ملخص
الذكرى المئة لولادة النجم السينمائي العالمي مارلون براندو (1924 - 2024) تعيد إلى الواجهة ممثلاً كبيراً، نادراً ما شهد تاريخ السينما مثيلاً له. فقد اختزل براندو في شخصه الكثير من القدرات الخارقة والأسلوبية والأدوار والتحديات الإنسانية، وواجه على الشاشة أعمق المواقف وأدى أصعب الأدوار ومنح الشخصيات التي تلبسها حياة رديفة، حتى باتت معه أشخاصاً من لحم ودم.
في عام 2004، صعد مارلون براندو في عربة تُدعى الموت. كانت هذه محطته الأخيرة مع حياة عاشها على أوسع نطاق تاركاً خلفه "مدرسة" في فن التشخيص، على رغم بساطته وعفويته الظاهرية. كان يومها في الثمانين. يصادف هذا العام مرور قرن على ولادة هذا الفنّان الاستثنائي (1924 - 2024) الذي أصبح أحد أباطرة التمثيل السينمائي في العالم، والنجم الذي يُنظر إليه بدهشة. اختزل براندو في شخصه الكثير من القدرات الخارقة والأسلوبية والأدوار والتحديات الإنسانية في سعي دائم إلى الخروج عن الإطار المرسوم له سلفاً، وكان قدره أن يبقى في الذاكرة عقدين بعد رحيله.
هذا الذي لُقِّب بـ"الخطير الناعم" كان نموذجاً للتمرد، منذ دوره في "عربة اسمها رغبة" (1951) وهو في السابعة والعشرين، وصولاً إلى تجسيده شخصية الكولونيل الثائر كرتز في "القيامة الآن" لكوبولا الذي يعود له الفضل في إعادة براندو إلى الشاشة مع "العراب" الذي شكّل محطة في سيرة الممثّل الكبير، إلى درجة أن الناقدة الأميركية بولين كايل، كتبت عنه تقول بأنه "نسخة معاصرة للأميركي الحر". وإلى الأدوار المذكورة، تسلل في جسد شخصيات تاريخية مثل زاباتا وماركوس أنطونيوس ونابوليون بونابارت.
عاش براندو تمرده، شأنه شأن كثر من أبناء جيله، على غرار جيمس دين، الذين عاشوا مراهقتهم في أعقاب الحرب العالمية الثانية. حاول الحلم الأميركي استدراجهم إلى فخّه، لكن مقاومتهم لعدم السقوط في هذا الفخ صنعت جزءاً من أسطورتهم، سواء على الشاشة أو خارجها.
الصلب والناعم
كان براندو تلميذاً غير ملم بالدرس. هل هذا جزء من تمرده على أصول التعليم التقليدي؟ في أي حال، مبادرة والده في إرساله إلى أكاديمية عسكرية كان خياراً صائباً. هناك اكتشف أن التمثيل دعوته، بعدما تعرف إلى المسرح. البقية تاريخ، بالألف واللام: المصادفة وضعته على طريق ستيلا أدلير، فتتلمذ على منهجية الـ"أكتورز استوديو" (منهج تمثيلي مستوحى من ستانيسلافسكي)، التي كان أسسها إيليا كازان. هذا المنهج القائم على نبش الجانب النفسي للشخصية، والتقمص بدل التمثيل، جعله يعمّق الأدوات ويقفز بالأداء إلى مناطق جديدة غير مستغلة في ذلك الحين، مبتكراً أسلوب تمثيلي طبيعاني، يرتكز على الصفات الذكورية واستحضار التجربة الشخصية والانفعالات والذكريات المقترنة بها. وساعده في النهوض بذلك النوع من الأداء، حضوره الكاريزماتي وحسن تدبير امتلكه بالفطرة وشخصيته الصلبة والناعمة في آن، إضافة إلى أنفه المكسور (تعرض لحادثة وهو يتدرب لإحدى المسرحيات)، ونظرته الحادة التي لا تُقلَّد.
أداؤه في "عربة اسمها رغبة" لإيليا كازان إخراجاً وتينيسي وليامز نصّاً، أسطوري على كل المستويات، وشكّل أرضية بحث للجيل الذي انطلق في مطلع السبعينيات، من آل باتشينو وروبرت دنيرو وجاك نيكلسون وغيرهم. أطل براندو في أكثر من 40 فيلماً، لكن لحظة العودة إليه، يبدو هذا الفيلم واحداً من أكثر الأفلام تعبيراً عن عبقريته. فهو لا يزال بكامل سحره وجماله وطزاجته. كل شيء يبدو ممكناً. إنه الفيلم الذي جاء به، وإليه عاد مراراً. لم يفرضه المخرج مثلما كان رائجاً في تلك الفترة، بل هو الذي فرض نفسه، وسرعان ما تحول إلى قنبلة جنسية من خلال تجسيده ستانلي كوفالسكي، الرجل السوقي. حضور يصعب للكلمات وصفه بدقة، فأي مفردة تصل إلى مستوى المشاعر والأحاسيس التي يبثّها براندو، موظّفاً كل ما يملك من طاقة وغريزة وقدرة وحضور. الشباب الأميركي يجد فيه مثالاً ونموذجاً.
لم تنتهِ علاقته بإيليا كازان مع هذا الفيلم، فتجدد التعاون مع "على الواجهة المائية" (1954)، حيث جسّد شخصية تيري مالوي، ملاكم سابق، يعمل حمّالاً في مرفأ نيويورك، ويُتَّهم بالضلوع في جريمة قتل. الفيلم، وهو واحد من أعظم ما أنتجته السينما الأميركية على الإطلاق، كان رداً خبيثاً من كازان على من اتهمه بالوشاية يوم كشف هوية ثمانية من الشيوعيين العاملين في السينما، أمام لجنة ماكارثي. استمّده المخرج الكبير من سلسلة مقالات كتبها الصحافي مالكوم جونسون عن احتجاجات حدثت في مرفأ نيويورك. منذ سادس دور له على الشاشة، ومن خلال بطل "شكسبيري"، وصل براندو إلى ذروة تقنياته التمثيلية (نال عنه أول "أوسكار" له)، وهناك مشهد يجمعه بأخيه تشارلي عن فرص الحياة الضائعة دليل على عظمة ما قدمه، وهو مزيج من قسوة ورقة.
بين فيلميه مع كازان، لا بد من ذكر "الشرس" (1953) للازلو بندك، حيث يضطلع بدور قائد فرقة من الشباب المتمردين. الفيلم حوله إلى أيقونة للتمرد والرفض في أميركا الخمسينيات. تعرض الفيلم للرقابة والحذف، وأسهم في تكريس صورة معينة عن سائقي الدراجات النارية.
مزاجيته في العمل منتجاً وممثّلاً أدت به إلى طرد ستانلي كوبريك الذي كان تولى إخراج فيلم عنوانه "وان أيد جاكس" (1961)، فأنهى براندو بنفسه عملية التقاط المشاهد، وجاءت النتيجة مذهلة على المستويات كافة، إلا أن التجربة الإخراجية لم تتكرر. الفيلم وسترن باروك أقرب ما أنجزه في حياته إلى شخصه، حمله في داخله لسنوات. إنها تراجيديا على طريقة بعض الأفلام اليابانية. قضية الهنود كانت أصبحت ملحّة لديه في فترة تحوّل أفلام الغرب الأميركي إلى دراما نفسية بعيداً من الأعمال البطولية. وضع فيه كلّ هواجسه الإنسانية وفكره السينمائي.
ساحر "العراب"
نوّع براندو في اختياره للسينمائيين الذين تعامل وإياهم، من آرثر بن ("المطاردة") إلى جيلو بونتيكورفو ("كيمادا")، وغامر في انتقائه أكثر الأدوار جرأةً. في مقال نشرته "الغارديان" قبل بضعة أيام، صنّف الناقد بيتر برادشو أفلام براندو من أفضلها إلى أقلها أهمية، فجاء "العراب" أولاً و"على الواجهة المائية" ثانياً و"عربة اسمها رغبة" ثالثاً. فهذه الأعمال الثلاثة باتت مع الوقت الأكثر صموداً في ذاكرة المشاهدين، على رغم أن براندو مثّل في نحو أربعين فيلماً على مدار نحو نصف قرن، مع فترات انقطاع وغياب استمرا لسنوات خصوصاً في مطلع الثمانينيات.
هل من حاجة للحديث عن شخصية فيتو كورليوني في "العراب"، أشهر أدواره على الإطلاق. براندو لم يكن بلغ الخمسين بعد عندما جلس أمام كاميرا كوبولا، لكنه يبدو أكبر سناً. أما الخدع التي لجأ إليها للتحكم بنبرة صوته وإيقاع الكلمات والحركة والشعور، فهي ثورية تُدرَّس.
يمكن أن نضيف على الأفلام الثلاثة المذكورة في مقال برادشو، دوره في العمل المثير للجدال، "تانغو أخير في باريس" لبرناردو برتولوتشي. في لقاء مع الجمهور أجراه الأخير في روما قبل بضع سنوات، روى اختياره لبراندو: "كنت قرأتُ حكاية رجل وامرأة يلتقيان في شقّة باريسية فارغة فقط لممارسة الجنس، والشقة ليست لهما ولا يعرف أيّ منهما اسم الآخر. وعدم معرفة الاسم هو نوع من الانفصال عن الهوية الاجتماعية، خارج كلّ اعتبار للمحيط (…). ولكون الحوادث في باريس، أردتُ إسناد الدور إلى جان بول بلموندو، إلا أنه طردني من بيته عندما عرضتُه عليه، قائلاً إنه لا يشارك في فيلم إباحي. غضبتُ كثيراً لأنني كنت أعشق "مخطوف النفَس" لغودار. ثم اقترحته على آلان دولون الذي وافق بشرط أن يشارك في الإنتاج. رفضتُ. اقتُرح اسم براندو خلال اجتماع لمنتجين. التقيته في فندق "رافاييل" في باريس. كان عائداً للتو من لوس أنجليس ويبدو متعباً. بإنكليزيتي الرديئة جداً، رويتُ له القصة. تجنّب النظر إليّ. عندما انتهيتُ، سألته لِمَ لا يحدق بي؟ فردّ: أريد أن أرى متى ستكفّ عن هزّ قدمك؟ عندما باشرنا في التصوير، زرنا معرضاً لفرنسيس بايكون في الـ"غران باليه". كنّا براندو وفيتوريو ستورارو (مدير التصوير) وأنا. ونحن نتأمل اللوحات، فهمنا أهمية أن يتضمّن الفيلم لقطات قريبة. كانت بورتريات بايكون يائسة. صوّرتُ براندو وفي بالي هذا. هو لم يكن يعرف حتى مَن هو بايكون".
حتى المجال الإعلاني خاضه براندو، فمثّل في عدد من الاعلانات لسلع ومنتوجات، آخرها يظهر نجماً في بداية شبابه، وشيخاً ناضجاً محتفظاً بذلك الألق وبتلك الوسامة البادية على محياه. في مقابلة صحافية قال في هذا الصدد: "الظهور في الإعلانات عمل فني أيضاً، ويستلزم مهارة تمثيلية".
على الصعيد الشخصي، لم تكن حياته مليئة بلحظات الفرح والسعادة، وقلما رأيناه ضاحكاً او مشاركاً في سهرات هوليوود الصاخبة. الرجل الذي عاش المجد كان تحول في أيامه الأخيرة إلى إنسان ينام على سر حياة ربما أعطته ما يستحقه من تقدير مهني، لكن تجربته الإنسانية والعائلية والفردية ظلت ناقصة ونالت نصيبها من الفشل، فضلاً عن مشكلاته الصحية التي حولته من رمز للجمال الذكوري إلى ناسك بدين الجسد وقليل الحركة.
في مطلع التسعينيات، كانت قد ضربت المآسي حياته، وشلت التراجيديا ترابط عائلته، اثر انتحار ابنته شيين (25 سنة) نتيجة تعرضها لاكتئاب حاد وإصابتها بانفصام، وذلك بعد جريمة كان ضحيتها عشيق هذه الأخيرة، والفاعل لم يكن إلا كريستيان، ابن براندو من زواج آخر، فحُكم عليه بالسجن لمدة 10 سنوات، ونفقات المحاكمة جعلت الأب المفجوع على شفير الإفلاس، فسجّل عودته في أفلام أقل شأناً (مثل "دون خوان ديه ماركو" و "جزيرة الدكتور مورو" وأخيراً "الهدف")، ويتردد أنه كان يقبض راتبه على "الدقيقة"، بحسب بعض العارفين بأسرار الآلهة، وافتضح أمره مع "سوبرمان" الذي نال فيه مبلغ 4 ملايين دولار لبضع دقائق على الشاشة. لم يخف يوماً أنه كان يعمل لأجل المال وللمال فقط، وصرح في أكثر من مناسبة أن التمثيل مهنة فارغة وغير نافعة، وأنه يسعى دوماً لتحجيم دوره في الأفلام كي لا يعمل كثيراً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في كتاب عن براندو، يروي المؤلف كيف أن الفائز بـ"أوسكارين" يتوسل لجنة المحكمة كي تنظر إلى قضية ابنه "نظرة أب". بيد أن براندو وهو يركب دراجته النارية في "الشرس"، أو يقّبل ماثيو برودريك على شفتيه في "المبتدئ"، أو يقود الحركة الثورية في "على الواجهة المائية" أو في "فيفا زاباتا!"، لا يزال راسخاً في الذاكرة، على رغم أن العديد من الأفلام التي انخرط فيها لأسباب محض مادية سعت من دون قصد إلى زعزعة هيبته.
في لقاء مع مجلة "استوديو" الفرنسية، كشف براندو اهتمامه بديناميكية النظام الذي يربط الفكر بالشعور: هل يأتي الشعور من الفكر أو الفكر من الشعور؟ في هذا الحوار، تنبأ أنه سوف نعيش في المستقبل جدالات رهيبة من نوع: "لا، لا أستطيع تصديق ما تقوله لأن حاسوبي يقول العكس". كان متأكداً أن الكمبيوترات في القريب ستنطق وهي التي سوف تأمر الإنسان، وسوف يضعون جينة جديدة ستجعلنا نعيش حتى 200 سنة محتفظين بالشباب. ولكن هذا كله على حساب الإنسان.
نهايته تركت مذاقاً مراً في الذاكرة. لا يمكن لأحدهم أن يبقى في القمّة. هذا لا يمنع أن الخاتمة كانت حزينة بعيدة كل البعد من ألق البدايات. أحد أصدقائه يروي أن في أيامه الأخيرة كان يشاهد "على الواجهة المائية" متحسراً على ماض يتسرب من بين أصابعه. كان يعتبر أنه انقضى زمن القدرة على الهروب من المجتمع والعثور مع ذلك على ما نحيا بواسطته. "لم يبق مكان لذلك. علينا أن نقبل المجتمع الآن. لدى مروري في باريس حديثاً، رأيتُ الجادات الكبرى، الشوارع، هذه المدينة رائعة، لكني أعتقد أن عالم الأعمال بدّل كل شيء. أصبحنا جميعاً تجاراً. حتى الأفكار، الكتّاب، يبغون الظهور على التلفزيون للتحدث عن كتبهم، لبيع كتبهم، لكسب المال. وهم منهمكون جداً في الظهور على كل الأقنية وفي الذهاب إلى المتاجر لتوقيع كتبهم. إنها الأعمال اليوم. إننا غارقون في الأعمال".