Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هذا ما يحيلنا من أبرياء إلى مجرمين

على الجميع أن يعيدوا النظر ونتعلم أن نندهش لا أن نكيف أنفسنا

التعود سمة بيولوجية محورية في مخ الإنسان (غيتي)

ملخص

أبرز ستيوارت ميل أهمية أن ينظر المرء من بعيد إلى معتقداته وقيمه وأعرافه وأوضاعه، حتى يتسنى له تقييمها فلعله يعرف أن التغيير مطلوب. ولكي نفعل ذلك نحن في حاجة إلى تنويع تجاربنا

في 288 صفحة يحاول كاتبان أن يفسرا لنا لماذا لا نرى، أو نختار ألا نرى ما يجري أمام أعيننا من أهوال. ولو أنكم مدهوشون من هذه المحاولة فهذا وحده دليل على أن المحاولة مطلوبة، وأن التفسير مهم، وأن الظاهرة كلها مخجلة، ذلك أنهما ببحثهما عن تفسير إنما يقطعان بحقيقة أننا لم نعد أصلاً ننتبه.

في كتاب جديد عنوانه "أعيدوا النظر: قوة الانتباه إلى ما هو قائم طوال الوقت" يحاول كل من كاس آر صنستاين وتالي شاروت البحث عن السبب في عدم اكتراثنا بما يجب أن نكترث له، وهذا أضعف الإيمان، أو نرفضه أو نثور عليه. الأول منهما أستاذ القانون بجامعة هارفرد الأميركية المرموقة، والثاني أستاذ علم الأعصاب الإدراكي في جامعة كوليدج لندن ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.

هما بكتابهما هذا يحاربان عدوا ربما لا قبل لنا به، يحاربان التعود، أي تكيفنا السيكولوجي مع بيئتنا، وعلى رغم أن التعود بهذا التعريف يبدو أداة لا غنى لأحد عنها، ما لم يكن مستعداً أن يناطح الصخر من المهد إلى اللحد، فهي أداة واجبة الاستعمال بحذر شديد، وهي دواء يجب ضبط الجرعات التي نتعاطاها منه طوال الوقت، وإلا انتقلنا من التعود إلى البلادة.

يبحث الكاتبان الطرائق الرهيفة التي تؤثر بها ظاهرة التعود في أفكار البشر وأفعالهم، و"من خلال جمع قصص مستلهمة من الحياة ومن الأدب ونتائج تجارب أجريت تحت ظروف محددة ومحكومة، أجرت شاروت بعضها في مختبرها.

التعود حقيقة مقبولة

يوضح الكاتبان، بحسب ما يرد في عرض موقع شيلف أويرنس للكتاب، "أن التعود حقيقة مقبولة، ومن نواحٍ كثيرة ضرورية، من حقائق الوجود الإنساني. وعبر أمثلة كثيرة يبينان السبب في أن ’المخ الإنساني، من أجل البقاء، لا بد أن يعطي الأولوية للجديد والمختلف" ولكن، بالنظر إلى نطاق عريض من تجارب الحياة اليومية فيعرض الكاتبان سبلا مفيدة " للإفاقة مما يرقى إلى ضباب إدراكي إنعاشاً لحياتنا، وتجديداً لها. وتقليصاً للنقاط السيكولوجية العمياء التي تنجم عن فرط الاعتياد".

والكاتبان مفتونان أيضاً بمن يطلقان عليهما "رواد رفض الاعتياد"، وهم الذين يبرزون بيننا بأنهم "ثائرون يحاربون الأعراف". فلا يقدمان في هذا الصدد زعيماً مرموقاً أو ثائراً شهيراً، وإنما يضربان المثل بـ"امرأة من كولورادو تدعى مارغريت سوير. اعترضت على ملصق من ملصقات الصليب الأحمر رأته في مسبح الحي الذي تعيش فيه ورأت أنه يمثل تحيزاً غير واعٍ، فنبهت المسؤولين إلى ما فيه من تمييز غير مقصود. وعلى هذا المستوى شديد البساطة تكتسب مكافحة التعود أهمية هائلة لصانستين وشاروت، فينطلقان من مثل هذه الأمثلة البسيطة إلى ما يعد أهم وأكبر نطاقاً.

يطالب أحد فصول الكتاب بـ"تأمل جاد للأخطار التي تتعرض لها الأعراف الديمقراطية في الولايات المتحدة، وفي الفصل نفسه يبحثان صعود النازية. وفي حين أنهما يجتنبان المقارنات السطحية، فإنهما يصفان كيف أن أشنع أعمال هتلر لم تحدث إلا بوصفها حلقات أخيرة في سلسلة من الأخطاء التي بدا لكثر أن من الممكن تجاهلها بسهولة نسبياً لأنهم اعتادوا تصاعد التمييز والعنف تصاعداً تدريجاً". يقول الكاتبان إن "الأهوال حينما تبدأ صغيرة وتزداد تدريجاً فإنها تسمح لأهوال أكبر أن تحدث في وضح النهار".

يكتب كاس آر صنستاين وتالي شاروت في مقال حديث لهما نشر بـ"نيويورك تايمز" في الـ25 من فبراير (شباط) الماضي أن "تاريخ سلالتنا الإنسانية المعجز يمتلئ بقصص مقبضة عن القمع والطغيان والحروب الدامية والهمجية والقتل والإبادة الجماعية. وكثيرا ما نحار حينما نرجع النظر ونتساءل: لماذا لم يوقف الناس هذه الأهوال مبكراً؟ كيف أمكن أن يتعايشوا معها؟".

ومن أجل الإجابة عن هذا السؤال يعترف الكاتبان أن الصورة في كاملها هائلة التعقيد، ويرجعان جزءاً كبيراً من الإجابة إلى "القواعد الحاكمة لعمليات المخ البشري"، وأهمها في ما يبدو هو البطء.

"فالحركات السياسية المتطرفة، وكذلك الصراعات المميتة غالباً ما تتصاعد ببطء. وحينما تبدأ الأخطار صغيرة ثم تزداد تدريجاً، فإنها تنتهي إلى إثارة رد فعل عاطفي أضعف، وإلى مقاومة أقل، وإلى قبول أكثر مما ما كان ينبغي أن تثيره لولا تدرجها. فتسمح هذه الزيادة البطيئة بأن تجري أهوال أكبر وأكبر في وضح النهار، وتبدو على رغم ذلك بديهية، وتظهر للأعين وكأنها من طبائع الأمور".

يقول صنستاين وشاروت في مقالهما "إن أحدنا عالم أعصاب، والآخر أستاذ قانون. ومن مجالينا المختلفين، بتنا نعتقد أنه ليس بالإمكان أن نفهم الفترة الراهنة - وما تشهده من تحولات تعد من طبائع الأمور - دونما تقدير لأسباب وكيفية عدم ملاحظة الناس للكثير للغاية مما نتعايش معه".

الاعتياد سمة بيولوجية

يلقي الكاتبان الضوء على المجرم الأساس المدان في تعايشنا مع كثر من الأهوال فيكتبان أن الاعتياد "سمة بيولوجية محورية في مخنا"، وإن استجابتنا تنزع "إلى أن تقل تجاه الأمور التي تتسم بالديمومة أو بالتغير البطيء. لأن أحدكم يدخل مقهى معبأ برائحة القهوة فتكون الرائحة في البداية طاغية، ثم لا تكاد تنقضي 20 دقيقة حتى يعجز عن شمها. وهذا لأن خلاياك العصبية الشمية تتوقف عن الاستجابة لرائحة باتت مألوفة. كما أنك، بالمثل، تتوقف عن سماع الطنين المستمر لجهاز تكييف لأن مخك يصفي ضوضاء الخلفية. فالمخ يهتم بما يطرأ حديثاً من تغير، لا بما يبقى على حاله ويستمر".

والتعود مثلما يؤكد الكتاب "من أكثر سماتنا البيولوجية أساسية، فهو شيء نشترك فيه نحن الكائنات ثنائية السيقان كبيرة الرؤوس مع حيوانات أخرى على الأرض منها القردة العليا والفيلة والكلاب والطيور والضفادع والأسماك والجرذان. والبشر يعتادون الظروف الاجتماعية المعقدة من قبيل الحرب والفساد والتمييز والقمع والمعلومات المغلوطة المنتشرة والتطرف. ولا يقتصر أمر التعود على تقليصه الميل إلى الملاحظة ورد الفعل تجاه الأفعال المنافية للأخلاق من حولنا، ولكنه أيضاً يزيد احتمالية أن نشترك فيها نحن أنفسنا".

ولعل الجملة الأخيرة جديرة بأن تحفز فينا قرون استشعار ما، فالأمر الآن لا يقتصر على أن التعود يؤهلنا للبلادة، بل إنه قد يلوث أيدينا بدماء جرائم حقيقية. يشير صنستاين وشاروت إلى دراسة أجرتها شاروت يتبين منها "أن الناس يعتادون كذبهم. فقد أتيحت لمتطوعين في تلك الدراسة فرصة للكذب مراراً كسباً للمال على حساب شخص آخر. وفي ثنايا ذلك كان يجري تسجيل نشاط أدمغتهم. بدأ المتطوعون بكذبات بسيطة نسبياً، من قبيل الغش من أجل ربح سنتات قليلة إضافية، ثم ببطء، وعلى مدار التجربة، باتت الكذبات أكبر بهدف تحقيق زيادة في كميات الدولارات".

يكتب صنستاين وشاروت أنه "في البداية، كانت أجزاء المخ التي تشير إلى المشاعر تستجيب بقوة لدى المتطوعين في حال كذبهم، بما يشير إلى أنهم غير مستريحين إلى كذبهم، ثم حدث مع كل كذبة إضافية أن قلت الاستجابة الشعورية في المخ، لأن الناس اعتادوا، وفي غياب الاستياء، لم يبق من شيء يكبح الكذب، فأمعن الناس في الكذب".

تجربة علمية

ولا يقتصر الأمر على اعتياد الكذب. فثمة تجربة شهيرة أجراها في مطلع ستينيات القرن الـ20 عالم النفس ستانلي مليغرام ويدعونا صنستاين وشاروت إلى تأملها. "كان الدافع في هذه التجربة هو فهم صعود الاستبداد مثلما حدث في ألمانيا قبل الحرب العالمية الثانية وفي أثنائها. إذ أراد مليغرام أن يدرس الطاعة ويفهم كيف يمكن أن يشارك البشر العاديون في أعمال رهيبة. وتجاربه تعلمنا ما الطاعة، لكن مليغرام، عامداً أو غير عامد، كان يدرس التعود أيضاً. فقد أظهر أن المواطنين العاديين مستعدون لصعق آخرين بالصدمات كهربائية، حتى ما يبدو منها بالغ الإيلام، ممتثلين لطلب من ذي سلطة. ولكن ترتيب مليغرام كان حاسماً. فقد سئل المتطوعون في تجاربه أن يصعقوا في أول الأمر بصدمات بسيطة، ثم ببطء بالغ، وتدريجاً، طولبوا بأن يزيدوا الجهد الكهربائي إلى مستويات بادية الارتفاع".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

"وبطلبه من المتطوعين أن يزيدوا الجهد الكهربائي درجة في المرة، كان مليغرام يحفز شعور الاعتياد. فلعل المتطوعين كانوا يشعرون بشيء من الإحساس بالذنب في أول الأمر، لكن لأن الصدمات تزايدت بدرجات بسيطة، كان أي إحساس بالذنب يأتي أقل قوة مما كان ليصبح عليه في حالة أخرى. ولما حان وقت وصل فيه المتطوعون إلى المستويات العليا، بدا أن كثراً منهم اعتادوا فكرة إلحاق الألم الرهيب بغيرهم من البشر. ومن الإنصاف القول إن كثراً للغاية من المتطوعين ما كانوا ليمتثلوا لو طولبوا في أول الأمر بإحداث صدمات الجهد الكهربائي المرتفع".

يقول صنستاين وشاروت إن دراسة مليغرام تنبئنا بشيء مهم عن السلوك البشري خارج المختبر، وعن كيفية اعتياد الناس لا على الكذب والقسوة وحسب، وإنما على الأهوال، حتى التي تقع عليهم أنفسهم.

ينقلان عن "كتاب ميلتن مايرز المذهل" الذي درس فيه صعود النازية حكاية رجل كان يعيش في ألمانيا في ذلك الوقت ووصف للكاتب النظام الحاكم فقال إن "كل فعل، وكل حدث، يكون أسوأ من سابقه، ولكنه أسوأ قليلاً فقط. لو أن آخر وأسوأ أفعال النظام الحاكم كله قد حدث على الفور بعد الحدث الأول والأبسط، فإن الآلاف، نعم، بل والملايين كانوا ليشعروا بصدمة كبيرة، لكن الأمور بطبيعة الحال لا تجري هذا المجرى. ففي ما بين الحدثين، الأبسط والأفدح، مئات الخطوات البسيطة، وبعضها غير محسوس، وكل منها يهيئك لكي لا يصدمك ما يليه".

يقول صنستاين وشاروت "لعلكم الآن تفكرون في التطورات المنذرة التي تشهدها الولايات المتحدة وأوروبا. ولو أن الأمر كذلك، فأنتم محقون تماماً"، لكن الحقيقة أنني لم أفكر في التطورات المنذرة في أميركا وأوروبا، ولكنني فكرت في الشارع الذي أقيم فيه أو تقيم فيه أنت، في مدينتي أو مدينتك، في بلدي وبلدك، وفي جرعات تزايدت ببطء حتى بات تجرع السم الزعاف اليوم روتينا يومياً في حياتي وحياتك.

ومرة أخرى يظهر عند صنستاين وشاروت أولئك الأبطال الذين ينبغي أن يكون محض الإشارة إليهم تقريعاً كافياً لي ولك، أعني "رواد رفض الاعتياد"، يقولان إنه "على رغم أن جهود المقاومة تكون أبطأ مما يروق لنا، لكنها كثيراً ما تظهر رداً على الظلم أو الأهوال، وتأملوا الثورة الفرنسية، وحركة الحقوق المدنية، وحركة (حياة السود مهمة) وحركة (وأنا أيضاً) [#MeToo]. فهذه الحركات تنزع إلى أن تبدأ على أيدي (رواد رفض الاعتياد). أولئك هم الذين لا يعتادون على شرور مجتمعاتهم، فيرون الخطأ خطأً، ويجهرون بما يرون ليمنعوا الآخرين من الاعتياد. وفي الغالب يكون رواد عدم الاعتياد أفراداً يتعرضون شخصياً للأهوال أو التمييز، لكنهم يأبون اعتياده. ومالالا يوسفزادي، وموهاندس غاندي، وروزا باركس، وغلوريا ستاينم، وهارفي ميلك، ونيلسون مانديلا، أمثلة واضحة لمن نجحوا في منع الآخرين من الاعتياد. وهناك أيضاً رواد لرفض الاعتياد لا يكونون ضحايا، لكنهم يلاحظون معاناة الآخرين فيجهرون أو يتحركون. ومن أمثلة أولئك وليام لويد غاريسون وإليانور روزفلت وبيتر سينغر. وثمة أمثلة أقل شهرة حولنا جميعاً، قد يكون بعضهم في أسرتك، أو حيك، أو المكان الذي تعمل فيه".

ويطرح الكاتبان السؤال المهم بحق: "هل يمكن إنتاج رواد رفض الاعتياد"؟ ويجيبان: "في ظننا نعم. ومفتاح ذلك ما وصفه يوماً جون ستيوارت ميل بـ(تجارب العيش). لقد أبرز ستيوارت ميل أهمية أن ينظر المرء من بعيد إلى معتقداته وقيمه وأعرافه وأوضاعه، حتى يتسنى له تقييمها فلعله يعرف أن التغيير مطلوب. ولكي نفعل ذلك نحن في حاجة إلى تنويع تجاربنا. لو أن الناس يعرضون أنفسهم عامدين لثقافات مختلفة، وممارسات مختلفة، وأشكال حكم مختلفة، فقد لا تستمر المظالم المحيطة بهم ظاهرة بمظهر الحتم الذي لا مفر منه أو بوصفها من طبائع الأمور".

"بزيارة بلد أجنبي على سبيل المثال قد يزيد الناس فرص رفضهم الاعتياد على أوضاعهم، وقد يكتسبون بعداً عن المعروف والمألوف فيرون الأشياء رؤية طازجة. وقد يحدث شيء مماثل من خلال التفاعل مع أشخاص ذوي تجارب متعددة أو من خلال إغراق المرء نفسه في وجهات نظر مختلفة عبر الأعمال الفنية (من روايات وشعر ومسرح وأفلام). ففور إبراز القمع وإظهاره جديداً، أو فور خوضك تجربة بالرؤية أو بمحض التخيل لواقع خال من القمع، قد تجفل مما يجري الآن في وطنك".

وينقل الكاتبان عن أبراهام جوشوا هيشل قوله إن "علينا أن نتعلم أن نندهش، لا أن نكيف أنفسنا". ويعقلان بقولهما إن "بوسعنا أن نتعلم الدهشة من الفساد والموت بالمخدرات وإساءة معاملة الحيوانات في إنتاج الغذاء والعنف بالأسلحة. وبعد أن نعرف كيف يعتاد الناس، فإن مزيداً منا قد يقدرون على اتباع نصيحة هيشل، فيعرفون السمات غير الجيدة في حياتنا ويركزون عليها، بل والسمات الشنيعة التي بتنا نسلم بوجودها في مجتمعاتنا".

ولعل الترجمة تقدم لنا سبيلاً آخر إلى طرق تكوين رواد رفض الاعتياد، فثمة ترجمة أخرى لعنوان هذا الكتاب قد تكون أصح، وهي "أعد النظر"، هذه الترجمة تجعل الكتاب دعوة لفرد، لي أنا ولك أنت، وليست دعوة لجمع تعفيك وتعفيني وتلقي المسؤولية عن كاهيلينا، ولعل ما بيننا وبين أن نوقف الأهوال التي باتت جزءاً "عادياً" في حياتنا اليومية هو أن ينتبه فرد، ثم فرد، ثم فرد، ثم في النهاية، مجتمع.

العنوان: Look Again: The Power of Noticing What Was Always There

تأليف: Tali Sharot - Cass R. Sunstein

الناشر: ‎ Atria/One Signal Publishers

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة