Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ماذا ذهب يفعل "مسخ" كافكا في طنجة؟

رواية محمد أحجيوج الواقعية السحرية ترصد انسحاق الفرد أمام سطوة الجماعة

عندما رسم كافكا نفسه مسخاً (موقع رسوم كافكا)

ملخص

يعمد الروائي المغربي محمد سعيد أحجيوج إلى إسقاط رواية "المسخ"  للكاتب التشيكي كافكا، على الواقع المغربي، معتمداً أسلوب الواقعية السحرية التي تتيح فرصة الدمج بين الحقيقة والتخييل. تحاكي رواية أحجيوج رواية كافكا، وتتشابه بعض أحداث الروايتين، وكذلك ملامح بعض الشخصيات، لكن الروائي المغربي تعاطى مع أزمة الشخصية المحورية في النص، على نحو مختلف.

قبل أكثر من قرن من الزمان، نشر الكاتب التشيكي فرانز كافكا، روايته "التحول"، وشرّح عبرها علاقات أسرية معطوبة، تشوبها النفعية والاضطراب. لكنه ربما لم يتوقع أن أزمة بطله "غريغور سامسا"، بعد أن فقد إثر ليلة نوم مضطربة، هيئته البشرية، وتحول إلى مسخ، سيُعاد إنتاجها ومحاكاتها في الألفية الثالثة، في رواية الكاتب المغربي محمد سعيد أحجيوج "كافكا في طنجة" (دار تبارك – القاهرة). يسلك الكاتب الواقعية السحرية ليعيد طرح قضية تشظي الذات الإنسانية في واقع سوداوي، وانسحاق الفرد أمام سطوة المجتمع، واستهل أحداث رحلته، باقتناص الفكرة الرئيسة التي نهضت عليها رواية "التحول". فالبطل الذي أُرجئ الكشف عن اسمه إلى مرحلة متأخرة من السرد، استيقظ من نومٍ تلا قراءته لرواية "التحول"، ليجد نفسه وقد حلَّت عليه اللعنة ذاتها، التي حلت على بطل كافكا.

لكن هيئته لم تتحول إلى حشرة عملاقة، وإنما إلى مسخ بغيض أشبه بقرد، لتكون محنته كاشفة لمدى هشاشة العلاقات والروابط الأسرية، في عائلة تعيش في أحد المجتمعات العربية في الألفية الثالثة، وكاشفة أيضاً لقدر هائل من العطب، والنزعات الرديئة للنفس الإنسانية. وعلى الرغم من محاكاة أحجيوج لرواية كافكا، وتشابه بعض أحداث الروايتين، وكذلك ملامح بعض الشخوص، فقد تعاطى مع أزمة الشخصية المحورية في النص، على نحو مختلف؛ لا سيما في ما يتصل بنتائجها، وأثرها في مصائر الشخوص.

عوالم متداخلة

لجأ الكاتب إلى أسلوب مركزي للسرد، منح عبره سلطة الحكي لراوٍ عليم، ونقل هذه السلطة إلى أخت البطل "هند" في غير موضع من النسيج، ليعلن عن معارضة ضمنية لثقافة تقهر المرأة وتسكت صوتها ويتيح لها التعبير عن هذا القهر والكشف عما يعتمل - كنتاج له- في عوالمها الداخلية. وقد غيّب صوت الشخصية المحورية "جواد الإدريسي"، وأضفى هالة من الغموض والضبابية، على سلوكه الليلي بعد تحوله إلى مسخ، مما سمح بكسر سكونية السرد، وإشراك القارئ عبر دفعه للتأويل والاستنتاج، وسد الفجوات السردية. وعزَّز أحجيوج هذه الغاية في إشراك القارئ من خلال مخاطبته له في مستهل سرده، ليؤهله بذلك لتجاوز دوره الاعتيادي في التلقي، إلى الإسهام في صنع الحدث، وأيضاً ليحقق المزيد من التماهي مع نص امتزجت فيه الفانتازيا بالواقعية، وتداخل عبره الحقيقي والغرائبي. كذلك لعب الحلم في بداية النص، دوراً تمهيدياً للأحداث، وعزّز النزوع العجائبي للسرد، كما ربط الكاتب عبره بين عالمه الروائي، وعوالم كافكا، والذي أحال حضوره على أحد شواطئ طنجة، متشحاً بالسواد، إلى رغبة الكاتب في تجاوز التماثل بين بطلي الروايتين، إلى تماثل آخر بين شخصيته المحورية وكافكا نفسه، وتشاركهما السوداوية ذاتها، والشعور ذاته بالاغتراب واللا انتماء الذي عاشه الكاتب التشيكي على مدى حياته القصيرة.

وعزّز أحجيوج محاكاته لنص كافكا، عبر ما منح بطله "جواد" من سمات تشبه سمات "غريغور سامسا"، فكلاهما تخلى عن أحلامه من أجل إعالة عائلته، بعد أن تخلى الأب عن دوره في إعالتها. وإن لم يختر أبو "سامسا" هذا التخلي طوعاً، وإنما تعرض لخسارة تجارته. بينما هجر أبو جواد عمله، من دون أن يبالي بالنتائج، مما عزّز من الصورة السلبية للأب، وأبرز حالة الاضطراب والنفعية التي وسمت العلاقات الإنسانية داخل أسرة البطل، وكسر الصورة النمطية للعائلة، عبر الخروج عن التعاطي المألوف معها كداعم ومنقذ لأبنائها": "فلنتحدّث قليلًا عن الأب؛ عن ربّ الأسرة الّذي اكتشف بغتة أنّ ثمّة ربًّا أعلى منه، فتخلّى عن ربوبيّته تجاه أسرته، وتفرّغ لعبادة ربّه العائد إلى الظهور... لو أسندنا مهمّة وصف الأب إلى الابن الغاضب دائما، لقال عن أبيه أنه نحيف كقلم رصاص، طويل كعمود إنارة، عنيد كحمار، عنيف كجلمود صخر حطّه السيل من عل" ص 7.

التجول الحر

اختار الكاتب نسقاً طبيعياً للسرد، تدافعت عبره الأحداث أفقياً إلى الأمام، لكنه ما لبث أن ارتد عائداً إلي ما قبل لحظة السرد، وراح يتجول بين الحاضر والماضي، مستغلاً ومضات التذكر والاسترجاع، في الدفع بجرعات من التشويق إلى النسيج. إذ عمد عبر تلك الومضات إلى الاستباق بالإشارة، إلى وقائع ملتبسة، أرجئ تفسيرها للزمن الراهن، فاستعاد بعض الحوادث التي سبقت تحول البطل إلى مسخ، ومنها حادثة انفلات مغلف يحمل عبارة "مختبر التحليلات الطبية والإنجاب البيولوجي" من يده، وانزلاقه إلى مياه الصرف الصحي. وأرجئ الكشف عن سر هذا المغلف، وسر حزن صاحبه وحسرته، إلى ما بعد ليلة التحول "اللحظة الراهنة للسرد"، والتي تكشفت خلالها خيانة زوجته، وأسرار أخرى أخفتها عائلته. إذ لم تكن الزوجة وحدها من قامت بخيانته، بل أنه أبصر بعين الوحش؛ خيانات أقترفها أبوه،  وكل أفراد أسرته، الذين سأموا وجوده، وما حل به، وسعوا للخلاص منه. وكما كان التحول الغرائبي للبطل من هيئته البشرية إلى هيئة وحش؛ مدخلاً نفذ الكاتب عبره إلى فساد العلاقات الأسرية، والفجوة العميقة بين جيلي الآباء والأبناء، كان أيضاً نافذة أطل منها على ما لحق بالمجتمع من تحولات، حادت به بعيداً عن القيم الإنسانية. فرصد تراجع المروءة وتعالي الانتهازية والاعتمادية، حد سلبية الناس، وإحجامهم عن الدفاع عن امرأة تتعرض أمامهم للاغتصاب. ورصد كذلك الانحطاط الأخلاقي، وزيادة معدلات العنف، والبيروقراطية والفساد والقمع والقهر، وثقافة الإنجاب العشوائي من دون فهم المسؤولية الجسيمة للإنجاب.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يبرز أحجيوج عبر كل ما طرقه من قضايا؛ الأزمة الكبرى للفرد، وانسحاقه تحت تروس المجتمع: "ركلة ثانية تصوّبها إلى بطنه ثمّ ثالثة ترسلها إلى جنبه، قبل أن تتوقّف لاهثة. تنظر إليه، وهو مرميّ كخرقة بالية تحت قدميها يئن. سكنت الحركة في السوق، إلّا من قهقهات مساعدها الّذي يضحك، وهو يدفع عربة الخضروات والفواكه خلف سيّارة الشرطيّة. أقنع نفسه بأنّ العالم لا يحتاج الآن إلى بوعزيزيّ آخر يشعل نار الثورة في الصدور. بضعة أيام ثم يعود كلُّ متحمسٍ إلى بيته" ص 14.

تجاذب الأجناس

عزّز الكاتب جمالية النص، عبر ما استدعى من أجناس أدبية أخرى، اتسق حضورها مع مقتضى حال الشخصية المحورية، وشغفها بالكتابة والنقد، فبرز حضور الشعر، وحضور القصة القصيرة، التي كتبتها أخت البطل "حرب الرمال". وأضاء "أحجيوج" عبرها قضية جديدة تتصل بالحرب، وعبثيتها، والأثمان الباهظة التي تكلفها، والأحلام التي تلتهمها، بلا طائل، ولا جدوى. وعمد عبر كل الأجناس الأدبية، التي مزج بينها داخل السرد، إلى استخدام لغة تشحذ الحواس، وتتيح للقارئ شم الرائحة النتنة المنبعثة من المسخ، وسماع صرخته المدوية، والشعور بارتجاج جدران المنزل لها، ورؤية صراعاته الداخلية ومشاعره المتناقضة حين أبصر هيئته بعد التحول. إضافة إلى إتاحة إدراك صورة الحدث وحركة الشخوص. وعزّز تلك السمات البصرية للسرد؛ استخدام الكاتب تقنيات سينمائية، لا سيما تقنية عين الكاميرا: "جاءت لحظة الحقيقة. الحقيقة الّتي سترتجّ لصرخته منها جدران كامل العمارة، وسيبقى صداها طويلًا في الشقّة الشاسعة. ينتقل من غرفة إلى غرفة، يطرق الأبواب كلّها بابًا تلو بابٍ، والآذان كلّها أذناً أذناً، ماراً تحت الكراسي قافزاً فوق الأرائك، مرتدّاً على الجدران والأرضيّة والسقف" ص 5.

إدانات ورؤى

على نحو ضمني وغير مباشر، مرر الكاتب بعض الرؤى، التي تدين الواقع، فأحال إرجاءه الكشف عن أسماء الشخوص، وتجهيلها في مساحة ممتدة من السرد؛ إلى اتساع رقعة الفساد في العلاقات الأسرية، وشيوع العطب، الذي بات يضرب أركان الأسرة، في مجتمع يتجه نحو المادية والنفعية. وأحالت العاهة الكلامية، التي أُصيب بها البطل في طفولته إلى أنواع من الانتهاكات؛ يتعرض لها الأطفال في مؤسسة المدرسة، المنوطة بحمايتهم وبنائهم. كما مرر عبر شخصيتي الشيخ والقس، رؤى تدين رجال الدين، وتفشي دورهم في غرس بذور التشدد والتعصب، بدلاً من حماية التسامح والتعايش. كذلك أحالت الصورة غير النمطية، التي رسمها الكاتب للأب، إلى هول تناقضات النفس الإنسانية. ووشت برفض الثقافة الأبوية، التي تحكم سيطرتها على الأبناء، وتغتال حقهم في الحلم والحياة. وقد حمل تكرار الصيغة التراثية "يحكى أن" قبل إخبار أزمة البطل؛ دلالة على قدم الألم وتكراره ، وأيضاً على استمرار المعاناة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة