Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

استعادة فرنسية لإرث ابن خلدون المغاربي في سياقه التاريخي المضطرب

بحث يلقي الضوء على مفاهيمه الموضوعية التي ساعدت على فهم واستكشاف الاتجاهات التي حكمته بعيداً من التفسيرات الغيبية

ابن خلدون رائد التاريخ الحضاري (صفحة ابن خلدون على فيسبوك)

ملخص

"ابن خلدون، مسارات مفكر مغربي" هو عنوان كتاب الباحث والأكاديمي المغربي - الفرنسي مهدي غويركات، الأستاذ في جامعة بوردو- مونتاني وفي جامعة محمد السادس، بالرباط، الصادر حديثاً في باريس عن منشورات المركز الوطني الفرنسي للبحوث العلمية (2024). يقع الكتاب في 288 صفحة، ويعيد قراءة ظاهرة ابن خلدون من زاوية جديدة مقدما مقاربة شاملة عن فكره العمراني والفلسفي.

يرسم كتاب "ابن خلدون، مسارات مفكر مغربي"، مسرى حياة هذا المفكر العربي الذي أسس علم العمران وبرع في مجال الفلسفة والاقتصاد والسياسة والتاريخ في سياق أحداث عصره، سارداً تعاليمه ومسيرته كقاضٍ ومستشار سياسي ونظريته في الحضارة وغيرها، مناقشاً كيفية بناء شخصية أيقونية احتلت مكانة فريدة في تاريخ الفكر العربي الإسلامي، قال عنها المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي، إنها وضعت "فلسفة للتاريخ تُعد في هذا المجال أعظم عمل أُبدع في أي زمان ومكان".

تجسد هذه العبارة بحسب غويركات مكانة ابن خلدون الاستثنائية، إذ يعتبره المؤرخون وعلماء الاجتماع والفلاسفة والاقتصاديون أحد الشخصيات الملهمة الكبرى، فيرجع إليه السياسيون كسند فكري، وإن اختلفت مقارباتهم باختلاف السياقات بين دول الغرب ودول الجنوب النامية، إذ استشهد به الرئيس الأميركي السابق رونالد ريغان للترويج لفوائد الليبرالية الاقتصادية، كما لجأ إلى نظريته في الضرائب رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، وعبر المبرمج مارك زوكربيرغ عن إعجابه بفكره، وكذلك فعل مرشح الرئاسة الفرنسية إريك زمور عام 2022 حين قال بضرورة العودة إلى فكره بغية فهم العالم.

في كتابه هذا يؤكد غويركات أن كتابات ابن خلدون (1332-1406) تُعد مصدر إلهام لعدد من المؤرخين وعلماء الاجتماع والاقتصاد والفلاسفة القدماء والمعاصرين على حد سواء. ويُعزى ذلك إلى مؤلفه الرئيس "كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر" ومقدمته الشهيرة، اللذين حاول فيهما فهم التاريخ العالمي مقدماً نظرية حول التغير الاجتماعي والسياسي استناداً إلى مفاهيم مثل "العصبية"، التي تشكل محركاً لدورات صعود الحضارات وسقوطها، معتمداً على مقاربة شاملة تدمج بين العلاقات الاقتصادية والمؤسسات والبيئة لفهم ديناميات المجتمعات البشرية. ويشير كذلك إلى أن شهرة ابن خلدون، منذ إعادة اكتشافه في أوروبا قبل قرنين، استمرت بالنمو حتى أصبح من أوائل المفكرين العرب المسلمين الذين يتمتعون بحضور عالمي. وذلك بوصفه مؤسساً للفكر الحديث في ميادين علوم الاجتماع والاقتصاد والدولة، إذ أمكن مقارنته بعظماء العصور القديمة والحديثة من أمثال توسيديديس وميكافيللي ومونتسكيو وماركس وغيرهم.

 

تجاوز الصورة الرومانسية

يسعى كتاب غويركات إلى تجاوز الصورة الرومانسية لـ"العبقري المنعزل"، من خلال استعادة سيرته في فترة اتسمت بانتشار "الموت العظيم" أو وباء "الطاعون الأسود" الذي اجتاح أنحاء من أوروبا وشمال أفريقيا بين الأعوام 1347 و1352، وفشل السلطان المريني أبو الحسن (1333-1348) في توحيد المغرب. فيسرد لنا تنقلات هذا المفكر بين بلاطات العالم الإسلامي في المغرب العربي، في تونس وفاس وغرناطة وبجاية وتلمسان، قبل أن ينفي نفسه إلى القاهرة، عاصمة الإمبراطورية المملوكية التي كانت آنذاك واحدة من أبرز الحواضر الإسلامية، متفرغاً للتعليم والعمل القضائي المالكي، حيث عاش حتى وفاته عن عمر بلغ 76 سنة، ودفن قرب باب النصر شمال القاهرة. كما يلقي الكتاب الضوء على الظروف التي أسهمت في تكوين نظرية ابن خلدون في الحضارة ومصطلحاته المرتبطة بعلم العمران، محللاً رؤيته لأسباب قيام الحضارات واندحارها، معرجاً على منهجه واعتقاده بأن للحضارات، كما للأشخاص، أعماراً، وبأن مراحل قوتها وضعفها مشابهة تماماً لحياة الانسان الذي يولد ضعيفاً ثم يقوى، فيضعف مطبقاً بذلك سُنة الخالق، مفسراً انحطاط الحضارات بتغلب الأعراب على الأوطان والاستبداد بالملك وحصول الترف، مشيراً إلى أن الظلم يؤذن بخراب العمران وأن الوصول إلى قمة الحضارة هي غاية العمران وهي في الوقت عينه الإيذان بفساده.

يبدأ كتاب مهدي غويركات بتأكيد ضرورة إعادة قراءة حياة وأعمال ابن خلدون في سياق عصره، متتبعاً مسيرته بدقة، محاولاً الإجابة عن سؤال أسبقية نشأة علم الاجتماع عند العرب المسلمين في القرن الـ14 قبل قرون من ظهور أوغست كونت في القرن الـ19 في فرنسا، واهتمام الغرب بفكره واعتراف علمائه بفضل ابن خلدون في إرساء السوسيولوجيا الوضعية والفلسفة السياسية. ولعل الاهتمام الراهن بهذا المؤرخ والفيلسوف يعود برأي المؤلف إلى سعي الباحثين من أصول مغاربية إلى إعادة الاعتبار لأسماء بعض الأعلام العربية بعد السقوط في براثن الاستعمار، كرد على تُهم التعصب والانغلاق، مما يجعلهم في حال من فخر بهذا المفكر العظيم، الذي كان ينتصر للعقل والتقدمية وكان يسبق العالم في إعمال الفكر والضمير الحر والحداثة، على ما يقول المثقف الجزائري مالك بن نبي. من هذه الزاوية نفهم إشارة المؤلف إلى دراسات كل من الفيلسوف المغربي محمد عزيز لحبابي والعالم الإسلامي المصري علي عبدالواحد وافي الذي حقق "مقدمة" منشئ علم الاجتماع، متحدثاً عن عبقريته، والفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري الذي تناول فكر ابن خلدون في كتابه "بنية العقل العربي"، والمنظر القومي العربي ساطع الحصري... إلخ. وإلى مؤتمرات لا تعد ولا تحصى تناولت نظرياته وآراءه المتعلقة بفلسفة التاريخ والعصبية القَبَلية ونشوء الأمم وتطورها... إلى آخره.

دراسات كثيرة

يؤكد مهدي غويركات في مقدمة الكتاب (ص7- ص 22) أن السبب الذي دفعه إلى وضعه هو كثرة الدراسات القديمة والحديثة التي تناولت فكر ابن خلدون، إذ "شكلت غابة كثيفة" "غطت شجرة ابن خلدون الوارفة". فكان لا بد، بحسبه، من إعادة النظر بكل هذه الدراسات وتنظيمها أو وضعها عند حدها، إذ حمل بعضها فكر ابن خلدون أكثر مما يحتمل، وادعى بعضها الآخر بأنه أول من ابتدع نظريات سوسيولوجية راهنة.

يتناول كتاب غويركات إذاً على تتالي فصوله الـ15 حياة هذا المفكر والمؤرخ منذ أيام "السعادة والشقاء" التي عاشها أجداده، لا سيما بعد استقرارهم في الأندلس، حيث تسلموا مناصب سياسية مرموقة، فحافظوا على مكانتهم متنقلين بين رئاسة علمية وأخرى سلطانية. ثم ما شهده هو نفسه في فترة شبابه في تونس من "فِتَن ومِحَن" أيام "شيخوخة العالم" وانتشار الطاعون والصراعات السياسية والعسكرية التي شكلت رؤيته الواقعية للسياسة والعلاقات بين المدن في صراعها وتوترها مع قبائل البدو. فيتحدث عن نشأة ابن خلدون في كنف عائلة ضمت علماء وسياسيين كباراً ومراحل تحصيله العلمي وقراءته أمهات الكتب الأدبية والفلسفية والتاريخية، متوقفاً عند استدعائه إلى البلاط الملكي وبداية حياته السياسية والوظائف التي تسلمها في تونس بعد أن ولاه ابن تافراكين أولى مهماته المتمثلة بكتابة العلامة في المراسيم ومخاطبة السلاطين، ومشاهدته هزيمة جيش السلطان، ثم سفره إلى المغرب حيث تبوأ أكثر من منصب.

إلا أنه لم يبق في هذه الوظائف لوقت طويل لتعرضه لكثير من الدسائس بسبب علمه الواسع وكاريزميته التي أثارت ضده المؤامرات. فقد سُجن ابن خلدون قرابة السنتين لاتهامه بأنه ساعد أحد الأمراء في استرجاع ملكه، لكنه بعد خروجه من السجن استعاد بعض مهماته في القضاء بين الناس وإقامة العدل والحجابة أي "الوساطة بين السلطان وأهل دولته". فكان زمام أمور الدولة كافة في يده، وهو مما تطلب أن يكون صاحب هذه الوظيفة على قدر من العلم والثقافة والنباهة. يقول لنا غويركات إن هذه الصفات كلها اجتمعت في ابن خلدون، فكان مصدر ثقة لكثير من السلاطين. فعُين سفيراً لعدد منهم في مناطق مختلفة في الشرق والغرب، لكنه ترك السفارة ليمكث في قلعة بني سلامة قرابة أربعة أعوام تفرغ خلالها للكتابة، صائغاً كتباً عدة، أهمها على الإطلاق "كتاب العبر" ومقدمته الشهيرة، وهو عصارة تجاربه الحياتية واحتكاكه المباشر بدوائر السلطة في حواضر الخلافة الإسلامية وما دار فيها من صراعات وتوترات.

بين الشرق والغرب

يعالج كتاب "ابن خلدون، مسارات مفكر مغربي" كذلك كيفية تلقي الغرب والشرق فكر هذا المؤرخ ومؤسس علم الاجتماع. فيخصص فصلاً يتطرق فيه إلى المسالك التي انتهجها الفكر الخلدوني للوصول إلى قرائه. فكان أولها في الغرب مع يوحنا-ليون الأفريقي (1488- 1554) أو الحسن بن محمد الوزان، المولود في مدينة غرناطة، الذي قُدم في روما هدية للبابا ليون العاشر، الذي عمّده وأدخله المسيحية للاستفادة من معارفه وعلومه إبان النهضة الأوروبية. ففي كتابه "وصف أفريقيا"، نقل يوحنا-ليون الأفريقي كتابات بعض المؤرخين والجغرافيين المسلمين، كالبكري والقيرواني وغيرهما، متوقفاً بإسهاب أمام كتابات ابن خلدون. أما في الشرق فإن أعمال الأديب الأندلسي أحمد المقري التلمساني (1578-1631)، صاحب كتاب "نفح الطيب" وشارح "المقدمة" أسهمت بصورة كبيرة في نقل أفكار هذا المؤرخ والفيلسوف الأندلسي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في الفصل الأخير من الكتاب الموسوم "الثورة العلمية وتداعياتها، البنية الباريسية والبنية الاستعمارية"، يتحدث غويركات عن اكتشاف فكر ابن خلدون في العصر الحديث، في دوائر السياسة والاستشراق أو في سياق الكولونيالية، قائلاً لنا إن تلقي فكر ابن خلدون في هذه الدوائر كان إيجاباً، إذ وجدت في أعماله مفاهيم موضوعية ساعدت على فهم التاريخ واستكشاف الاتجاهات التي حكمته، بعيداً من التفسيرات الغيبية، مما مكن الغرب من التعرف إلى الآليات الحاكمة للمجتمعات العربية الإسلامية، وعلى قوانين تطورها وصراعاتها وعوامل ازدهارها وانحدارها. وقد كان لتتبع وشرح غويركات كيفيات تلقي فكر ابن خلدون في الخطابات الراهنة، العربية والغربية على حد سواء، أن بينت أن بعضها اكتفى بتبجيله معلناً سبقه والاعتزاز بنبوغه في المجال السوسيولوجي قبل الغرب، مركزاً على تفوق ابن القرن الـ14 الذي لم يقرأ عن الحداثة ولم يتعلم من أدبياتها، في حين انتقده بعضها الآخر لربطه دراسة العمران البشري بأسباب مادية واجتماعية وقبلية، معرِضاً عن وضع الله في مركز منظومته التحليلية، وهذا ما روج له المتشددون.

 باختصار، يعبر كتاب مهدي غويركات "ابن خلدون، مسارات مفكر مغربي" عن الاهتمام المستمر بشخص ابن خلدون وفكره التاريخي والسياسي. فقد تأمل المؤلف في إنجازات هذا العالم الفكرية وفي القراءات الغربية التي تناولت حياته وفكره، مركزاً على المسارات التي انتهجها في نقل نظرياته ومقولاته وتلقيها في الشرق والغرب، معرجاً على الترجمات التي طاولت كتبه، مؤكداً أنها، على أهميتها، لا تحيط بأصالة مؤلفاته في علاقاتها المعرفية مع علم الكلام والفقه والفلسفة وكتابة التاريخ الذي ازدهر في عصره. ولعله، إلى جانب اعترافه بأهمية كتابات ابن خلدون، يُقر بمحدوديتها في فهم تعقيدات المجتمعات العربية الإسلامية المعاصرة، بعدما طاول التغير هذه المجتمعات عبر التاريخ، إذ أصبحت الاستعانة بفكره تعبيراً عن نزعة تحمل حنيناً إلى الوجوه العقلانية في الحضارة العربية الإسلامية، أكثر مما هي في الواقع سعي حثيث إلى العثور على مفاتيح معرفية تمكن الباحثين من فهم حركة المجتمعات.

ومهما يكن من أمر "هذه العودات" المختلفة إلى كتابات ابن خلدون، يخلص كتاب مهدي غويركات إلى الدعوة إلى إنشاء فريق بحث علمي للعمل على مشروع فهم هذا التلقي المُعَوْلم لفكر ابن خلدون من خلال العودة إلى نصوصه الأصلية وإعادة اكتشافها بعيداً من التواتر والتكرار والتوظيف السياسي، بغية تقييم إرث هذا المفكر الكبير ضمن سياقه التاريخي المضطرب في القرن الـ14.

اقرأ المزيد

المزيد من كتب