تحذر البنوك الاستثمارية وشركات الوساطة المالية من أن سوق لندن للأوراق المالية تواجه "خطر الموت" لتصبح مثل البورصة الإيرلندية، نتيجة انسحاب الشركات المسجلة إلى أسواق أخرى في مقدمها "وول ستريت" بنيويورك.
وصحيح أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست) قبل أكثر من أربع سنوات كان له تأثير في حي المال والأعمال بالعاصمة البريطانية (سيتي أوف لندن)، لكن ذلك ليس السبب الوحيد وراء الجمود في تطور بورصة لندن بل وتراجعها باستمرار إلى حد توقع موتها من قبل رئيس واحد من أكبر البنوك الاستثمارية المستقلة في لندن عبر حوار له مع صحيفة "فايننشال تايمز".
ففي الربع الأول من هذا العام لم تشهد البورصة طرحاً أولياً للأسهم إلا بمقدار 0.3 مليار جنيه إسترليني (0.38 مليار دولار)، وفي المقابل شهدت البورصات الأوروبية عمليات طرح أسهم أولية وبالتالي تسجيل شركات على مؤشراتها بقدر أكبر.
وعلى سبيل المثال فمن بين طروحات الربع الأول في أوروبا تسجيل مجموعة الأمراض الجلدية "غالديرما" طرح أسهم بقيمة 2.3 مليار فرنك سويسري (2.55 مليار دولار) ومجموعة مبيعات التجزئة "دوغلاس" بقيمة 850 من يورو (922 مليون دولار).
لكن الأسواق المالية في لندن لم تشهد عمليات طرح أولي للأسهم إلا في ما ندر ولشركات صغيرة، وهذا ما جعل الرئيس التنفيذي لبنك "بيل هنت" الاستثماري ستيفن فاين يحذر من استمرار التدهور في سوق رأس المال البريطاني، إذ لا توجد أية بادرة في الأفق تشير إلى تغيير المسار الحالي، موضحاً "لقد نخر الضعف في مجال عملنا الاستثمار في الأسهم والوساطة المالية بقوة خلال الخمسة أو العشرة أعوام الأخيرة"، مضيفاً "إذا استمر الحال على ما هو عليه فسينتهي بنا الأمر مثل البورصة الإيرلندية، وهي سوق ميتة".
نزف الشركات البريطانية
ومن بين وعود حكومة حزب "المحافظين" السابقة أن "بريكست" سيسمح لبريطانيا بتعديل القوانين واللوائح التي تحكم عمل الأسواق المالية بما يجعل بريطانيا في وضع أفضل لجذب الاستثمارات ورؤوس الأموال، ويجعل السوق المالية في لندن أفضل بكثير مما كانت عليه الحال وبريطانيا عضو في الاتحاد الأوروبي.
إلا أن الحكومة لم تنجز تعديل التشريعات والقواعد بالصورة المأمولة، وهكذا لعبت السياسات الداخلية البريطانية أيضاً دوراً في تراجع سوق المال.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويتمثل منحى التدهور الحالي في اتجاهات ثلاثة، وهي عمليات الاستحواذ الخارجية على الشركات البريطانية، والنقص الشديد في شركات جديدة تسجل في السوق بطرح أولي للأسهم، وأخيراً هرب رأس المال للصناديق التي تستثمر في الأسهم إلى خارج البلاد.
وكما قال ستيفن فاين في حواره مع الصحيفة فإن "عمليات الاندماج والاستحواذ المتكررة وإلغاء تسجيل الشركات على مؤشر بورصة لندن وعدم وجود إصدارات أسهم جديدة يضر بشدة بسوق المال"، موضحاً "لست مقتنعاً بأن سوق الطرح الأولي للسهم سيعود للنشاط قريباً".
وجاءت تصريحات فاين بعدما نشر البنك الذي يترأسه الأربعاء الماضي بياناً حول نشاطه نهاية العام المالي، متوقعاً فيه ألا تزيد عائدات البنك في العام المالي المنتهي بنهاية مارس (آذار) الماضي بأكثر من أربعة في المئة لتبلغ سنوياً 86 مليون جنيه إسترليني (108 مليون دولار)، في مقابل عائدات في العام المالي المنتهي في الشهر نفسه من عام 2021 عند 200 مليون جنيه إسترليني (253 مليون دولار).
ويشار إلى أن غالبية عائدات بنك "بيل هنت" هي من نشاطه الاستشاري في عمليات الاستحواذ على الشركات البريطانية، إذ أشار البنك إلى أن سوق الطرح الأولية للسهم شبه معدومة.
استحواذ واندماج
وشهدت عمليات الاستحواذ على الشركات البريطانية منذ بداية العام الحالي زيادة كبيرة، إذ يتنافس المستثمرون والصناديق من خارج بريطانيا على شراء شركات مسجلة على مؤشر بورصة لندن، كما أن شركات كبرى مسجلة على المؤشر تنقل تسجيلها الأساس إلى بورصة نيويورك، إضافة إلى استمرار نزف رؤوس الأموال إلى الخارج، خصوصاً من صناديق الاستثمار في الأسهم.
وتوقع فاين أن أحد مؤشرات بورصة لندن "فوتسي سمول كاب" (مؤشر الشركات ذات رأس المال الصغير) قد يختفي تماماً بحلول عام 2028، وأن خروج أموال الصناديق التي تستثمر في الشركات البريطانية للشهر الـ 34 على التوالي يؤدي إلى هبوط قيمة الشركات ويكاد يفرغ السوق من الشركات متوسطة رأس المال.
هذا التراجع في سوق المال والافتقار إلى عمليات الطرح الأولي للسهم وتسجيل شركات جديدة جعل بعض البنوك الاستثمارية وشركات الوساطة المالية تعاني، ودفعها إلى الاندماج لتقليل الخسائر في ظل ضعف النشاط، فعلى سبيل المثال اندمجت شركتا الوساطة المالية "سينكوس" و"فين كاب" العام الماضي لتصبح شركة "كافنديش" للوساطة المالية.
ويتزامن الجدب في طرح شركات جديدة في بريطانيا وانسحاب الشركات من بورصة لندن وهرب رؤوس أموال الصناديق من السوق المالية البريطانية مع توجه عالمي من نقص المعروض من الأسهم في مقابل الطلب عليها، ويعود ذلك في قدر كبير منه إلى استخدام الشركات الكبرى في العالم الزيادة في عائداتها وأرباحها لإعادة شراء أسهمها، مما يقلل كمية أسهمها العامة المطروحة للتداول من قبل المستثمرين والصناديق.
وتشير البيانات والأرقام إلى أن كمية السهم العامة المتداولة عالمياً انخفض هذا العام بما قيمته 120 مليار دولار، أي ثلاثة أضعاف التراجع العام الماضي عند 40 مليار دولار، وذلك العام الثالث على التوالي الذي تنكمش فيه كمية السهم العامة المطروحة للتداول في العالم، وهو ما لم يحدث منذ بدأ جمع تلك البيانات بنهاية القرن الماضي عام 1999.
وبحسب بنك "جيه بي مورغان" الاستثماري فإن إعادة الشركات شراء أسهمها عملية مستمرة هذا العام وبالوتيرة ذاتها التي تشهدها خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، وقدر البنك الأميركي أن يصل حجم إعادة شراء السهم إلى 1.2 تريليون دولار بنهاية هذا العام في ديسمبر (كانون الأول) 2024.
وفي المقابل هناك تراجع واضح في عمليات الطرح الأولي للأسهم مما يزيد الضغط على حجم الأسهم العامة المطروحة للتداول في الأسواق.