طوال أربع سنوات، أجرت المخرجة الوثائقية والكاتبة الفرنسية صوفي بونيه لقاءات شهرية مع الإرهابي الدولي إيليتش راميريز سانشيز الملقب بـ"كارلوس" والمعتقل في فرنسا منذ عام 1994.
كانت بونيه مقتنعة بأن مقابلاتها مع كارلوس ستدور على غرار ما أجرته من مقابلات في حياتها المهنية: تطرح الأسئلة وتحصل على الأجوبة وتضعها في شريط وثائقي أو كتاب.
اعتقدت انها سترى الشر المُطلق الذي روّع العالم على مدى عقود باعتداءات واغتيالات نفّذها في دول عدة وانها ستتمكن من أن تصل الى حقيقته ودوافعه. وتوقّعت أن يكون قد راجع وأدرك حقيقة ما ارتكبه من أعمال إجرامية على مدى عقود وأن إقامته في السجن ولّدت لديه نوعاً من الأسف أو الندم.
لكن منذ اللقاء الأول في مايو (أيار) 2014 مع كارلوس، وجدت بونيه انها فاقدة للسيطرة على زمام الأمور أمام رجل مُسن (ولد عام 1949) سمين ومتعب لكن متصابٍ. ووجدت انه لا يكترث لها ولما تتوقّعه منه، إنما للزيارة بحد ذاتها كونها مناسبة نادرة للاحتكاك بشخص من العالم الخارجي.
في بداية اللقاء، وبّخها بقسوة لأنها تأخرت على الموعد المحدد للزيارات ومن ثم بدأ يروي لها أو بالأحرى لنفسه قصصاً غير مترابطة عن حياته داخل المعتقل وعلاقته بالمساجين وأمور اخرى على صلة بطفولته و شبابه.
اللقاء الثاني جرى على نفس المنوال، كونها وصلت مجدداً متأخرة فوبّخها وحذّرها من ان التأخير يؤدي أحياناً الى إلغاء الزيارة قبل أن يبدأ بوابل من كلام لا يتوقف. أدركت بونيه انه يريد التأكد من سيطرته عليها وحملها على أطاعته كما خلصت إلى انه يريد استغلال وجودها ليبتعد عن واقع المعتقل في حين انها تريده موضوعاً لعمل أدبي ووثائقي.
تأكّدت من صعوبة التحدث إليه، إذ لا مجال للتبادل، انما المطلوب منها هو الإصغاء طوال مدة الزيارة الى حديثه المبعثر وغير المتجانس. خاب أملها بتحقيق ما وعدت نفسها به أي الدخول الى عقل هذا الرجل، إذ ان الزيارات كانت تتوالى وتجد نفسها انها تراوح في مكانها.
بدأت تفكر بالكف عن هذه الزيارات ولكن ما أن يمر شهر حتى تجد نفسها في القطار الذي ينقلها الى السجن. كارلوس أقحمها في عالمه بحيث باتت تعرف واقعه اليومي، كما تعرفت على حراسه وعدد من المعتقلين معه. كان يحرص باستمرار على تمييز نفسه عن سواه من نزلاء السجن فيقول انه معتقل سياسي وليس مجرماً مثل الآخرين.
أراد أن يُظهر لها شعبيته وسط المعتقلين الذين يتعامل معهم بفوقية وأبوية وهم يماشونه في ذلك لكونه من جيل وزمن آخر. زيارات بونيه له كانت في بعض الأحيان مناسبة تقوده ذهنياً الى خارج السجن، فيتخيل انها ستُعد فيلماً سينمائياً عنه وان الممثل الفرنسي الشهير ألان دولون سيلعب فيه دور كارلوس.
كان يروي لها مداهمات الحراس للزنزانات بحثاً عن مخدرات أو هواتف نقالة ليفاخر بأنه من السجناء النادرين الذين لا هاتف نقال لديهم ولا مخدرات. نجح في إقحامها في عالمه ولم يتوانى عن استغلالها من خلال الطلبات التي كان يقدمها في آخر كل زيارة.
كان يطلب الكتب واشتراكات في صحف ومجلات وحلويات وأيضا سيجار. وفي إحدى المرات، أراد طابعة من ماركة معينة ومواصفات محددة. وعلى امتداد اللقاءات، تحول كارلوس عن لهجة التوبيخ التي اعتمدها بداية وبات يسعى الى إغواءها مستغرباً عدم تجوبها ومتسائلاً عما إذا كان السبب هو الفارق في السن.
زوجة كارلوس
كما أقحم كارلوس الكاتبة في حياته الشخصية، إذ كان يحدّثها عن مغامراته النسائية وعن حياته الزوجية مع المحامية الفرنسية إيزابيل كوتان بير التي تزوجته بعد اعتقاله. فزيارات بونيه المُنتظمة أغضبت الزوجة التي ترتاب من الإعلام فطلبت مقابلتها لإبلاغها انها كونها موكلة كارلوس وأيضاً زوجته ستكون لها بالمرصاد وتدقّق في أي عمل تلفزيوني وأدبي تُصدره عنه.
هذه الزيارات لم تكن تخلو أحياناً من فورات الغضب، إذ ان كارلوس كان يشكو من افتقاره للمال، فالأشخاص الذين كانوا يمدونه بمبالغ منتظمة زالوا مع مرور الوقت وأحوال أسرته الفنزويلية الثرية تردت وشح دعمها له.
وأحياناً كان يشكو من الحر داخل السجن أو من عدم قدرته على التركيز في دراسته للأدب الفرنسي، في حين ان المعتقلين الآخرين يشاهدون أفلاماً إباحية.
كان يرى ان هذا الأذى بحقه، كونه كرس حياته للدفاع عن المضطهدين و"محاربة الإمبريالية والصهيونية"، تصرف "لا يغتفر".
وعندما يستعيد هدوءه، كان يسترسل في صياغة سيناريوهات عن احتمال خروجه من السجن على رغم إدانته بثلاثة أحكام بالسجن المؤبد عن اعتداءات نفّذها في فرنسا وأسقطت عدة قتلى. فلدى كارلوس قناعة بأن أسرته وسلطات بلاده فنزويلا مسترسلة في محاولاتها لاسترداده وإعادته الى وطنه.
وفي العام 1999، وبعد مضي أربعة أعوام على اعتقاله، أضرب كارلوس عن الطعام ووجّه من زنزانته "وصية" تقول بأن أمنيته الأخيرة أن يعمل مناصرون الى "قتل عدو أميركي أو عدو صهيوني" مقابل كل يوم أمضاه في السجن في فرنسا.
هذه الوصية دعت ببساطة الى قتل 1500 شخص، لكنها لم تلق أي صدى أو تبعات، فأوقف كارلوس إضرابه عن الطعام لكنه بقي متمسكاً بالأسطورة التي نسجها لنفسه وتساعده ربما على تحمل عزلته وبأن لديه في العالم أفلالاً من المؤيدين.
ويرتسم من خلال الكتاب الذي أعدته بونيه عن كارلوس وعنوانه "سالوتاسيون ريفولوسيونير" أي "تحيات ثورية" صدر عن دار غراسيه صورة شخص بائس سيمضي ما تبقى له من العمر في السجن لكنه مقتنع بأن ما ارتكبه من أعمال دامية لم يكن إجراماً وارتزاقاً وإنما بطولات وانه ضحية "مؤامرة إمبريالية وصهيونية" أدخلته الى السجن.