيتِ؟ كل هذه الأشياء التي تعتقدين أنك لا تريدين التطرق إليها، ثم تجدين نفسك فجأة تتحدثين عنها!".
يوافق بيرك، مع ذلك، على أنه من المهم في بعض الأحيان وصف السلوك السيئ. "أنا أكره فكرة حدوث أي شيء مسيء أثناء التصوير. وتروج للآن تلك الخرافات التي تزعم بأن المخرجين يمكن أن يكونوا سيئين ورهيبين بطريقة أو بأخرى .. أنا أكره كل ذلك الهراء". وحين أسأله ما إذا كانت تلك الخرافات قد تبددت، يجيبني قائلاً "أتمنى لو كان الأمر كذلك. لا أعتقد أنها اختفت بالضرورة. أظن أن هناك أشخاصاً ربما لم يتصرفوا بشكل يمكن اعتباره سلوكاً جنسيا غير مناسب لكن كان هناك قيل وقال عنهم، كما أسمع باستمرار قصصاً عن أمور تحدث أثناء التصوير. مثلاً لا يوظف مخرج ما مدير مشاهد قتالية، لأنه يريد أن يبدو المشهد ’حقيقياً’ ولا يدرك أن مسألة السلامة واجبة".
يتذكر قصة "كابوسية بكل ما للكلمة من معنى" سمعها من صديق ممثل. يقول: "لقد أصيب عملياً باضطراب ما بعد الصدمة بعد ذلك .. لأنه كان يلعب دور شخص تعرض لمعاملة سيئة للغاية، جسدياً وجنسياً، ولم يكن هناك فهم كافٍ لوجود طريقة آمنة لتمثيل ذلك. وفيما يتعلق بالجنس، أعتقد أن كل ما حصل من حولنا قد ساعد في هذا الموضوع. أنا قلق فقط بشأن العنف. وهو يقلقني فقط بسبب ما اسمعه من ممثلات كثيرات. يريد الناس أحياناً نوعاً معيناً من السخونة في الفيلم".
مهما يكن من أمر، فقد عولج كل شيء في فيلم "التذكار" على حد قوله "بلطف شديد". أسأله إن كان يعتقد أن وجود مخرجة قد يحدث فرقاً؟ فيجيب "أود لو أستطيع قول ذلك، لكنني سمعت الكثير من القصص عن المُنتِجات والمُخرِجات. لكنه فقط ليس بهذه المباشرة. قد يكون الأمر مرجحاً أكثر على هذا النحو، لكنني إن قلت ذلك، فأنا سأكون كمن لايحترم الأشياء التي سمعها".
يعتبر "التذكار" في أحد جوانبه فيلم سيرة ذاتية ، أو هو إلى حد ما نسخة متخيلة من تجربة هوغ الخاصة في مدرسة السينما. وبالإضافة إلى العلاقة السامة التي تقبع في جوهره، فإنه يتصدى أيضاً لأفكار التفضيل والتملّك. تصور جولي فيلماً عن فتى من الطبقة العاملة وأمه التي تواجه الموت في ساندرلاند، وهذا عالم لا تعرف عنه سوى القليل، لانها تعيش على حساب والدتها الثرية. ولو كانت في وضع أبطالها المالي نفسه، لما تمكنت من ارتياد مدرسة السينما.
من جانبه، يوافق بيرك على النظر لفكرة الطبقة الاجتماعية على أنها قضية في الفيلم، كما هو الحال في صناعة السينما خارجه. يقول "بالتأكيد لا يوجد بين أبناء جيلي عدد كاف من الممثلين المتحدرين من خلفية الطبقة العاملة .. ويعود هذا لأسباب مختلفة".
للتنويه فقط، فإن والديّ بيرك ممثلان، وقد أسهم النجم البريطاني الراحل آلان ريكمان، الذي كان عرّابه، في دفع رسوم تعليمه في مدرسة "رادا" للدراما.
يتابع بيرك "هناك أنواع مختلفة من الثقافات في صناعة التمثيل .. أعتقد أن هناك نمطاً معيناً من المخرجين المسرحيين ممن ينتمون إلى جيل معين، هو جيل خريجي جامعات بمستوى أكسفورد وكمبريدج الرفيع. أستطيع أن أتخيل وجود طاقات معينة لاعلاقة لها بالنوع الذي توّلده جامعات كأكسفورد وكمبريدج ، وربما سيقولون ’أوه، نحن لا نعرف ما هذا’. أنا لا أريد التحدث بتحجّر، وأدرك أن الناس قد يجدون هذا الكلام فوقياً، ولكن هناك نوع من الطاقة يمتلكه الكثير من الأشخاص من خلفيات عمالية، والذي لا يتمتع به خريجو أوكسبريدج، وهي طاقة حيوية بالفعل. إنها بالضبط ذلك النوع من الطاقة التي من شأنها أن تعطي دفعة كبيرة لهذه الثقافة. يمكنها أن تأتي مع الكثير من الثقة، ثقة الشارع الذكية".
من المهم بالنسبة لبيرك أن يكون بإمكان الناس الوصول إلى العرض ومشاهدته، عندما يتعلق الأمر بسعر تذاكر المسرح، وأنماط الأشخاص الذين تتاح لهم صناعة الفن. لكنه يضيف "لا أعتقد أن تعبير ’يمكن الوصول إليه’ مفيد إبداعياً، من حيث سرد القصص. ما تحتاجين إلى فعله حقاً هو شيء يثير اهتمامك. ويقول وهو ينقر على الطاولة من جديد إن فيلم "التذكار" هو قصة محددة بشكل لا يصدق، ولكن الناس سيجدون فيه أشياء عامة. لأن هذه هي طريقة نسج القصص".
(بدأ عرض فيلم "التذكار" The Souvenir في دور السينما البريطانية يوم الجمعة الماضي)
© The Independent