Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"مصابيح الهندسة السبعة" للإنجليزي راسكن بين الجمال والنفعية

جدانوفية الواقعية الشعبوية عقوداً قبل استشراء الستالينية من طريق سيد الواقعية الإنجليزي

من الرسوم التي تضمنها كتاب "مصابيح الهندسة السبعة" (أمازون)

ملخص

نشر الناقد الإنجليزي جون راسكن كتابه "مصابيح الهندسة السبعة" في عام 1849. وأكد منذ مقدمته أن الهندسة العمرانية بالنسبة إليه ليست مجرد تقنية، بل إنها فن أيضاً

كانت معركة حامية، وربما من أعنف المعارك التي دارت بين فنان وناقد، تلك التي اندلعت منذ عام 1878، بين الرسام ويستلر والناقد الشهير جون راسكن، الذي كان يعد في ذلك الحين سلطة ثقافية حقيقية في الحياة الإبداعية الإنجليزية. في ذلك الحين كان مقال لراسكن، في الأدب والشعر، ولكن بصورة خاصة في الفنون التشكيلية بصورة عامة، كفيلاً برفع شأن مبدع أو تحطيمه. ومن هنا خاض الرجل معارك عدة، كان بعضها يصل إلى القضاء. غير أن ما من معركة من تلك التي خاضها بدت في عنف معركته ضد ويستلر. واللافت أن هذا الأخير خرج من تلك المعركة مفلساً محطماً، مع أن كلمة القضاء كانت في نهاية الأمر لمصلحته، ذلك أن الجمهور الفني ما كان يمكنه أن يقف مع ويستلر ضد راسكن، إذ اتهم هذا الأخير الفنان بابتعاده عن الواقعية وصعوبة أعماله بحيث لا يمكن فهم ما يراد منها، ودافع ويستلر عن نفسه على أساس "حرية الفنان"، بل حتى، مبدأ "الفن للفن". إذاً، القضاء أقر ويستلر على هذا المبدأ وأعطاه صلاحية أن يعبر عن نفسه كما يشاء، لكن الناس وقفوا مع من نطق باسمهم وباسم الدفاع عن قصورهم في الفهم، كما سيقول خصوم راسكن، ومنتقدو ديماغوجيته لاحقاً. ومن هنا كانت تلك المعركة أساسية في تاريخ الحركة الفنية الإنجليزية خلال الربع الأخير من القرن الـ19.

رسائل الفنون ودورها

غير أن ما يمكن قوله هنا، هو أن راسكن، حتى من دون أن نؤيده في مواقفه، لم يكن لا ديماغوجياً ولا مفترياً على ويستلر. كان منطقياً مع نفسه هو الذي، في كتاباته كلها، لم يكن يهادن في مسألة الوضوح والدنو من الواقعية وجمهورها العريض، قدر الإمكان، مدافعاً عن بساطة تيار "الما قبل رافائيليين"، وعن كل ما هو واقف إلى جانب المضمون في الفن، لا يضحي به على حساب الشكل. جدانوفية ستالينية، قبل الأوان؟ ربما، لكن المهم أن الرجل كان صاحب موقف واضح ونزعة لها منطقها الخاص، منذ بداياته، حين راح يظهر على مسرح الحياة الفنية والأدبية الإنجليزية ناقداً مثقفاً ذا نظرة ثاقبة وأسلوب حاد واضح وصارم في الكتابة.

وعلى رغم أن في وسعنا أن نتحرى هذا كله في العدد الأكبر من كتب راسكن ودراساته، التي تناول فيها الشعر والرسم، والأفكار الفلسفية، فإن الكتاب الذي يمكن التوقف عنده، من بين كتب راسكن وتقديمه كنموذج على أسلوبه يوضع أفكاره ومواقفه خير توضيح، إنما هو كتاب عن الهندسة المعمارية. وهو كتاب مبكر أصدره راسكن وهو، بعد، في الـ30 من عمره، فراج وانتشر، وأسهم مساهمة أساسية في السمعة التي صارت للكاتب الناقد، منذ ذلك الحين.

انعطافة ذاتية وموضوعية

وفي هذا السياق يمكننا حتى أن نقول إن هذا الكتاب أحدث انعطافة في توجه راسكن، فهو من قبله كان يبدو في مواقف وكتابات أولية، متعاطفاً مع ذواقة الجمال بصورة عامة، مما جعل أنصار مذهب "الفن للفن" يعدونه واحداً منهم. غير أن صدور هذا الكتاب، وعنوانه "مصابيح الهندسة السبعة"، فاجأ الكثر بكيف أن راسكن يبدي، في حقيقة الأمر، الهم الاجتماعي - الإصلاحي، على الهم الجمالي، ويركز حديثه وسجالاته حول المسائل الاقتصادية النفعية، ما أوصله لاحقاً إلى مواقف سياسية شغلت النصف الثاني من حياته. إذاً، ما لدينا هنا كتاب أعلن فيه مؤلفه انحيازه إلى "الواقعية" على حساب الإفراط في الذوق الجمالي، كما سنرى في السطور التالية، إنما بعد أن نشير إلى أن الدافع الرئيس لدى راسكن، في مجال حدوث ذلك الانعطاف لديه، إنما كان اكتشافه أواسط القرن الـ19، أفكار وليام موريس الاشتراكية، وتعاطفه معها.

نشر راسكن كتابه هذا في عام 1849. وأكد منذ مقدمته أن الهندسة العمرانية بالنسبة إليه ليست مجرد تقنية، بل إنها فن أيضاً. فن يحمل إبداعاً حقيقياً، ولكن كيف؟ إن الهندسة هي التي تسم المبنى بجمال يجعل له هيبة ومظهراً أخاذاً. ومن هنا فإن راسكن يربط الهندسة بالنحت والرسم، بل تبدو الهندسة لديه مزيجاً من هذين معاً، لكنه بعد أن يوضح لنا هذا، يتابع موضحاً أن الهندسة إذاً، يجب أن تخضع لسبعة قوانين يسميها مصابيح أو قناديل، هي "مصابيح الهندسة" أو القوانين السبعة الرئيسة التي تضبط هذا الفن، لأنه أصلاً فن في حاجة إلى ضبط دقيق وصارم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

التضحية والحقيقة وما شابههما

وهذه القوانين يحددها راسكن ضمن إطار ترتيب أهميتها: قانون التضحية، وفحواه ان تتضمن الهندسة مواد ثمينة، ليس لأنها ضرورية، بل لأنها تحديداً ثمينة المرمر أو الرخام مثلاً، في معنى أن من يبني كنيسة يجب أن يستخدم مواد فخمة، ويعمل هو نفسه ضمن ذهنية اندفاع كامل نحو عمله. القانون الثاني هو "الحقيقة"، إذ إن المهندس الذي يريد أن يعطي عبر هندسته انطباعاً بأن ما يبنيه يختلف عن حقيقة المبنى، عبر استخدامه مواد مصطنعة، يقف ضد هذا القانون الأساس. القانون الثالث هو قانون القوة أو السلطة في معنى أن المبنى المشيد يجب أن يبنى بحيث يمكن للناظر إليه أن يراه دفعة واحدة، وبطيف يفرض حضوره، إذ إن ما يفرض هذا الحضور ليس المقاييس والكتلة وحدهما، بل الظلال التي تحدد إطار تلك المقاييس، وتفرض المبنى على بيئته. أما القانون الرابع فهو قانون الجمال. وهنا يقول لنا راسكن إن كل الخطوط الجميلة الأخاذة إنما هي في نهاية الأمر اقتباس للخطوط العامة التي نراها في شتى أنحاء كوننا هذا، مشتركة بين كل الأماكن، لافتاً إلى أن التناسق بين الخطوط يرتبط عادة بالخطوط الأفقية، أما الخط العمودي فله علاقة تقنية بمسألة المقاييس والنسب، لا أكثر. وفي هذا الإطار الجمالي نفسه، يلاحظ راسكن أن الألوان التي يستحسن التعامل معها يجب أن تكون الألوان الأقرب من الحجارة الطبيعية، إذ بقدر ما تقترب الألوان من الطبيعة، يبدو المبنى مندمجاً في بيئته، فيبرز بظلاله وخطوطه في وقت يشكل فيه جزءاً من المكان. وهنا يوصلنا راسكن إلى القانون أو المصباح الخامس، وهو ما يطلق عليه اسم "قانون الحياة"، فالأشياء، بالنسبة إليه، تكون أكثر نبلاً بمقدار ما تكون مرتبطة بالحياة مباشرة، أو تحمل في ذاتها سمات الحياة وطابعها. أما أمارات الحياة هذه، بالنسبة إلى راسكن، فتتلخص في ما ينتج من شيء من الإهمال المقصود، المرتبط بخرق ما لقوانين التناسق عبر أمارات وسمات تعطي انطباعاً بوجود قوة حيوية معينة تريد أن تعبر عن ذاتها. ويرى راسكن هنا أن ما هو حي في الفن، هو كل ما ينجز بفرح مقصود. أما بالنسبة إلى القانون السادس، فإن راسكن يربطه بالذاكرة: إن الهندسة المعمارية تمركز التأثير المقدس للذاكرة وتحميه، في معنى أن العمل الفني الهندسي يجب أن يستثير لدى الناظر إليه ذكريات فيصبح معلماً ونصباً. وحتى المنزل الذي يشيد للسكن يجب في هذا الإطار أن يكون قابلاً للديمومة ومثيراً للذة العيش والمشاهدة. وفي هذا الإطار يلاحظ راسكن كيف أن "بيوت أيامنا هذه لا تبدو مختلفة عن خيام البدو والغجر". وأخيراً في القانون السابع تلوح مسألة الطاعة، أو الإخلاص لمدرسة قومية ما، كيلا يبدو المبنى المشيد نافراً.

عبر قوانينه السبعة هذه، يرسم جون راسكن 1819-1900 كثيراً من الأطر الفنية والتقنية، هو الذي، إذ يشاء أن يعطي أمثلة على ما يقول، يورد أمثلة مستقاة من الهندستين الفرنسية والإيطالية. وهو في طريقه يورد كثيراً من الملاحظات على الفنون الكلاسيكية وفنون العصور الوسطى، غير أن هذا كله، بما فيه من إشارات جمالية واضحة، لا يمنع الكاتب من أن يلح مركزاً، في كل فصل وصفحة على ضرورة أن يخضع البعد الفني للمسألة الأخلاقية والاجتماعية، وهو ما يشي ببدايته ظهور نزعة راسكن الواقعية التي تكاد تكون نزعة دينية في امتثاليتها وواقعيتها، ما يجعل راسكن هذا يعتبر، إلى حد ما، سلفاً لأشهر أقطاب المدارس البغيضة في الهندسة، من الذين بنوا لاحقاً، في دول المعسكر الاشتراكي بخاصة، مدناً وعمارات واحياء شديدة التجهم على رغم القوانين - المصابيح - التي صاغها ذلك الأب الروحي الصارم.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة