ملخص
تأثر بوند منذ مراهقته بأعمال شكسبير، ظهر ذلك لاحقاً في مسرحية "لير" عام 1969 التي اتفقت مع النص الشكسبيري في كثير من الأحداث، وبالقدر نفسه، خالفته في عديد من الأحداث والشخصيات
عن عمر يناهز الـ89 عاماً توفي الكاتب المسرحي البريطاني إدوارد بوند، وهو من أكثر كتاب المسرح إثارة للجدل نظراً إلى ما تضمنته أعماله من عنف وجرأة في تناول مواضيع سياسية واجتماعية على نحو صادم، مما جعله هدفاً دائماً للرقابة، وجعل من حياته عراكاً دائراً في ساحات المحاكم. ولا غرو في ذلك، إذ ينتمي بوند إلى الجيل الغاضب الذي اضطلع بحركة التجديد بعد الحرب العالمية الثانية، استجابة لما طرأ على المجتمع البريطاني من تغيرات جذرية وما اعتراه من شك حيال تقاليده العريقة التي لم يحل رسوخها دون ظهور الوجه البربري للحضارة.
الذئب الرابض داخلنا
ولد بوند لعائلة بسيطة من الطبقة العاملة، عاشت في منطقة هولووي، شمال لندن. في مرحلة الطفولة، قدر له أن يكون شاهداً على عديد من الممارسات العنيفة سواء على المستوى الواقعي مثل عمليات قصف لندن في عامي 1940 و1944، قبل أن يتم ترحيله خارج البلاد. أو على مستوى الخيال حين شاهد أخته التي كانت تعمل مساعدة لساحر، تشق نصفين بمنشار. إنهما تقريباً وجها العملة اللذان شكلا نظرته إلى الحياة وكذلك نظريته في الدراما.
في سن المراهقة، تنبه الصبي لطبيعته الغامضة بعد أن شاهد مسرحية "ماكبث" للمرة الأولى، وأحس أن هذه التجربة الصادمة تشبه تجاربه وتمنحها معنى ومغزى. لم يمض عام واحد حتى ترك دراسته في سن الـ15، مكتفياً بما تلقاه من معارف بسيطة، وراح ينغمس بكامله في مشاهدة المسرحيات والقراءة، باعتبارهما أهم وسيلتين لتعليم نفسه بنفسه دون الحاجة إلى فساد التعليم البرجوازي.
بعد أن اشتغل بمهن مختلفة في المعامل والمكاتب، أمضى فترة تجنيده في قوات الاحتلال ضمن الجيش البريطاني في فيينا بين عامي 1953 و1955، وعاد من هناك عازماً على البدء في الكتابة مستعيناً بكم العنف الذي اختبره في سلوك الإنسان العادي.
عندما عرضت مسرحيته الأولى، "عرس البابا"، عام 1962 على مسرح رويال كورت في لندن، أنبأت عن وعيه الحاد، وموهبته الواعدة، ومعالجته العنيفة، وهو ما تأكد في تجربته التالية "محفوظة"، حيث وصل العنف فيها إلى حد رجم طفل حتى الموت في عربة الطفولة، بيد حفنة من المراهقين أمام الجمهور. أثارت المسرحية ضجة كبيرة أفضت إلى مقاضاة مسرح رويال كورت وتغريمه 50 جنيهاً لتحديه رقابة اللورد تشامبرلين المفروضة على المسرح. يصف بوند ما جلبته عليه دراماه المثيرة قائلاً "كانت فضيحة وصدمة ورعباً. تشاجر الجمهور في المسرح وتُبودلت الشتائم في الصحف. تلقيت رسائل مكتوبة بالدم والفضلات، وعوملت كذئب للأخلاق".
على عكس ما هدف معارضوه، حققت المسرحية نجاحاً باهراً خارج بلدها، واعتبرت من أنجح عروض المسرح البريطاني آنذاك، وأعيد إنتاجها في أكثر من 30 مرة حول العالم بين عامي 1966 و1969 مما جعل بوند يلقب بـ"عملاق المسرح العالمي". في معرض الدفاع عنه، كتب الممثل والمخرج لورانس أوليفييه، "إنها ليست مسرحية للأطفال، ولكنها للكبار، ويجب على البالغين في هذا البلد أن يتحلوا بالشجاعة للنظر إليها".
استمر المسرح في دعم كاتبه المناكف وتحدي الرقابة، فقام بعرض مسرحيته السوريالية "في الصباح الباكر" بكل ما تضمنته من نقد عنيف للعصر الفيكتوري، حيث تقتل الملكة فيكتوريا الأمير ألبرت، وتغتصب فلورنس نايتنجيل وتصبح أماً لتوأم ملتصق كما لو أن لعنة الآلهة حلت بها. على رغم طابعها الساخر، احتدمت المواجهة بين الرقابة والفن مرة أخرى، واضطر المسرح إلى عرضها تحت مسمى "بروفات" بصورة غير رسمية. ومع تأزم الصراع، حسمت القضية لصالح الفن وألغيت الرقابة على المسرح بحلول عام 1968، لينسب الفضل إلى بوند في هزيمة أهم عدو للإبداع، وتصبح "الصباح المبكر" آخر مسرحية يحظرها اللورد.
أكثر مأسوية من شكسبير
تأثر بوند منذ مراهقته بأعمال شكسبير، ظهر ذلك لاحقاً في مسرحية "لير" عام 1969 التي اتفقت مع النص الشكسبيري في كثير من الأحداث، وبالقدر نفسه، خالفته في عديد من الأحداث والشخصيات، منها الاكتفاء بالبنتين العاقتين وحذف الثالثة الطيبة ليطيح الموازنة بين الخير والشر. وعلى عادته، عمد بوند إلى فقأ عيني لير وقتل عديد من الشخصيات على خشبة المسرح. أما في "بينغو" فلم يقف الاقتباس على أعمال الشاعر الملحمي وحسب، بل جعل منه البطل الرئيس الذي لم يعد يرتجى منه نفع، بعد أن بلغ من العمر أرذله. شكسبير في معالجة بوند رجل عجوز يعاني عذاب الضمير بسبب توقيعه عقد لتأمين ممتلكاته وأراضيه مقابل سكوته وعدم تدخله في قضية ضم أراض زراعية لاستخدامها في أغراض تجارية تتسبب في تشريد عديد من الفلاحين.
ينتحر شكسبير في النهاية، ويجن الشاعر الريفي جون كلير في عمله التالي "الأحمق" بعد أن يورطه الكاتب في أحداث شغب ليتلبورت عام 1816، ثم يجعل من شعره مستودعاً لروح هذا التمرد الريفي ضد نمو الرأسمالية الصناعية الحديثة. فازت "بينغو" بجائزة "أوبي"، وصنفت "الأحمق" كأفضل مسرحية لعام 1975. وكما أثار الجدل بأعماله التي تبنت نظرية بريخت في شأن إبقاء الجمهور في حالة تأهب فكري، جاءت ترجمته الأمينة ل"صحوة الربيع" (1891) للكاتب المسرحي الألماني فرانك فيديكيند، حول قمع الحياة الجنسية للمراهقين، بمثابة صدمة جديدة، إذ خضعت كل ترجماتها السابقة للرقابة ولم يتمكن النص الأصلي من المثول بين يدي القارئ كاملاً إلا مع ترجمة بوند.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لم يكن إدوارد بوند كما يبدو، باحثاً عن الإثارة بحسب وصف الناقد المسرحي مايكل بيلينغجتون، على رغم مما تضمنته أعماله من "نسبة عالية من العنف". لقد اعتقد حتى نهاية حياته في الصدمة باعتبارها الوسيلة الفعالة لإيقاظ البشر من غيبوبة التكيف. وترك أكثر من 50 مسرحية حققت رواجاً على الصعيد العالمي لأنها كانت في مجملها ترصد أزمات الجنس البشري على نحو شديد الصراحة. وهو ما عابه كثر على الرجل الذي وصفه البعض بأنه صعب المراس، وكثيراً ما يتشاجر مع المخرجين.
نحو المستقبل
اتخذت أعمال بوند في المرحلة الأخيرة، منحى استشرافياً، يسهل تبينه في أولى محاولاته "جريمة القرن الـ21" التي قدمت رؤية قاتمة لعام 2077، حيث يتحول ما كان احتمالاً سوداوياً إلى واقع حقيقي، فينهار النظام الاجتماعي ويلجأ عدد من المنبوذين إلى الفرار من المدن للاختباء في منطقة محظورة، وهناك تبدأ محاولتهم العبثية لاستعادة إنسانيتهم بخلق ما يشبه المجتمع من جديد. كما احتوت أعماله على تأملات حول التكنولوجيا وما بعد الحداثة. واكتسب تقدير الأكاديميبن بمحاولاته الدؤوبة لتطوير نظرية شاملة حول استخدام الدراما ووسائلها.
وكان طبيعياً أن يتأثر به كتاب المسرح الشباب، ولا سيما سارة كين في باكورة أعمالها "مدمر" التي صدمت الجمهور في العرض الأول عام 1995، بقدر ما صدمته "محفوظة" قبل 30 عاماً. يقول دومينيك كافنديش في صحيفة "تليغراف"، "من الصعب أن نتخيل انفجار الدراما العميقة في التسعينيات - وبخاصة أعمال سارة كين - دون الإشارة إلى بوند".
في عام 2016 عرضت مسرحيته الأخيرة "ديا" المستلهمة من المأساة اليونانية "ميديا"، لتضيف إلى ثيمة العنف تجاه الأطفال، سلسلة جديدة من الانتهاكات، منها سفاح القربى ومجامعة الموتى. وكما الحال في مسرحياته السابقة، لم تعرض في مؤسسة كبرى، بل في مسرح سيكومب المحاصر، في ضاحية ساتون جنوب لندن، والذي أغلق بعد أسابيع من العرض.
إلى جانب الكتابة المسرحية والترجمة، خاض بوند تجربة الإخراج لعدد من النصوص، كما كتب للسينما بعض السيناريوهات منها سيناريو "ضحك في الظلام"، من إخراج توني ريتشاردسون، ودراما السكان الأصليين "تجوال"، من إخراج نيكولاس روج، وأيضاً سيناريو "انفجار"، من إخراج مايكل أنجلو أنطونيوني، الذي ترشح لجائزة أوسكار في فئة السيناريو الأصلي، لكن بصمته الحقيقية والأكيدة ظهرت في نصوصه المسرحية بعدم مراعاتها حساسية الجمهور وتعمدها إفزاعه وإفزاع كل من حوله، فلا أحد ينام في العربة التي تأخذه إلى المقصلة.