ملخص
مهاجر رواندي بنى حياة الحلم الأميركي في أوهايو يواجه تهم المشاركة في الإبادة الجماعية
كانت مدينة أكرون في أوهايو، في وقت سابق من هذا الشهر غارقة بموجة من الطقس الدافئ ليست بموسمها عندما وصل إليها المحقق في جهاز الأمن الداخلي الأميركي، ماثيو لانغيل، وقصد المركز الرئيس لشركة "غوديير تاير أند رابير" Goodyear Tire & Rubber لمقابلة مهندسها المسؤول. فإيريك نشيميه عمل في "غوديير" بأوهايو طوال 23 عاماً. وهو التحق بها بالسنة ذاتها التي تخرج فيها بجامعة دايتون، حيث حصل على شهادة الهندسة الإلكترونية. وقبل ذلك بأعوام خمسة فقط وصل إلى الولايات المتحدة لاجئاً من رواندا المنكوبة بالحرب.
بدأ لانغيل في الـ11 من مارس (آذار) بتوجيه سلسلة من الأسئلة إلى نشيميه، الذي بات يسكن في ضاحية من ضواحي أوهايو وأب لأربعة أولاد يعرفون بلطافتهم عموماً وبأنهم يساعدون الجيران في جز عشب حدائقهم. وسأل المحقق الفيدرالي عن كيفية مجيء نشيميه إلى الولايات المتحدة وعن انتمائه السياسي قبل الإبادة الرواندية، التي تعرضت خلالها أقلية توتسي الإثنية إلى حملة اضطهاد منظمة وجرى قتل أفرادها على يد متطرفي إثنية هوتو.
وسأل لانغيل في النهاية إن كان نشيميه شارك في عمليات الاغتصاب أو القتل خلال الإبادة التي أسفرت عن 800 ألف قتيل. نشيميه من جهته "رد بداية بهز رأسه، والضحك بعصبية، طالباً شربة ماء"، وفق ما كتب لانغيل لاحقاً في وثائق المحكمة التي قدمت بعد 10 أيام. أضاف لانغيل: "حين أصريت على تكرار السؤال من جديد، أنكر زوراً مشاركته باغتصاب أو قتل أحد خلال الإبادة".
إلا أن المحققين قاموا سلفاً بجمع سيل من الأدلة التي تشير إلى عكس ذلك – ويتهم المحققون الفيدراليون على ضوء هذا نشيميه بأنه مجرم حرب يعيش منذ عقود حياة مزدوجة [مخفياً هويته الحقيقية]. ويرى المحققون بأنه نشط في تعقب وتحديد أمكنة أبناء أقلية توتسي، وكشف عن هوياتهم ليلقوا حتفهم، إضافة إلى قيامه شخصياً بعمليات قتل وحشية. وفي واحدة من الوقائع المريعة، يتهمونه بقتل ولد في الـ14 من عمره بواسطة ساطور وهراوة مسننة، وذلك مباشرة بعد قتله والدة الصبي.
اليوم نشيميه البالغ من العمر 52 سنة، المعروف أيضاً بإيريك تابارو نشيمييمانا، اتهم بالتزوير ضمن شكوى جنائية، إذ أخفى وحجب وقائع مادية عبر الحيلة والتخطيط والتنفيذ، وأعاق العدالة، وقدم شهادة كاذبة. وجرى توقيفه يوم الخميس (الـ21 من مارس / آذار) في أوهايو، على أن يمثل أمام المحكمة الفيدرالية بمدينة بوسطن بموعد لاحق.
وتتعلق التهم الموجهة إلى نشيميه أيضاً، إضافة إلى فظائعه المفترضة في رواندا، بشهادة كاذبة عام 2019 أدلى بها ضمن محاكمة زميل له كان بصفه في المدرسة، ودين ذاك الزميل الآن لمشاركته في الإبادة الرواندية.
الجيران في لايك تاونشيب، الضاحية الراقية التي عاش بها نشيميه وزوجته وأولاده لسنوات في منزل مؤلف من ثلاث غرف نوم وثلاث حمامات، أصيبوا هذا الأسبوع بالصدمة. وهم تحدثوا مع صحيفة "كانتون ريبوسيتوري" عن العائلة التي اشتهرت بتقديم الطعام الأفريقي، واستقبلت أولاد الحي كي يلعبوا كرة القدم في حديقة منزلها. "إنه ليس الشخص الذي أعرفه"، قالت للصحيفة سيدة صادقت نشيميه طوال 12 سنة. تابعت السيدة: "الشخص الذي نعرفه هو رجل عائلة، وليس شخصاً عنيفاً. أولادنا (الذين صادقوا أولاده) كانوا ينامون في بيتهم أحياناً. هذا ليس الشخص الذي أعرفه".
بحسب الوثائق، بذل نشيميه طوال عقود جهداً كبيراً لإخفاء ماضيه الذي يبدو في سجلات المحكمة أشبه بفيلم رعب. ينحدر الرجل من إثنية هوتو التي شكلت أكثرية 85 في المئة من السكان في رواندا مطلع التسعينيات. التحق نشيميه بالجامعة لدراسة الطب نحو عام 1991. تلقى تعليمه في جامعة رواندا بمدينة بوتاري، التي شكلت مركزاً ثقافياً وتعددياً في البلاد آنذاك وضمت أيضاً مستشفى تابعاً للجامعة. كان نشيميه لا يزال طالباً عندما بدأت الإبادة عام 1994، وفق الوثائق المتوفرة.
وخلال ذلك الوقت كان نشيميه عضواً ناشطاً في "الحركة الثورية الوطنية من أجل التنمية"، حزب إثنية هوتو الحاكم الذي حرض على الإبادة، وكذلك عضواً في ميليشيات الحزب الشبابية المعروفة باسم الـ"إنتيراهاموي" Interahamwe. وتدعي وثائق المحكمة أنه كان يشارك في التظاهرات والتحركات، مرتدياً زي الحركة الخاص، حتى أنه تلقى تدريباً على السلاح في غابة قريبة من حرم الجامعة. وكان القائد الطلابي للحركة الثورية الوطنية في بوتاري، جان ليونارد تيغانيا، من معارفه الدائمين، وقدم نشيميه شهادة لصالحه بعد عقود لاحقة في مدينة بوستن (الأميركية)، وفق ما تكشف عنه الوثائق.
غير أن مشاركة نشيميه بالأنشطة السياسية تعمقت وازدادت قتامة وتخطت التظاهرات وارتداء زي الحركة الثورية. إذ بحسب الشهادة تحت القسم التي أدلى بها لانغيل في الوثائق، قام نشيميه بملاحقة وتحديد أمكنة أفراد من توتسي لإعدامهم، ولجأ كثير منهم إلى المستشفى الجامعي للاختباء. وكان نشيميه ينتقي أفراد توتسي ويلقي القبض عليهم على الحواجز التي غالباً ما "تسلح (عناصرها) بهراوات خشبية مسننة بالمسامير وبسواطير" إضافة إلى "الفؤوس والقنابل اليدوية"، وفق الوثائق.
وتضمنت وثائق المحكمة في هذا الإطار رسوماً نفذها شخصان تظهر أدوات التعذيب التي أفيد باستخدام نشيميه لها. وفي الإطار عينه يكتب لانغيل: "الشخصان اللذان شاركا في الإبادة كمقترفين، وأشخاص آخرين ناجين منها، أشاروا أخيراً إلى أن نشيميه كان من بين أكثر الطلاب الجامعيين ضراوة ممن التحقوا بـانتيراهاموي خلال الإبادة". يتابع لانغيل: "مثلاً، أحد المشاركين في الإبادة روى كيفية استخدام نشيميه ساطورا وهراوة مسننة بالمسامير لقتل صبي من توتسي عمره 14 سنة بعد أن قام وآخرون بقتل والدته".
الشاهد نفسه "روى حادثة أخرى كان فيها نشيميه مع مجموعة من انتيراهاموي وقامت مجموعته بإلقاء القبض على 25 إلى 30 شخصاً من توتسي كانوا مختبئين في الغابة القريبة من الجامعة". وتتابع الوثائق "قتلت المجموعة التي تضم نشيميه وآخرين جميع أفراد توتسي المعتقلين، ثم أحرقوا جثثهم في الغابة".
وفي واقعة رهيبة أخرى، وفق ما أدلى به للمحققين مشارك آخر بالإبادة، فإن المهندس الذي يعيش اليوم في أوهايو (أي نشيميه) "أصدر تعليمات لرفاق له في انتيراهاموي باغتصاب ثم قتل ست نساء شابات كن طالبات في الجامعة". وبعد إعطائه التعليمات، أفيد بأن نشيميه ترك المجموعة وعاد لاحقاً ليجد أن الشابات ما زلن أحياء، وفق ما ذكرت الوثائق، لذا "اختار شابة من بينهن كي يقتلها بنفسه وكلف عنصراً آخر من انتيراهاموي بقتل الأخريات. وقتل نشيميه الشابة عبر ضربه رأسها بهراوة مسننة بالمسامير، وراح يضربها حتى الموت".
كذلك روى الشاهد نفسه بالتفصيل كيفية قيام نشيميه بإلقاء القبض على خياط من توتسي يصنع أثواباً للأطباء في المستشفى، فاقتاد مع آخرين ذاك الخياط وعاد ليتباهى بقتله وفي يده "هراوة مسننة بالمسامير تقطر دماً".
غادر نشيميه رواندا عام 1994، ويبدو أنه وصل بطريقة ما إلى كينيا، إلا أنه على مدى أعوام قدم مرويات مختلفة لرحلة خروجه من بلده. لكنه في مايو (أيار) 1995 كان في نيروبي عندما تقدم بطلب لجوء إلى الولايات المتحدة، زاعماً في طلبه ذاك أن الميليشيات التي كان ينتمي إليها في الماضي، انتيراهاموي، قتلت والده وتتهدد حياته. حينها أيضاً أورد (في طلبه) مكان ولادة مزيفاً وتاريخاً خاطئاً لمغادرته رواندا ونفى انتماءه إلى أية "منظمة سياسية أو مهنية أو اجتماعية" خلال الوقت الذي سبق تقديمه طلب اللجوء – إضافة إلى معلومات مزيفة أخرى.
وتابع نشيميه أكاذيبه خلال المقابلة الذي أجراها معه في نيروبي مسؤول مكتب الهجرة الأميركي، زاعماً "أنه لم يشارك بأي أعمال أدت إلى مقتل أو جرح آخرين منذ الأول من أبريل (نيسان) 1994"، وأنه "لم يقم بأي شكل من الأشكال بتشجيع أشخاص آخرين على المشاركة في هكذا أعمال أدت إلى قتلى وجرحى"، وفق الوثائق.
كجزء من معاملات الحصول على تأشيرة الدخول إلى الولايات المتحدة، تقوم سلطات الهجرة بطرح سؤال معتاد على كل متقدم بطلب التأشيرة إن كان شارك في أعمال إبادة أو تعذيب أو في تنظيمات إرهابية، أو غيرها من أعمال إجرامية بشعة. ومنح هذا المواطن الرواندي (نشيميه) تأشيرة أميركية في شهر ديسمبر (كانون الأول) 1995، وهي تأشيرة تسمح له بممارسة العمل، فدخل البلاد من نيويورك ثم انتقل إلى أوهايو. وحصل نشيميه على إقامة دائمة عام 1998 – متابعاً أكاذيبه، وفق قول وثائق المحكمة – وغدا مواطناً أميركياً عام 2003، تاركاً خلفه في بلاده الأولى سجله الإجرامي المفترض.
في المقابل، وبعد أن حل في أوهايو، راح نشيميه يبني حياة جديدة. فتخرج في جامعة دايتون، وعمل لسنتين في شركة "دايتون باور أند لايت" Dayton Power & Light قبل أن يلتحق بشركة "غوديير" كمهندس إلكترون، شاقاً طريقه كي يشغل رتبة مهندس مسؤول، وفق موقع "لينكدإن". واشترى نشيميه وزوجته منزلهما في لايك تاونشيب عام 2003 وربيا صبيين وبنتين، وفق "كانتون ريبوسيتوري". وتعلم الأولاد في "نورث كانتون سيتي سكولس" وكان نشيميه يدعو الجيران في الحي إلى حفلات تخرج أولاده، وفق ما أفاد به بعض جيرانه للصحيفة المحلية.
أحد جيران نشيميه القريبين، وهو مقعد على كرسي متحرك، وصف للصحيفة مدى الكياسة والكرم اللذين أظهرهما نشيميه على مدى الأعوام. قال الجار: "كان ينحني للمساعدة. تمنيت لو أن جميع الجيران مثله. أثق به أكثر من أشخاص عديدين في شارعنا".
إلا أن حدس هذا الجار تعرض لتضليل كبير، لأن فكرة الحياة المزدوجة غدت سمة في حياة هذا الرواندي، كما أنه خاطر أكثر عبر حماية مرتكب آخر شارك في الإبادة وحل مثله لاجئاً في الولايات المتحدة، وفق الاتهامات التي توجهها وثائق المحكمة.
إذ إن صديقه القديم في الجامعة الذي شاركه السكن لفترة، تيغانيا، كان انتقل إلى بوسطن ووجد نفسه هناك عام 2017 في ورطة قانونية، إذ اتهم بتزوير وسوء استخدام تأشيرات دخول وأوراق إقامة وغيرها من الوثائق. وأشار الاتهام الذي وجه إليه إلى أن تيغانيا، فيما كان يسعى إلى الحصول على لجوء إلى الولايات المتحدة – مثل نشيميه – أخفى حقيقة أنه كان عضواً في "الحركة الثورية الوطنية" (الـ MRND) وما اقترن بذلك من أعمال إبادة.
وفي عام 2019 استدعي نشيميه للشهادة في محاكمة تيغانيا وقدم "إفادة كاذبة" عن "علاقة صديقه بالحركة الثورية الوطنية ساعياً إلى تبرئة تيغانيا"، وفق ما تشير إليه وثائق المحكمة. "كذلك كذب نشيميه في شهادته بمسألة عضويته هو نفسه بالحركة الثورية الوطنية وبانتيراهاموي وبمشاركته بالإبادة الرواندية، وغيرها من أمور. وبسلوكه هذا دعم نشيميه وساعد جهود تيغانيا الهادفة إلى إعاقة العدالة، إذ إن تيغانيا كان مدركاً تماماً أن نشيميه سيكذب من أجل تبرئته. إلى هذا انخرط نشيميه نفسه في مسار إعاقة العدالة عبر مساعدة تيغانيا والسعي إلى تعطيل أو منع تطبيق التحقيقات القانونية الفيدرالية المتعلقة بأنشطته هو خلال الإبادة، ومخططه التزويري لدخول الولايات المتحدة كلاجئ كي يغدو في النهاية مواطناً أميركياً"، وفق وثائق المحكمة.
تيغانيا من جهته دين عام 2019 بتهمتي احتيال في مجال الهجرة وثلاث تهم متعلقة بشهادة الزور، وحكم عليه بـ97 شهراً في السجن، وسيواجه إجراءات الترحيل بعد قضاء محكوميته. والآن زميله السابق في مقاعد الدراسة يواجه المصير ذاته.
"نشيميه متهم بالكذب لإخفاء مشاركته بواحدة من كبرى الفظائع البشرية في التاريخ"، قال مايكل جي. كرول، المسؤول الأول الخاص في "إتش أس آي نيوإنغلاند" يوم الخميس (الـ21 من مارس / آذار). وأضاف "الوثائق الاتهامية تظهر دعاوى محددة متعلقة بأعمال قتل واغتصاب أفراد من إثنية توتسي ارتكبت خلال دراسته الطب في رواندا. كما تتهمه الحكومة بأن إفادته في الدفاع عن مدان بالمشاركة في الإبادة، مثلت محاولة محسوبة هدفها إخفاء الجرائم الفظيعة المرتكبة خلال تلك الإبادة، والمضي في إبعاد نفسه عن تهم مشاركته شخصياً بالحوادث الفظيعة، متلافياً بهذا عواقب أفعاله".
كل واحدة من تهم الحنث باليمين، والتزوير، وإخفاء وحجب الحقائق المادية عبر الخداع والتخطيط والتنفيذ، من شأنها أن تؤدي إلى توجيه لنشيميه أحكام تصل إلى خمس سنوات في السجن، وثلاث سنوات من الإقامة المراقبة خارج السجن، وعقوبة مالية تبلغ قيمتها 250 ألف دولار.
بالأثناء، في أوهايو، فإن الأشخاص الذين عرفوا نشيميه على مدى 30 عاماً تقريباً يجهدون لاستيعاب التهم الموجهة إلى ذاك الرجل الذي وجه عديداً من الطلاب المحليين وساعد جيرانه وكان له حضور ثابت في شركة معروفة طوال عقود من الأعوام. "غوديير منزعجة جداً إزاء الاتهامات التي وجهت إلى أحد العاملين فيها، وهي تتعاون مع السلطات تعاوناً تاماً"، قالت الشركة لـ"اندبندنت" في بيان يوم الجمعة الماضي. أما المحامي العام الذي يمثل نشيميه فلم يرد فوراً على طلب أرسلته "اندبندنت" يوم الجمعة الماضي للحصول على تعليق.
© The Independent