ملخص
انضمام فنلندا والسويد للناتو يمنح قوات الحلف موقعاً استراتيجياً جديداً يؤهله للدفاع عن مصالحه في حال اندلاع نزاع مع روسيا حول تقاسم ثروات هذه المنطقة الغنية بثرواتها النفطية
عام 1980 سألت أحد كبار الجنرالات السوفيات ونحن في حفلة سمر ليلية في موسكو عن البلد الأطلسي الذي سيتلقى الضربة الأولى في حال اندلعت الحرب بين حلفي وارسو وشمال الأطلسي (الناتو)؟، فرد على سؤالي بسؤال غامض، ألا تعرف استرتيجية الدب؟؟؟، فأجبت لا، وكنت فعلاً غير عالم بماهية استراتيجية الدب الذي يلقب العالم الروس به. فأوضح هذا الجنرال بعد طول إلحاح أن الدب عادة يفترس أقرب فريسة منه، أي أنه لن يعدو للبحث عن فريسة في أقاصي الأرض، بل سينقض على الفريسة الأقرب إليه.
يومها كانت فنلندا والسويد تلتزمان الحياد الإيجابي ولا تفكران أبداً في الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، وفهمنا من هذا الجنرال الذي كانت ثلاث نجمات مكللة تزين كتفيه أن النرويج التي هي أصغر بلد في "الناتو"، ولكنها الأقرب إلى الحدود السوفياتية، ستكون الفريسة الأولى للضربات التقليدية أو النووية السوفياتية في حال اندلع النزاع بين الحلفين اللذين كانت رحى الحرب الباردة تدور بينهما في تلك الأيام.
حالياً، ومع انضمام فنلندا إلى حلف شمال الأطلسي، وكذلك السويد في المستقبل القريب المحدد في الـ11 من مارس (آذار) الجاري، ازداد القلق الروسي أضعافاً مضاعفة لأنهم يعتبرون أن التحاق جيرانهم الأقربين بـ"الناتو" يشكل عاملاً خطراً في زعزعة الاستقرار وزيادة الأخطار، على اعتبار أن هناك إمكاناً لنشر أسلحة هجومية في فنلندا قادرة على ضرب أهداف استراتيجية حساسة على أراضي الاتحاد الروسي، وهذا ما أعلن عنه وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو الأسبوع الماضي خلال اجتماع لمجلس إدارة وزارة الدفاع صراحة.
وقال شويغو "أحد العوامل الخطرة لزعزعة الاستقرار هو انضمام فنلندا إلى حلف شمال الأطلسي، وفي المستقبل السويد. ومن المرجح أن يتم نشر وحدات عسكرية إضافية وأسلحة هجومية تابعة لحلف شمال الأطلسي على الأراضي الفنلندية والسويدية، قادرة على ضرب أهداف مهمة في شمال غربي روسيا على عمق كبير".
وأكد أن روسيا ستعزز مجموعات قواتها على حدودها الغربية لأن هناك 360 ألف عسكري أطلسي يتمركزون قرب حدود دولة الاتحاد.
في الواقع، تزايدت التهديدات التي يتعرض لها الأمن العسكري الروسي من الغرب والشمال الغربي بصورة كبيرة.
التلويح بالسلاح النووي
بانضمام السويد وفنلندا إلى حلف شمال الأطلسي، استشعرت روسيا أن "الناتو" يحاول تطويقها ليس فقط من الغرب حيث تقع دول البلطيق وبولندا، بل من الشمال الغربي أيضاً، حيث تضاعف طول الحدود البرية للحلف مع الاتحاد الروسي مرتين في الأقل. وبطبيعة الحال، فرض هذا على الجيش الروسي المنشغل بالحرب في أوكرانيا، تعزيز هذه الحدود على نحو سريع ومكثف، فكتب الرئيس الروسي السابق دميتري ميدفيديف الذي يشغل حالياً منصب نائب رئيس مجلس الأمن الروسي "يجب علينا سريعاً تعزيز مجموعة القوات البرية والدفاع الجوي بصورة جدية، ونشر قوات بحرية كبيرة في خليج فنلندا".
وذهب ميدفيديف أبعد من ذلك بقوله "في هذه الحال، لن يكون هناك أي حديث عن أي وضع خالٍ من الأسلحة النووية في منطقة البلطيق، يجب استعادة التوازن مهما كلف الأمر". وأضاف أن سكان السويد وفنلندا سيجدون أنفسهم على "قاب قوسين أو أدنى" من السفن الروسية المسلحة نووياً التي ستبحر "على مسافة ذراع" من منازلهم.
وتعد تهديدات ميدفيديف من بين أقسى التصريحات التي صدرت بالفعل من شخصية روسية بارزة في ما يتعلق برد فعل الكرملين على انضمام الدولتين الاسكندينافيتين إلى حلف شمال الأطلسي.
واعتبر ميدفيديف أن الرأي العام حول هذه القضية في الدول الاسكندينافية منقسم وأنه "لا يوجد شخص عاقل يقدّر ويريد عواقب هذه الخطوة، من زيادة التوترات على الحدود ونشر صواريخ اسكندر والأسلحة التي تفوق سرعتها سرعة الصوت والسفن التي تحمل أسلحة نووية على مسافة غير بعيدة من منزله".
ووفقاً لاثنين من كبار المسؤولين في حلف شمال الأطلسي، فإن بيان ميدفيديف يشير بقوة إلى أن موسكو ستعلن رسمياً نشر صواريخ "كروز" من طراز "اسكندر" التي يمكن تسليحها برؤوس نووية في منطقة كالينينغراد الواقعة على بحر البلطيق، مما يمنح روسيا القدرة على ضرب عدد من عواصم الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك برلين ووارسو.
وأضاف أحد المسؤولين أن "خلاصة القول هي أنهم لا يحتاجون إلى مبرر للعسكرة أكثر من حاجتهم إلى ذريعة لمهاجمة أوكرانيا، وهم قد ينفذون بعض ما وعدوا به، لكن الأسباب التي دفعتهم إلى القيام بذلك لا ينبغي أن تؤخذ على محمل الجد".
وكثيراً ما أعرب حلف شمال الأطلسي عن قلقه في شأن نشر صواريخ "اسكندر" الروسية المتمركزة في كالينينغراد في أقصى الغرب الروسي منذ عام 2016. ويمكن لهذه الصواريخ أن تحمل رؤوساً حربية تقليدية أو نووية، لكن موسكو لم تؤكد أبداً ما إذا كانت الصواريخ الموجودة في الجيب مجهزة برؤوس نووية.
وتقع كالينينغراد بين ليتوانيا وبولندا وهي أيضاً المقر الرئيس لأسطول البلطيق الروسي، وهو قوة بحرية تضم حوالى 80 سفينة حربية وغواصات تدعمها مقاتلات وقاذفات قنابل وقوات برية.
ردود أطلسية قلقة
رداً على تصريحات الرئيس الروسي السابق والشخصية الأكثر قرباً من الرئيس الحالي فلاديمير بوتين، قالت رئيسة الوزراء الليتوانية إنغريدا سيمونيتي، بحسب ما نقلته هيئة الإذاعة الوطنية "آل آر تي"، "لا يوجد شيء جديد في ما يتعلق بتوجيه روسيا التهديدات".
وأعلن وزير الخارجية الفنلندي بيكا هافيستو أن تزايد الخطاب الروسي في شأن استخدام الأسلحة النووية كان أحد الأسباب الثلاثة الرئيسة التي دفعت هلسنكي إلى اتخاذ قرار بمراجعة سياساتها الدفاعية والأمنية.
وقال للصحافيين "روسيا مستعدة لخلق وتحمل مزيد من الأخطار أكثر من ذي قبل، إنه سيناريو مخيف".
وكان احتمال انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي أحد أسباب الهجوم الروسي في الـ24 من فبراير (شباط) 2022 على البلاد.
ولكن بدلاً من وقف توسع "الناتو" أو فرملته في الأقل، يبدو أن الهجوم الروسي يدفع الحلف إلى مزيد من التوسع، ورحب مسؤولون كبار فيه بقبول فنلندا وجارتها السويد في الحلف المؤلف من 30 عضواً والذي تقوده الولايات المتحدة لأن انضمامهما يمنح قوات "الناتو" موقعاً استراتيجياً جديداً يؤهله للدفاع عن مصالحه في القطب الشمالي، إذا اندلع نزاع مع روسيا حول تقاسم ثروات هذه المنطقة الغنية بمواردها الطبيعية وثرواتها النفطية.
ويشارك الجيشان الفنلندي والسويدي في مناورات حلف شمال الأطلسي "الرد الشمالي 2024" التي بدأت هذا الشهر وتستمر في المناطق الشمالية للدول الاسكندينافية (النرويج وفنلندا والسويد) حتى الـ15 من مارس الجاري.
وبحسب وسائل إعلام غربية، فإن نحو 20 ألف عسكري من 13 دولة في حلف شمال الأطلسي موجودون في هذه المناورات، ونحو 50 سفينة و100 طائرة، بينها مقاتلات وطائرات مراقبة وتزويد بالوقود، فضلاً عن معدات نقل ومعدات جوية قتالية، تشارك في هذه التدريبات التي تستخدم فيها القوات المسلحة النرويجية والأميركية مقاتلات الجيل الخامس من طراز "أف-35 أ" و"أف -35 بي" في هذا الحدث للمرة الأولى ضمن فلك تطاوله الرادارات الروسية والصواريخ المضادة للأهداف الجوية.
وتأتي هذه المناورات في إطار تعزيز القدرات الدفاعية لحلف شمال الأطلسي ولإظهار استعداد الحلف لحماية أراضيه على خلفية التوسع الأخير بسبب انضمام فنلندا ودخول السويد بصورة شبه رسمية.
ولم يتم ذكر عامل هجوم الكرملين على أوكرانيا والتهديد بهجوم روسي على إحدى دول التحالف على نحو مباشر، لكن سياق التدريبات ذاته أشار إلى أن مهمتها الرئيسة كانت الاستعداد لصدام محتمل مع القوات الروسية.
ويسلط تمرين "الرد الشمالي 2024"، وهو جزء من مناورات "المدافع الصامد 2024" الأكبر التي تجريها قوات "الناتو" منذ انتهاء الحرب الباردة، الضوء على أهمية الدفاع الجماعي والاستجابة السريعة للتهديدات المحتملة من الكرملين، من دون أن يشير الحلف لا من قريب ولا من بعيد إلى كيف ترتبط هذه المناورات بمصالح أوكرانيا، وفي أي حال يمكن لدول "الناتو" إرسال قواتها إلى الجبهة الأوكرانية المشتعلة.
وبحسب معلومات صحيفة "بيلد" الألمانية، فإن المناورة العسكرية تحاكي سيناريو تهاجم فيه روسيا الاتحادية أراضي الحلف، مما يؤدي إلى تفعيل المادة 5 من ميثاق "الناتو"، وتركز هذه المناورات على الدفاع الجماعي، إذ يعتبر الهجوم على أحد أعضاء التحالف هجوماً على الجميع.
ويجادل المصدر نفسه، استناداً إلى بيانات استخباراتية، بأن روسيا قد تنوي شن هجوم على أوروبا بحلول نهاية هذا العام أو أوائل العام المقبل، عندما، وفقاً لهم، قد تفقد الولايات المتحدة السيطرة على القيادة العالمية، أو وصول المرشح الرئاسي دونالد ترمب مجدداً إلى البيت الأبيض، مما سيؤدي إلى فقدان الدعم الأميركي لـ"الناتو"، ويؤثر في قدرة ورغبة أميركا في مساعدة الحلفاء الأوروبيين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
روسيا تراقب "رسائل" الناتو
وفي الأثناء، كشف نائب وزير الخارجية الروسي ألكسندر غروشكو عن أن موسكو تراقب هذه المناورات، "ولهذا الغرض هناك كل الوسائل اللازمة"، وشدد على أن "هذه التدريبات ذات طبيعة توضيحية واستفزازية"، معتبراً أن "أي تدريبات، خصوصاً القريبة من خط التماس، تزيد من خطر وقوع حوادث عسكرية. لذلك، ومن وجهة نظر ضمان القدرة الدفاعية لروسيا، فإن موسكو تتخذ جميع الإجراءات اللازمة". وخلص الدبلوماسي الروسي إلى أن "كل هذا النشاط يزيد من إضعاف الأمن الأوروبي ويخلق أخطاراً إضافية في شمال أوروبا".
ويقول الخبير العسكري الروسي ألكسندر كوتشيتكوف لـ"اندبندنت عربية" إن إطلاق حلف شمال الأطلسي هذه المناورة الضخمة المسماة "الرد الشمالي 2024" هدفه ليس فقط تعزيز أمن أراضيه في دول الشمال، بل توجيه رسالة إلى موسكو عن استعداده القتالي للمواجهة.
ويضيف أنه "في إطار هذه التدريبات استجابة الشمال 2024 التي تم تنظيمها تحت رعاية النرويج الدولة الاسكندينافية الأقدم في حلف الناتو، أرسل الجانب الفنلندي أكثر من 4000 جندي وأسهم الجيش السويدي في إرسال حوالى 4500 ممثل من مختلف فروع الجيش للتمرين في شتاء القطب الشمالي".
ومن بين المشاركين أيضاً عسكريون من بلجيكا وبريطانيا وكندا والدنمارك وفنلندا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وهولندا والنرويج وإسبانيا والسويد والولايات المتحدة الأميركية. ويشارك نصف هذه القوات في عمليات برية، بينما يجري النصف الآخر تدريبات في البحر والجو باستخدام أكثر من 50 سفينة، بما في ذلك الغواصات والفرقاطات والطرادات وحاملات الطائرات وسفن الإنزال. وتشارك في التدريبات كذلك أكثر من 100 طائرة، من بينها طائرات مقاتلة وطائرات نقل وطائرات استطلاع بحرية ومروحيات.
واستناداً إلى أسطورة التدريبات، كما يشير الخبراء، فإن الهدف الرئيس ليس فقط دمج قوات فنلندا التي انضمت أخيراً إلى حلف شمال الأطلسي مع بقية قوات "الناتو"، ولكن أيضاً الاستعداد للاستفزازات المحتملة من قبل الكرملين، بما في ذلك في بحر البلطيق.
وينوّه الخبير الروسي كوتشيتكوف "إلى ملاحظة عدد السفن والطائرات المختلفة المشاركة في التدريبات، ومن بين المهمات القتالية البحتة يتم أيضاً العمل بنشاط على القضايا اللوجستية في مناورات استجابة الشمال 2024. ويمكن ملاحظة أن قيادة التحالف تتدرب على مسألة النقل السريع لعدد كبير من الأشخاص والمعدات لمسافات طويلة، بما في ذلك، لا سمح الله، حدوث شيء سيئ في الجبهة، وسيتعين على التحالف من أجل حماية نفسه من انتشار التهديدات من الكرملين، نقل جزء من قواته إلى أوكرانيا".
الهدف العام لمناورات "الرد الشمالي 2024"، بحسب الجيش النرويجي، هو ضمان الحماية والدفاع عن المنطقة الاسكندينافية، لكن صياغة التصريحات نفسها تشير بوضوح إلى أن "بطل المناسبة" الرئيس هنا هو موسكو.
وقال قائد مركز العمليات الجوية النرويجي العميد ترون ستراند، "يجب أن نكون قادرين على القتال وإيقاف أي شخص يحاول تحدي حدودنا وقيمنا وديمقراطيتنا. نظراً إلى الوضع الأمني الحالي في أوروبا، فإن هذا التمرين مهم للغاية وذو أهمية أكثر من أي وقت مضى".
وأصبحت فنلندا التي تشترك في حدود طولها 1340 كيلومتراً مع روسيا، عضواً في حلف شمال الأطلسي في أبريل (نيسان) 2023، منهية بذلك فترة طويلة من الحياد العسكري. والسويد الآن في المراحل النهائية للانضمام إلى "الناتو" لتصبح العضو الـ32.
ما الذي يستعد له "الناتو"؟
قال وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن في جلسة استماع عقدتها لجنة القوات المسلحة بمجلس النواب أخيراً إنه "في حال هزيمة القوات المسلحة الأوكرانية في حرب واسعة النطاق ضد روسيا، فإن حلف شمال الأطلسي بأكمله سيضطر إلى قتال المحتلين الروس".
وأضاف "نحن نعلم أنه إذا نجح بوتين، فلن يتوقف. وسيستمر في التصرف على نحو أكثر عدوانية في المنطقة. وسينظر الزعماء الآخرون في جميع أنحاء العالم والمستبدون الآخرون إلى هذا وسيتشجعون بحقيقة أن هذا حدث وفشلنا في دعم دولة ديمقراطية".
ويستعد الرأي العام في دول "الناتو" تدريجاً أيضاً لحقيقة أن احتمال حدوث اشتباك عسكري مباشر بين التحالف والاتحاد الروسي تتزايد كل شهر، وموسكو تسير نحو المواجهة على قدم وساق، وهنا لن تتمكن النخب الغربية من القيام بدور "حفظ السلام" والتعبير عن "القلق العميق" في شأن تصرفات موسكو إلى ما لا نهاية. على سبيل المثال، أفاد محررو صحيفة "فايننشال تايمز" بأن "الناتو" مقتنع بأن موسكو ستهاجم بالتأكيد إحدى دول الحلف، ووفقاً للدبلوماسيين الغربيين سيكون من "الترف الذي لا يمكن تحمله" الاعتقاد بأن الاتحاد الروسي سيتوقف في أوكرانيا.
الضغط الروسي والرد الأطلسي
روسيا تمارس بالفعل ضغوطاً جبارة على دول "الناتو" ولا يتعلق الأمر فقط بتهديدات ميدفيديف النووية الأخيرة وإظهار "خريطة" معينة تبقى عليها أراضي منطقة كييف فقط تابعة لأوكرانيا، بل يقوم الروس بالتشويش المتعمد على نظام تحديد المواقع العالمي "جي بي أس" (GPS) في بحر البلطيق حتى لا يتمكن أي شيء من الطيران أو الإبحار هناك. إنهم يقومون باستمرار بتشغيل الحرب الإلكترونية. إن التحدي يحدث بالفعل بصورة مقنعة من أجل استفزاز دول "الناتو" وفرض أمر واقع عليها يلزمها إما القتال أو التراجع والاستجابة للضمانات الأمنية التي تشترطها موسكو، فإذا أقدمت دول "الناتو" على رد أكثر صرامة، فستبدأ موسكو في تصوير نفسها على أنها "ضحية للعدوان"، لذلك الوضع دائماً في نقطة الغليان. وترى قيادة "الناتو" ذلك، لذا تستعد حتى لا تؤخذ على حين غرّة، هذا ما لخصه الخبير العسكري إيفان ستوباك.
ومن المقرر أن يجري حلف شمال الأطلسي سلسلة من التدريبات العسكرية الكبرى خلال الأشهر المقبلة للتدرب على العمليات ضد روسيا كجزء من مناورة "المدافع الصامد 2024". ومن المقرر إجراء عدد من التدريبات الرئيسة في أبريل ومايو (أيار)، مع التركيز خصوصاً على الجناحين الشمالي والشرقي لحلف شمال الأطلسي على الحدود مع روسيا، المدافع في شمال أوروبا (8 أبريل - 31 مايو)، والرد الفوري في السويد (21 أبريل - 31 مايو)، الفريق الكبير في ألمانيا وليتوانيا (30 أبريل - 30 يوليو/ تموز)، المحارب الشجاع في المجر (1 - 22 مايو)، عاصفة الربيع في إستونيا (6 - 17 مايو)، الاستجابة السريعة في دول البلطيق وجورجيا وبولندا (14 مايو - 14 يونيو/ حزيران).
روسيا تستحدث منطقتين عسكريتين
لم تقتنع موسكو أبداً ولم تصدق ما قاله مساعد الأمين العام لحلف شمال الأطلسي كاميل غران في أوائل يونيو الماضي عن أن أحداً لم يتحدث في الحلف بعد عن نشر الأسلحة النووية في السويد وفنلندا، خصوصاً أنه أكد في الوقت نفسه أنه من غير المرجح أن يقدم أحد لموسكو أي ضمانات في هذا الصدد.
أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين رسالته إلى الجمعية الفيدرالية أواخر فبراير الماضي عن خطط لتعزيز مجموعات القوات المسلحة الروسية في الاتجاه الغربي بسبب انضمام السويد وفنلندا إلى حلف شمال الأطلسي. وبعد خمسة أيام بالضبط، وقّع مرسوماً رئاسياً ينشئ بموجبه منطقتي موسكو ولينينغراد العسكريتين الجديدتين.
وبالتوازي مع خطاب بوتين، حذر ميدفيديف مجدداً من أن دول البلطيق قد تفقد وضعها كدول خالية من الأسلحة النووية إذا انضمت فنلندا والسويد إلى حلف شمال الأطلسي.
وأشارت روسيا مراراً وتكراراً إلى أن "الناتو" يهدف إلى المواجهة، وصرح المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف بأن مزيداً من التوسع في التحالف لن يجلب قدراً أكبر من الأمن لأوروبا، موضحاً أن انضمام السويد وفنلندا إلى حلف شمال الأطلسي لن يشكل في الوقت نفسه تهديداً وجودياً لروسيا.
وأكد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في مؤتمر صحافي عقب منتدى أنطاليا الدبلوماسي الأسبوع الماضي، أن بلاده ستنشر أسلحة إضافية رداً على انضمام فنلندا والسويد إلى حلف شمال الأطلسي، مشيراً إلى أن الرئيس بوتين وقع في وقت سابق مرسوماً في شأن إعادة إنشاء منطقتي موسكو ولينينغراد العسكريتين. وبحسب لافروف، ستُنشر قوات كافية للتصدي للتحديات الأمنية التي يواجهها الاتحاد الروسي والتي من المحتمل أن تنشأ على أراضي فنلندا والسويد.
ولفت وزير الخارجية بأسف إلى السرعة التي تنازلت بها هلسنكي وستوكهولم عن حيادهما و"عقود من حسن الجوار" للحصول على عضوية "الناتو"، مضيفاً أن روسيا تعرف التدابير التي يتعين عليها اتخاذها وكيفية تنفيذها عملياً لضمان الأمن.
وقال "سنستخلص، بالطبع، استنتاجات بناءً على مدى سرعة ومدى عمق قيام الناتو بتطوير انتشار قواته على أراضي فنلندا والسويد. ليس هناك شك في أنهم سيفعلون ذلك، وتناقش كل من هلسنكي وستوكهولم بالفعل مع الولايات المتحدة عدداً من الأمور"، مردفاً أن "القضايا المتعلقة بنشر البنية التحتية للحلف على الحدود مع الاتحاد الروسي في حالة فنلندا، وعلى مقربة جداً من حدودنا في حالة السويد".
الوضع المحايد
وبحسب لافروف، فإن روسيا مندهشة من السرعة التي تخلت بها فنلندا والسويد عن الحياد من أجل الانضمام إلى التحالف. "لقد أذهلتني السرعة التي تخلت بها كل من فنلندا والسويد عن وضعهما المحايد، والمزايا التي وفرها لهما هذا الوضع المحايد لعقود عدة، وضمنت لهما دوراً مستقلاً نسبياً، وزودتهما بالسمعة والسلطة في أوروبا وعلى الساحة الدولية على حد سواء".
إضافة إلى ذلك، أشار إلى أن هذه الدول تخلت أيضاً عن المزايا التي كانت تتمتع بها من العلاقات التجارية والاقتصادية والاستثمارية الخاصة وغيرها مع الاتحاد الروسي.
وأضاف أن "السرعة التي حدث فيها ذلك، بالطبع، تجعلنا نبحث عن السبب في وضع التبعية الكامل الذي وضعت فيه هذه الدول نفسها للولايات المتحدة وبقية الغرب الجماعي. لقد أصبحت جميع المصالح الوطنية لكل من الدولتين الفنلندية والسويدية ضحية للحاجة إلى توحيد الغرب بأكمله في القتال، في هذه الحالة ضد روسيا من خلال تحويل أوكرانيا إلى أداة أخرى للنازيين الجدد والتي كانت تستهدف بلدنا والغرض الوحيد هو منع أي تحدٍّ للمهمة التي حددتها الولايات المتحدة، وهي ضمان هيمنة الغرب إلى الأبد ومواصلة استخدام الأساليب الاستعمارية لضمان الحياة للغرب على حساب شخص آخر".
وخلص إلى القول "أكرر مرة أخرى، كانت لدى كل من فنلندا والسويد سمعة مختلفة تماماً، ولكن، على ما يبدو، هذه الغرائز من تلك الأوقات، أوقات ظهور النازية في أوروبا، تبين أن غرائز الحرب الباردة كانت مخفية بصورة سطحية للغاية، وبعد ذلك مباشرة، عندما صدر الأمر للجميع بالاصطفاف ضد روسيا، وافقوا على ذلك بكل طاعة، للأسف، ولكن هذا هو اختيار تلك الحكومات التي حصلت على أصوات ناخبيها، لذلك فهو بالطبع متروك إلى شعب البلد المعني للحكم على مدى تلبية هذا لمصالح فنلندا والسويد".
خلاصة
أنهت دولتان جديدتان من جيران روسيا هما السويد وفنلندا عقوداً طويلة من الحياد الإيجابي، وانضمتا إلى حلف شمال الأطسي، ودخلتا أخيراً في اتفاقات تعاون منفصلة مع الولايات المتحدة منحت الجيش الأميركي إمكان الوصول إلى 30 قاعدة عسكرية فنلندية وسويدية.
لقد كرّس حلف شمال الأطلسي الذي سيحتفل بالذكرى السنوية الـ75 لتأسيسه في القمة التي ستعقد في واشنطن هذا العام، كل موارده لمتابعة مسار المنافسة العسكرية مع روسيا. ويجري مناورات "الرد الشمالي" ضمن تدريبات "المدافع الصامد 2024" وهي أكبر سلسلة من المناورات منذ الحرب الباردة، وتستمر من يناير إلى مايو 2024. ويشارك فيها أكثر من 90 ألف عسكري في مراحل مختلفة. ولا تخفي بروكسل أن الهدف الرئيس من التدريبات هو ممارسة سيناريوهات مختلفة للعمليات العسكرية ضد روسيا، وأهمها خصوصاً نقل القوات عبر المحيط الأطلسي وتحركاتها عبر أوروبا.
ومن جهتها، تعتبر موسكو أن زيادة عدد أعضاء "الناتو" من 30 إلى 32 سيؤدي إلى حقيقة أن "روسيا سيكون لديها مزيد من المعارضين المسجلين رسمياً. وبانضمام السويد وفنلندا إلى حلف شمال الأطلسي، فإن طول الحدود البرية للحلف مع الاتحاد الروسي تضاعف. وبطبيعة الحال، سيتعين تعزيز هذه الحدود. تعزيز مجموعة القوات البرية والدفاع الجوي بصورة جدية، ونشر قوات بحرية كبيرة في خليج فنلندا"، ووضع أسلحة نووية في منطقة البلطيق لاستعادة التوازن.
من الواضح أن هناك توازن قوى متغيراً وأن حرباً أشد ضراوة وأكثر سخونة من الحرب الباردة ستندلع مجدداً بين روسيا وحلفائها القلائل من جهة، وحلف شمال الأطلسي من جهة ثانية. وهذا سيقود بالطبع إلى سباق تسلح جديد أشد كلفة وأكثر مرارة لأن الحروب التالية لن تعتمد فقط على الدبابات والطائرات والمدافع والبنادق، بل على الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الفائقة والطائرات المسيّرة، وربما الروبوتات المقاتلة في المستقبل غير البعيد.