ملخص
في مجموعته القصصية "حشرات سوداء" (بيت الحكمة) يقدم الكاتب المصري علي حسن تيمات عدة، لعل أبرزها تيمة "الجسد"، وبخاصة جسد الأنثى الذي تفصله مسافة ما، سواء مكانية أو شعورية عن جسد الرجل.
في القصة الأولى "العنبر يفوح بألوان بنفسجية" من مجموعته القصصية "حشرات سوداء" (بيت الحكمة)، يقدم علي حسن امرأة تعاني غياب الزوج، وتستعيد ذكرياتها الإروتيكية معه، مستعيضة عن هذه المسافة المكانية بالتواصل الافتراضي، وهذا ما يجعلها تشعر بالصقيع - بدلالته على برود المشاعر- الذي يضرب كل شبر في البيت، وبالوحدة، وبأنها شبيهة بزهرة أصابها الذبول، موقنة أن جسدها لا يحتاج إلى الاستحمام بقدر ما "يحتاج إلى لملمة بقاياه من فوق الأرائك والسرير البارد، والتقاط أشلائه". وتنعكس هذه الحالة على تصوير المكان، فالمزهريات التي هي رمز الجمال تبدو كالأشباح المنتشرة في زوايا البيت، والسجاد يبدو باهت الألوان، مما يدل على افتقاد كل شيء للبهجة والتألق. ولا يزيل بعض هذا الإحساس إلا التواصل الافتراضي، فتستعرض الألوان التي يعشقها زوجها، ثم تقف أخيراً أمام الكاميرا منتشية، تتلمس بشبق عنقها وصدرها محررة أنوثتها التي تنشد هذا الزوج البعيد وتهفو إليه. وتظل تيمة المسافة الفاصلة بين المرأة والرجل مستمرة في قصة "القطار لا يعرف بنها" التي تقع أحداثها داخل ذلك الحيز الذي يطوي الزمن، كما يطوي المسافات.
ففي القطار المتجه من الإسكندرية إلى القاهرة، يفاجأ السارد بصعود امرأة جميلة، لكن تظل المسافة – على رغم قصرها - فاصلة بينهما، فيكتفي بتفحص جسدها. وعند نزولهما من القطار، تتلاشى هذه المرأة "كخيط دخان رمادي ابتلعته سحابة". ولنا أن نلاحظ مجازية الوصف الذي يخلعه السارد على المكان في هذا الشاهد القائم على التشخيص والتشبيه لتأكيد الدلالة على الوحشة، وهو ما يتجاوب معنوياً مع إشارته إلى اصطحابه رواية "البؤساء" في هذه الرحلة. وكذلك وصف مدينة بنها (شمال القاهرة) التي مر القطار عليها سريعاً بأنها أصبحت "زهرة بلا روح". كل ذلك في إطار بنية زمنية لا تتجاوز الساعات الثلاث، وهو ما يذكرنا بقصة "في القطار" لمحمود تيمور.
التباعد النفسي
في قصة "الندوة" نجد أنفسنا أمام مسافة من نوع آخر تقوم على التباعد النفسي، وهي مروية على لسان امرأة تتحدث عن تلك الفجوة النفسية التي انتهت بتحررها من سجن الزوجية، "انتهى زواجنا دون ضجيج، كاتب مغمور وطبيب فاشل لم يسعفه الحظ يوماً بتوليد امرأة واحدة". على أن السبب الأهم هو عدم اعتراف هذا الزوج الذي تصفه بالمشوه بموهبتها في الكتابة، في حين كان هو ينسج من أفكار غيره قصصاً يضعها بعد اكتمال كل مجموعة أمام "ناشر سمج يعرف هو الآخر كيف يسرق". إلى أن تفاجأ بعد انفصالهما أنها مدعوة لحضور ندوة تناقش أحدث إبداعاته، وهناك تجد الجميع يشيدون بروايته "بكلمات باهتة".
وعند هذه اللحظة تمتلك الساردة الشجاعة في وصف هذه الندوة بأنها جلسة نفاق وتدليس، والرواية بأنها تعكس واقعاً مزيفاً. وهناك ما يمكن أن نسميه المسافة الاجتماعية الفاصلة بين طبقتين، تعاني إحداهما بؤس حياتها، بينما تتمتع الأخرى بكل ما تشتهيه، ويظهر ذلك في قصة "عابر حياة"، فالسارد يعيش في غرفة على سطح بيت مهترئ في حي شعبي، بينما يسكن صديقه "عادل" في منطقة راقية ويمتلك سيارة فارهة: "أقف منتصباً على الرصيف، مال بجذعه ناحيتي، كاد يلمس الكرسي بوجهه، مد ذراعه فاتحاً الباب". وأثناء انطلاق السيارة يتذكر السارد فشله في الالتحاق بوظيفة لائقة ويرى نفسه "عجوزاً ينتظر الموت"، مع يقينه أنه أكثر ذكاءً ونبوغاً من هذا الصديق المترف. هذه المسافة الاجتماعية نجدها أيضاً في قصة "تفاح أمريكاني"، حين يزور السارد صديقاً له في بيته، "لم أر التفاح منذ سنوات بعيدة، لكني أعرف لونه الأحمر، بريقه، رائحته التي عبأت المكان". وفي طريق عودته إلى بيته يشتري تفاحتين بكل ما معه من مال، لابنيه، بينما اكتفى هو بتخيل أنه يأكل معهما.
القهر والاغتراب
تظهر تيمة القهر، بخاصة قهر المرأة، في قصة "لذة البؤس" التي تبدأها الساردة بقولها، "قسوة، عيشتي معهم ضرب وشتيمة، تأكل البهيمة من يدي البرسيم والماء، بينما يكيل أبواي اللكمات والركلات إليَّ". بل إن أخويها مارسا عليها هذا القهر طبقاً للثقافة الذكورية السائدة. ومما زاد من بؤس هذه الفتاة أنها كانت تبدو دميمة فيتقدم لخطبتها رجل أكبر من والدها، ولم تسلم - بعد فترة - من ركلاته التي أحيت جروحاً كادت تلتئم. وهكذا حتى يصاب بمرض خبيث فيترك نساءه الثلاث ويستقر عندها، لأنها الأصغر والأقدر على خدمته، فتحن – على رغم المعاناة والقسوة – إلى بيت أبيها. رحلة حياة تبدأ بالقهر، وتستمر به، وهو ما نلاحظه أيضاً في قصة "أم سيد"، حين يصف السارد تلك المرأة البائسة: "أثارت ريبتي فتاة تحتل الرصيف على الناحية المقابلة، ليس لديها بطانية على كتفيها، تنظر ناحيتي دائماً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتتوازى مع كل ذلك القهر تيمة الاغتراب داخل المدينة كما في قصة "اغتراب" التي تبدو فيها المدينة عجوزاً تبتلعها كثبان رمل ويحيط بها السراب، كما تبدو تحت جبال جليد أزلية فيموت السارد بين دروبها عطشاً. أما علاقته بمحيطه الاجتماعي فيصورها على النحو التالي: "لا ألفة بيني وبين هؤلاء الغرباء الذين انتهكوا عذرية المدينة. وجوه صفراء كالحة وقاتمة، أجساد ضئيلة، عيون تترية، ما زالت تحتفظ بسحنة الجد الأكبر، هولاكو، وتتخفى خلف ثياب فضفاضة". وهكذا يتآزر الاغتراب المكاني والنفسي من دون فاصل بينهما. وأحياناً يلجأ الكاتب إلى توظيف الصورة الفانتازية كما في قصة "الله يبارك حريتي". فحين ينطلق السارد بسيارته يشعر أن شعر رأسه ينمو، كما لم ينم من قبل فيطول ويمتد متراً فمتراً فأمتاراً تسبح في فضاء لا محدود وتصعد الخصلات إلى السماء، "تلملم النجوم، تصنع مسبحة جبارة".