ملخص
على رغم المصاعب الاقتصادية والاجتماعية لم يعد الشارع التونسي صاخباً بالتحركات الاحتجاجية. فهل هي ثقة في المسار الجديد لتونس بعد 25 يوليو أم هو الإحباط وفقدان الأمل في التغيير؟
على رغم ما تكشفه المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية من خلال تقارير المؤسسات الرسمية في تونس، كالمعهد الوطني للإحصاء، من تدهور في القدرة الشرائية وارتفاع نسبة التضخم وغلاء الأسعار وانسداد الأفق في التنمية وخلق الثروة بسبب وضعية المالية العمومية، فقد سجلت تونس تراجعاً لافتاً في منسوب الاحتجاجات خلال الأشهر الأخيرة.
وبحسب المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فقد تراجعت وتيرة الاحتجاجات من 12 ألف احتجاج عام 2021، إلى سبعة آلاف في 2022، ثم 3400 خلال 2023. فما أسباب تراجع الاحتجاجات على رغم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتدهورة، هل هي ثقة في المسار الجديد الذي بدأته تونس في 25 يوليو (تموز) 2021، أم فقدان للأمل في التغيير؟
كيف بات الشارع خالياً؟
عرف الشارع التونسي بعد 2011 صخباً سياسياً واجتماعياً من خلال التحركات الاحتجاجية التي كانت عنوان كل المحطات السياسية التي عاشتها البلاد. اليوم بات الشارع خالياً من كل أشكال هذه التحركات، ويرجع البعض ذلك إلى تراجع دور الأحزاب والمنظمات، بينما يرى آخرون أن التونسيين فقدوا الثقة في النخب السياسية، ولم تعد لديهم ثقة في آلية الاحتجاج لتغيير واقعهم، فيما يثق جزء من التونسيين في مسار تونس الجديد بعد 25 يوليو.
يؤكد أستاذ علم الاجتماع وعضو المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية منير حسين، لـ"اندبندنت عربية" أن تراجع منسوب الاحتجاجات يعود إلى "اختراق مختلف التحركات الاحتجاجية من قبل السلطة الحالية عبر تسوية بعض الوضعيات الاجتماعية للأشخاص الذين يقودون تلك الاحتجاجات، كتوفير الشغل أو مورد رزق دائم".
ويضيف حسين أن "الأجسام الوسيطة من أحزاب ومنظمات دخلت حالاً من الانقسام والمشاكل الداخلية على غرار الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي تراجعت قدرته على تعبئة الشارع وتأطير الاحتجاجات".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كما أسهمت الهجرة السرية التي استوعبت أعداداً كبيرة من الشباب التونسي في تقليص الاحتجاجات، بعد أن كانت الفئات الشبابية قائدة تلك التحركات، مستحضراً "حراك التنسيقيات المطالب بمراجعة المنوال التنموي وتخصيص نصيب من ريع الثروات النفطية لولاية تطاوين (جنوب)".
ويحذر أستاذ علم الاجتماع من "غياب المنجز الاقتصادي والاجتماعي في تونس، الذي قد يهدد استقرارها الاجتماعي"، مشيراً إلى أن "عامل الخوف من بطش السلطة في التعامل مع التحركات الاحتجاجية أسهم في انخفاض عددها"، ولافتاً إلى أنه "منذ 2016 وضعت الحكومات المتعاقبة سياسة واضحة تعتمد قمع التحركات الاحتجاجية أمنياً وقضائياً، كما وضعت حداً من وقتها لأي تعامل مع التنسيقيات الخاصة بالتحركات الاجتماعية".
الرضا عن مسار يوليو
في المقابل، يرى أستاذ القانون والناشط السياسي سرحان الناصري، أن "أغلب التونسيين لديهم نسبة رضا عالية عن أداء رئيس الجمهورية والمسار الجديد الذي دخلته تونس بعد 25 يوليو 2021"، مؤكداً أن "تراجع الاحتجاجات لا علاقة له بالوضع السياسي الذي تعيشه تونس، بل هو ناتج من ضعف دور الأحزاب والمنظمات المتضررة من لحظة 25 يوليو 2021، التي لم تعد قادرة على تعبئة الشارع بعد أن فقدت صدقيتها أمام التونسيين".
بعد 25 يوليو فقد جزء من التونسيين الثقة في النخب السياسية والنقابات لتغيير واقعهم، وبات الحل في الخلاص الفردي من خلال خيار الهجرة المنظمة التي تستوعب الكوادر الصحية والهندسية، والهجرة السرية حيث وصل إلى السواحل الإيطالية 36 ألف تونسي خلال العامين الأخيرين.
كما وجد التونسيون آلية جديدة للتعبير عن سخطهم إزاء النخب السياسية، كالعزوف عن المشاركة المدنية والسياسية، وبات لدى الفاعلين الاجتماعيين قناعة بعدم قدرة الزخم الاحتجاجي على تغيير الواقع، لذلك ساد نوع من الركود وغابت التحركات الاجتماعية.
وكشفت إحصاءات لوزارة الشؤون الاجتماعية تقلص عدد الإضرابات التي تم تنفيذها خلال 2022 في القطاع الخاص والمؤسسات العمومية بنسبة 69 في المائة مقارنة بعام 2021. ولم يتجاوز عدد الإضرابات في القطاع الخاص، الذي يضم أكثر من 940 ألف مؤسسة، 150 إضراباً في 2022، مقابل 283 خلال 2021، وشهدت الإضرابات في القطاع العام شبه استقرار خلال الفترة نفسها ليبلغ عددها 43 إضراباً.
انفجار في أي لحظة
وأرجعت الوزارة تراجع وتيرة الإضرابات إلى تحسن المناخ الاجتماعي في تونس خلال السنوات الأخيرة، وتطور مساعي التسوية والمصالحة في نزاعات الشغل.
يسجل تاريخ تونس السياسي والاجتماعي المعاصر تصاعداً لافتاً للاحتجاجات، تزامناً مع بداية كل رأس سنة ميلادية، وبالتوازي مع المصادقة على الميزانية، على غرار أحداث الخبز في يناير (كانون الثاني) 1984، وما يعرف بالخميس الأسود في يناير 1978، حين اصطدم الاتحاد العام التونسي للشغل مع السلطة، وانتفاضة 2011 التي بدأت في ديسمبر (كانون الأول) 2010، وانتهت في يناير 2011، إلا أن السنوات الأخيرة لم تسجل تحركات احتجاجية على رغم المصاعب الاقتصادية والاجتماعية.
ويحذر الباحث في علم الاجتماع منير حسين، من "طول أمد الانتظار، لأن تراكمات الأزمة الاقتصادية والاجتماعية قد تؤدي إلى انفجار في أي لحظة".