ملخص
أقر مجلس النواب الأميركي مشروع قانون عن عمل "تيك توك" يرى نقاد أنه يتصف بعدم الدقة والميل إلى صيغ فضفاضة في تعريف مدى ارتباط التطبيقات الرقمية ببلدان منافسة لأميركا وطريقة معالجة النفوذ التقني لخصومها الاستراتيجيين وأشياء أخرى
في 13 مارس (آذار)، أقر مجلس النواب الأميركي مشروع قانون من شأنه أن يحظر على الأميركيين الوصول إلى تطبيق "تيك توك" لأشرطة الفيديو، ما لم تقدم شركة "بايت دانس" Byte Dance المستقرة رئاستها في الصين، على بيع حصتها في التطبيق خلال ستة أشهر. وبطرق عدة، بدا ما سمي "مشروع قانون تيك توك" نصاً تشريعياً قوياً، إذ أقر بغالبية ساحقة بلغت 352 صوتاً، ما عبر عن مستوىً نادر من التوافق بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي. ويطال مشروع القانون ما هو أبعد من "تيك توك" بحظره تطبيقات أخرى تسيطر عليها "بايت دانس". كذلك يفرض مشروع القانون رقابة على تطبيقات حالية وأخرى مستقبلية ذات صلة بكبار المنافسين الاستراتيجيين للولايات المتحدة كالصين وإيران وكوريا الشمالية وروسيا، محذراً من أنها أيضاً قد تخضع لعقوبات تشمل الغرامات المالية أو الإنهاء القسري للاستثمار في الملكية أو الإنهاء الإجباري للأعمال.
وسعى ذلك التشريع إلى التعامل مع مجموعة واسعة من المشكلات، إذ اقتبس أحد واضعي مشروع القانون، النائب الجمهوري مايك غالاهار، بمجموعة من إحاطات الأمن الوطني التي أفادت بأن "تيك توك" ينتهك خصوصية المستخدمين، ويستهدف الصحافيين، ويسهل التدخل في الانتخابات، إذ أشار مدير "مكتب التحقيقات الفيدرالية"، اختصاراً "أف بي أي" FBI، كريستوفر راي، أثناء إدلائه بشهادة أمام الكونغرس، إلى أن الحكومة الصينية تستطيع السيطرة على ملايين الأجهزة عبر ذلك التطبيق، من دون معرفة المستخدمين على الأرجح. أبعد من المخاوف المتصلة بالأمن الوطني، هنالك مثيلاتها في الاقتصاد، إذ على خلاف منافساتها الأميركية، تعمل "بايت دانس" في الصين والولايات المتحدة معاً، ما يمنحها أفضلية في تطوير خوارزميات السوشيال ميديا ومنتجات الذكاء الاصطناعي. [الخوارزميات algorithms هي المعادلات الرياضية التي تعمل بموجبها البرامج والتطبيقات والآلات الرقمية، من ثم فإنها تحدد آلية وظائفها وأعمالها كلها].
وعلى رغم من تركيز مشروع القانون على "تيك توك"، فإنه ينطبق على كل التطبيقات المتصلة بصورة أساسية مع البلدان الأربعة التي يحددها القانون الأميركي بوصفها "خصوماً". ويرمي هذا التوسع إلى تجنب انتهاك بند في الدستور الأميركي يحظر على جهات التشريع فرض عقوبة على شخص ما أو مجموعة من الأشخاص، قبل المحاكمة. في المقابل، يحتفظ "مشروع قانون تيك توك" بتركيز مثير للجدال على معطى الفردية، بما في الشركات المفردة وأصناف محددة من الناس. من ثم يخاطر هذا التركيز بترسيخ سياسة أميركية عامة تستهدف شركات معينة وأشخاصاً محددين، بدل إجراء مراجعة منهجية لمأمونية الفئات المختلفة من المنتجات التكنولوجية.
على رغم من تشارك أعضاء مجلس شيوخ من الحزبين السياسيين الرئيسين، الرغبة في وضع تشريع تنظيمي عن "تيك توك" فإن مشروع القانون المتعلق بذلك التطبيق، بات عالقاً الآن في مجلس الشيوخ لأن المشرعين يناقشون مراجعة لغته ومقاربته. وتبرهن الجهود الأميركية المتطاولة في التدقيق بـ"تيك توك"، على أن محاولة تنظيم الشركات المفردة يستغرق وقتاً طويلاً ويوِّلد نتائج غير مؤكدة. إن مكونات مشروع القانون المتعلقة بأفراد أجانب، قد تشجع التمييز على أساس الأصل القومي ضد فئات من الناس يشكلون جزءاً لا يستعاض عنه من قوة العمل الأميركية في قطاع التكنولوجيا. وإذا أقر في شكله الحاضر، سيلقي مشروع القانون بضغوط على علاقات الشخصية والمؤسساتية التي تؤدي أدوار حيوية عبر طرقها الخاصة، في الأمن القومي الأميركي. ويقصد بذلك، تلك الأشكال من التعاون بين المستثمرين الصينيين والأميركيين التي تساعد في تخفيض المحفزات على العداوة الصريحة بين بلديهما.
وبدلاً من استهداف شركات مفردة بعينها، على نحو ما يرومه "مشروع قانون تيك توك"، يجب على الحكومة الأميركية أن تصطف إلى جانب حلفائها وشركائها كأوروبا واليابان، بل حتى ولايات على حدة مثل كاليفورنيا ويوتاه وفيرجينيا التي سنت بالفعل قوانين عن خصوصية البيانات مصممة لحماية بيانات المستهلك خلال عمليات تجميعها واستخدامها. ويجب ضخ طاقة الدفع تلك في المنظومة التشريعية الأوسع التي تدعم زيادة الحماية لبيانات المستهلك، وتحسين تعليم المستخدم، والتوصل إلى اتفاقات جديدة عن التجارة الرقمية. وبالفعل، يمثل "تيك توك" تهديداً مميزاً للأمن القومي الأميركي بسبب صعود شعبيته بين الأميركيين، مع حدوث أمر مماثل في المكان الذي تستقر فيه الشركة المالكة له. في المقابل، يشكل أذى "تيك توك" مجرد جزء من منظومة تكنولوجية أوسع نطاقاً في الولايات المتحدة تتسم بالقابلية للاختراق وغياب التشريعات التنظيمية عنها. يجسد "مشروع قانون تيك توك" الحل الخطأ لمشكلة حقيقية.
خطورة انتشار الميول العامة
في شكله الحاضر، استهلت حياة "تيك توك" في عام 2018 حينما أدمجت "بايت دانس"، شركة صينية رائدة في تقنيات الإنترنت، تطبيقاً صينياً متألقاً مخصصاً للترفيه الشبابي [تيك توك]، مع تطبيق "ميوزيكال. أل واي" Musical.ly، التطبيق الصيني الرائج عالمياً والمخصص لصنع الموسيقى وأشرطة الفيديو الذي استحوذت عليه "بايت دانس" في العام السابق. في أواخر عام 2019، استقطب ذلك التطبيق 55 مليون مستخدم في أميركا الشمالية، بالتساوي مع تطبيق "لينكدأن" LinkedIn. من ثم حل "تيك توك" في المرتبة الـ15 في تصنيف تطبيقات السوشيال ميديا الأكثر شعبية في أميركا. لكن، لم يبدأ السياسيون الأميركيون في إبداء الاهتمام في شأن "تيك توك" إلا بعد توسع استخدامه على نحو ضخم في صفوف الأميركيين خلال الإغلاقات التي فرضت أثناء الأشهر الأولى من جائحة "كوفيد- 19".
في صيف عام 2020، وبزعم أن "تيك توك" شكل خطراً على الأمن القومي والاقتصاد الأميركي، حاول الرئيس دونالد ترمب حظر التطبيق من العمل في الولايات المتحدة، بواسطة أمر تنفيذي. وكذلك أصدر أمراً تنفيذياً يحظر الأميركيين أفراداً وشركات، من إجراء تعاملات مالية عبر تطبيق آخر في السوشيال ميديا مملوك للصين، "وي شات" WeChat، سعياً من ترمب إلى تحطيم عمليات ذلك التطبيق في الولايات المتحدة. رفعت "بايت دانس" سلسلة من التحديات القانونية أدت إلى لجم الحظر المقترح، وأصرت على أنها قد تفضل إيقاف عمليات التطبيق في الولايات المتحدة، على بيعه.
في يونيو (حزيران) 2021، ألغى الرئيس جو بايدن أوامر ترمب التي تحظر تلك التطبيقات الصينية. في المقابل، مضت إدارة بايدن في الدفع بـ"لجنة الاستثمارات الأجنبية في الولايات المتحدة" المنوط بها مراجعة تداعيات الاستثمارات الأجنبية على الأمن الوطني في الوكالات الحكومة كلها، باتجاه التدقيق في "تيك توك". في ديسمبر (كانون الأول) 2022، وقع الرئيس بايدن "قانون حظر تيك توك في الأجهزة الحكومية"، وحظر استخدام "تيك توك" في كل الأدوات التي تشتريها الحكومة الفيدرالية.
بأي وسيلة كانت، لا يشكل تيك توك التطبيق الوحيد الذي يعمل في الولايات المتحدة ويقدم معلومات مضللة على منصته
سرع الكونغرس تدقيقاته في "تيك توك" خلال عام 2023. وفي مارس من ذلك العام، أدخل السيناتور مارك وارنر، من ولاية فرجينيا، "قانون رستريكت" الذي يخول وزارة التجارة مراجعة بعض التعاملات بين الولايات المتحدة وخصومها الأجانب، وكذلك اتخاذ إجراءات بهدف، وفق لغة مشروع القانون ذلك، "التعرف وردع وخلخلة وحظر وتقصي أو استبدال ذلك بالتخفيف، حيال أي خطر" تتوصل المراجعة إلى تعريفه. في الشهر نفسه، استدعت "لجنة الطاقة والتجارة" في مجلس النواب، المدير التنفيذي لـ"تيك توك"، تشو شيو، للشهادة في شأن خصوصية البيانات في التطبيق، والممارسات المتعلقة بسلامة الأطفال. في يناير (كانون الثاني) 2024، صب أعضاء "لجنة مجلس الشيوخ القضائية" نار أسئلتهم على شيو خلال جلسة استماع عن سلامة الأطفال على الإنترنت. وأضيف إلى ذلك، في الخامس من مارس 2024، أن غالاهار والنائب راجا كريشنامورثي، من ولاية إلينويز، أدخلا "مشروع قانون تيك توك"، ومارسا ضغوطاً لمصلحته، فمرره مجلس النواب خلال أسبوع.
بأي وسيلة كانت، لا يشكل "تيك توك" التطبيق الوحيد الذي يعمل في الولايات المتحدة ويقدم معلومات مضللة على منصته، ويسهل التدخل في الانتخابات. في المقابل، يختلف "تيك توك" بشكل محمل بالدلالة عن منافسيه الأميركيين، حينما ينظر إلى خوارزمياته، إذ تسعى تطبيقات السوشيال ميديا إلى إخفاء طرق تدريبها وإدارتها للخوارزميات، ما يزيد من خطر تقديمها معلومات مضللة على منصاتها أو تشجيعها ممارسات استغلالية في جمع البيانات. في المقابل، تعطي تشريعات الحكومة الصينية مساحة أوسع للآليات القانونية كي تمارس ضغوطاً على التطبيقات الصينية سياسياً واقتصادياً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لقد أضافت الحكومة الصينية قيوداً من السيطرة الإضافية على "تيك توك" بالتحديد. وفي 2020، وضعت الصين خوارزميات التوصية بالمحتوى على قائمتها للصادرات الخاضعة للتقييد، مشيرة إلى أن بكين تعتبر خوارزميات "تيك توك" محورية تماماً للأمن القومي الصيني إلى حد أن الحكومة تحظر وصول قوى أجنبية إليها.
[خوارزميات التوصية بالمحتوى هي التي تقدم اقتراحات للمستهلك للاطلاع على محتويات قريبة من المواد التي يطالعها أو يراها. من الأمثلة على ذلك، اقتراح أفلام وأشرطة تظهر حينما يشاهد المستخدم فيلماً أو شريط الفيديو، أو اقتراح روابط معينة ونصوص محددة على من يقرأ خبراً أو نصاً أو تدوينة. وتعتبر من وسائل التأثير في رأي المستخدم].
في ظل "قانون أمن البيانات" لعام 2021 في الصين، وكذلك "قانون حماية المعلومات الشخصية" للعام نفسه، باتت "بايت دانس" عرضة لتدقيقات الأمن الوطني الأميركي في شأن البيانات. حركت تلك الإجراءات ومثيلاتها، مخاوف مشروعة بين صفوف المشرعين الأميركيين عن مدى سعي الصين إلى الوصول لبيانات المستخدمين الأجانب أو توظيفها "تيك توك" في إدارة حملات المعلومات المضللة والتأثير السياسي.
سوء إدارة المحتوى
من النادر حدوث توافق وإجماع في مجلس النواب بين الحزبين الرئيسين. وجدد "مشروع قانون تيك توك" الاهتمام بالتأثير الواسع للتطبيق على منظومة التكنولوجيا والمعلوماتية في الولايات المتحدة. وعلى نحو خاص، إن جهود ذلك المشروع في ضمان تمكن المستخدمين من تجديد الوصول إلى بياناتهم قبل سريان أي حظر للتطبيق، يسجل سابقة مهمة. في عام 2020، عقب تولي "لجنة الاستثمارات الأجنبية في الولايات المتحدة"، مهمة إرغام الشركة التكنولوجية الصينية "بيجينغ كونلون" على بيع تطبيق السوشيال ميديا "غريندر" المخصص لأصحاب الهويات الجنسية المغايرة، لم يحز المستخدمون قبل ذلك أي حماية مماثلة.
في المقابل، يملك مشروع القانون جوانب سلبية تفوق منافعه، إذ تصنف بموجبه التصميمات بوصفها "مسيطر عليها من خصم أجنبي [يمسك بمقاليدها خصم]" إذا كان ملاكها أو شركاتها الأم خاضعين لإشراف تشريعي مباشر تتولاه حكومات الصين أو إيران أو كوريا الشمالية أو روسيا، كأن يكون مقره الرئيس مثلاً في تلك البلدان. لكن، قد ينطبق ذلك التصنيف على التطبيقات إذا امتلك خمسها من شركات تتصل بتلك الدول أو مواطنيها. وينص مشروع القانون أيضاً على أن التطبيقات قد تحصل على ذلك التصنيف حتى لمحض كونها "عرضة للتوجيه أو السيطرة" من شركات مرتبطة بخصوم للولايات المتحدة. لا يشرح مشروع القانون ما الذي يعنيه بـ"عرضة للتوجيه أو السيطرة".
ويولد الافتقار إلى التحديد أو التعيين نقصاً أساسياً في شأن كيفية مقاربة مشروع القانون للتحدي الماثل في تحديد المصدر الوطني للشركات التي تعمل في الولايات المتحدة. ومثلاً، يستقر المقر الرئيس "بايت دانس" في بكين لكنه مسجل في "جزر كايمان". تؤدي المقار الرئيسة للشركات دوراً وازناً في كيفية السيطرة عليها، لكن الموقع الجغرافي للمقار الرئيسة للشركات لا يدل بشكل تام على مدى تأثير الحكومة في عملياتها. تحوز شركات مثل "تيسلا" للسيارات الكهربائية، اتصالاً تجارياً واسعاً مع السوق الصينية. إن محاولة التحديد الدقيق لبنيات الملكية والتأثيرات المالية للتطبيقات، قد تتطلب من المشرعين أن يتحولوا إلى محاسبين جنائيين.
يضخ مشروع قانون تيك توك ارتياباً جديداً، في أوساط صناعة التكنولوجيا الأميركية
وكذلك تبرز صعوبات لوجيستية ضخمة في مسألة تحديد الأصل الوطني لملاك الحصص في الشركات العامة، ولنتحاشى وصف ذلك في الشركات الخاصة، ولنمتنع أيضاً عن ذكر أي شيء يتعلق باعتبار الـ20 في المئة كمعيار للسيطرة على شركة ما. وثمة غموض أشد في ما يتعلق بتعريف مشروع القانون عن الشخص الذي "يخضع للتوجيه أو السيطرة من خصم أجنبي"، إذ قد ينطبق ذلك التعريف على عدد كبير من الشركات والأفراد الأميركيين ممن يعملون في الصين ويجب عليه اتباع تشريعات صينية وتوجيهات في السياسة، كي يستطيعوا الاستمرار في أعمالهم.
وبكلمات عملية، يضخ مشروع القانون ارتياباً جديداً في أوساط صناعة التكنولوجيا الأميركية. كذلك تفشل مهلة الـ180 يوماً لسحب الاستثمارات، في التعبير عن وقائع عمليات سحب الاستثمارات والاستحواذات في الشركات الكبرى. لقد استغرقت عملية سحب الاستثمارات قسرياً من شركة "بيجينغ كونلون" نحو العام، وهي أصغر من شركات عدة قد يجبرها مشروع القانون على سحب الاستثمارات، ذلك أن مستخدميها أقل عدداً بكثير وأدنى في مدى خطورة انعدام الثقة بها.
إن غياب الوضوح العملياتي في آلية توصيف تطبيقات بأنها تحت سيطرة خصوم أجانب، يقرب إمكانية تسييس تلك الآلية أيضاً، إذ تجمع الشركات الصينية العاملة في الولايات المتحدة بيانات حساسة عن مستخدميها، في قطاعات كالصحة والألعاب الإلكترونية ورعاية الأطفال رقمياً وأمن المنازل. من ثم فالأرجح أن آلية تركز على تسمية الشركات إفرادياً وتلطيخ سمعتها، بدلاً من حماية المنظومة التكنولوجية بمجملها، ستفيد أساساً شركات مجموعات الضغط التي لا شك في أنها ستطلب للتدخل في العقود المغرية التي تبرمها شركات لديها خشية من مدى التعرض للمخاطر.
الفجوة الرقمية
أبعد من تلك النواقص المحددة، يكشف وهن "مشروع قانون تيك توك" عن تحد تأسيسي عميق في مشهدية التشريعات الرقمية في الولايات المتحدة. وحينما ينبرون إلى وضع تشريعات تنظيمية لمنظوماتهم، يعطي معظم حلفاء الولايات المتحدة الأولوية لحقوق المستخدمين في بياناتهم. تتحوط تلك المقاربة من الأخطار المستجدة التي قد تتأتى من التقنيات الصاعدة، حتى قبل أن تشرع تلك التكنولوجيات في العمل على نطاق واسع. وعلى خلاف الحال في الولايات المتحدة، يجب على كل الشركات التي تعمل في الاتحاد الأوروبي واليابان، اتباع القوانين الوطنية في تلك الأسواق في ما يتعلق باستعمال البيانات الشخصية والتداول بها. وبسبب استهدافها الشركات بصورة إفرادية، بدل حماية المنظومة الرقمية الأميركية، تتحرك الولايات المتحدة نحو الابتعاد أكثر عن التوصل إلى إجماع مع حلفائنا وشركائنا في شأن قضايا أمن البيانات.
لطالما امتنعت الولايات المتحدة عن وضع تشريعات تنظيمية على التقنيات إلا بعد أن تصير إشكالية أو عدائية بشكل مستشر. وضمن استثناءات قليلة بارزة، يقدم النظام التشريعي الأميركي حمايات محدودة للبيانات الشخصية. عملت هذه المقاربة على تحفيز الابتكار. تحتضن الولايات المتحدة مشهدية تكنولوجية تتسم بسرعة الإيقاع والغنى في الأرباح، إذ أتاحت القدرة على الوصول إلى كميات هائلة من بيانات المستخدمين، تحولها إلى قوة عالمية كبرى للتطبيقات والمنصات التقنية.
وبالمقارنة مع الآخرين، تتبع حكومة الولايات المتحدة مقاربة عدم التدخل في قطاع التكنولوجيا، إلا أن ذلك ربما أخذ في التحول إلى عائق أمام الأمن الوطني. وبصورة متزايدة، تعتمد شركات التكنولوجيا الأميركية على ممارسات استغلالية في جمع البيانات بهدف دعم نموذجها في الأعمال. إن مدى انقياد الإطار التشريعي الأميركي للمصالح الاقتصادية للشركات، بات يفرض أخطاراً متصاعدة حينما يتعلق الأمر بالتقنيات الجديدة على غرار الذكاء الاصطناعي، لأنه يميل إلى إعطاء الأولوية للأرباح على الأمن والأخلاق. ويترجم غياب الإشراف التنظيمي وحماية المستخدم، بأنه في الولايات المتحدة، لا يطلب من الشركات الصينية تقديم الأنواع نفسها من الضمانات والشفافية التي تقدمها طواعية في بلدان أخرى. ومثلاً، استجابة لتشريعات تنظيمية أوروبية أشد صرامة في شأن استعمال بيانات المستخدم، غير "تيك توك" شروط الحصول على خدماته في أوروبا كي تغدو متنبهة لحماية البيانات.
الإصلاح الكبير
يشكل "مشروع قانون تيك توك" استجابة لخطر حقيقي في المنظومة الرقمية الأميركية. في المقابل، إذا أقر مجلس الشيوخ المشروع ووقعه الرئيس بايدن، فيرجح أنه سيدخل تحديات جديدة على تشريعات التكنولوجيا، مما يفرض على صناع القانون مراقبة حقل يتطور بسرعة واستمرار، بأكثر من عملهم على رمي الأعباء فوق أكتاف شركات تعمل في الولايات المتحدة سعياً إلى تتبع الخطر قد ترمي به تلك الشركات على المستخدم والأمن القومي. إذا فشل إقرار "مشروع قانون تيك توك" في مجلس الشيوخ، فيسغدو مستحسناً أن يعمل صناع القانون على الدفع باتجاه حمايات قانونية أوسع نطاقاً واشتمالاً.
وبدلاً من استهداف شركات مفردة، يجب على الحكومة توسيع إطار تفكيرها. وأولاً، من الأفضل لها تنفيذ تشريعات موجودة بالفعل، من ثم زيادة الغرامات المالية التي تواجهها الشركات لانتهاكها القوانين السارية. يمثل سحب الاستثمارات خياراً مغرياً، لكن يجب ألا يكون خط الدفاع الأول ضد تهريب البيانات.
في الوقت الراهن، تسري تشريعات مختلفة في مختلف الولايات في شأن حماية البيانات، ويجب على الحكومة الفيدرالية النهوض بواجبها في التنظيم التشريعي للاقتصاد الأميركي عبر العمل التناغم بين تلك السياسات التشريعية. وكذلك حري بها التدقيق في ما لا تطاله يد التشريع من أعمال وسطاء البيانات والشركات التي تجمع البيانات البيولوجية، بما في ذلك الشركات ذات المقار الأميركية. في يوليو (تموز) 2022، صدقت "اللجنة النيابية للطاقة والتجارة" على مشروع قانون فائق الاتساع في مدى شموله، "القانون الأميركي لحماية البيانات وخصوصيتها"، عبر ما يشبه الإجماع، ثم أعيق سيره في مسار تحوله قانوناً، ومرد ذلك بصورة جزئية إلى ضغوط اللوبيات المتصلة بصناعة التكنولوجيا. وفيما لا يتسم ذلك المشروع بالكمال، إلا أن تجديده قد يشكل مساحة جيدة للانطلاق إلى إرساء رؤية أكثر اتساعاً وتصميماً عن الأمن الرقمي، من شأن زيادة التوافق بين الممارسات الأميركية وتلك التي تتبعها بلدان ديمقراطية أخرى.
في النهاية، يجب على الولايات المتحدة تدعيم أمن البيانات من دون استهداف شركات أو أشخاص، استناداً إلى أصلهم الوطني أو علاقاتهم مع أجانب، كخط دفاع أول. يكتسب ذلك أهمية كبرى في حماية الديناميكية التي يتصف بها الابتكار في هذه البلاد، وكذلك الحال بالنسبة إلى كرامة العاملين فيه، خصوصاً في حقبة حاسمة من العلاقات المضطربة بين أميركا والصين.
واستكمالاً، يساعد تشجيع العلاقات المزدهرة بين قطاعي التكنولوجي في البلدين، على الوقاية من تحول التوترات السياسية إلى عداوات صريحة.
وكذلك من المرجح أن تفشل كل جهود الاستجابة إلى الأخطار المتصلة بالتطبيقات الصينية، ما لم تعزز الولايات المتحدة حماياتها الرقمية الخاصة بها أولاً، خصوصاً أن بنى الملكية في التقنيات الجديدة والقواعد الواسعة من مستخدميها، تتخطى بصورة متزايدة الحدود الوطنية. قد يبدو إقرار تشريع تنظيمي أكثر اتساعاً واشتمالاً في حماية البيانات الوطنية، كمهمة مستعصية بالنسبة إلى الكونغرس الحالي. في المقابل، يجدر بهذه الوضعية أن تتبدل إذا أولى أعضاء الكونغرس اهتمامه إلى التداعيات المتأتية من التقنيات على الأمن الوطني، على غرار ما يوحي به التصويت المميز والموحد عن "مشروع قانون تيك توك". سيكون لخطوة كتلك أن تقدم للولايات المتحدة مزيداً من الصدقية الدولية في مواجهة الجهود الصينية الرامية إلى توسيع إشرافها على البيانات خارج حدودها الإقليمية، إذ ستتيح تلك الخطوة للحكومة الأميركية العمل بطريقة بناءة أكثر مع الحلفاء والشركاء. في المقابل، يكشف "مشروع قانون تيك توك"، في شكله الحاضر، عن مقاربة أميركية غير كفؤة بشكل متزايد في التنظيم التشريعي للتكنولوجيا، وسيجعل تلك المقاربة أشد تصلباً.
* آين كوكاس، بروفيسورة دراسات الميديا في "جامعة فيرجينيا" لكرسي البروفيسور سي. كيه. ين في "مركز يو في أي ميللر"، ومديرة "مركز يو في أي عن شرق آسيا". ألفت كتاب "تهريب البيانات، كيف شرعت الصين في كسب معركة السيادة الرقمية".
مترجم من فورين أفيرز، أبريل (نيسان) 2024