ملخص
أعلن الرئيس فلاديمير بوتين ما ستقوم به بلاده من تغييرات وإجراءات تستهدف تعزيز وضع قواتها المسلحة على امتداد أراضي البلاد التي تعد الأكبر على وجه البسيطة من حيث المساحة الجغرافية، وذلك على ضوء الإجراءات التي يتخذها الـ "ناتو" في أعقاب إعلان انضمام فنلندا والسويد كعضوين كاملي الحقوق إلى الحلف.
تأكيداً لما سبق وأعلنه لدى قيامه عام 1949، وهو مواجهة الاتحاد السوفياتي وبالتالي خليفته روسيا والحيلولة دون احتمالات توسعه، حرص حلف شمال الأطلسي (الناتو) على استقطاب الدول المتاخمة للحدود السوفياتية - الروسية ومنها فنلندا التي كان لينين زعيم الثورة الاشتراكية عام 1917 قرر منحها الاستقلال بعد أعوام طويلة من تبعيتها للإمبراطورية القيصرية الروسية، وها هي فنلندا وبعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية واضطرارها إلى قبول ما طرحه الاتحاد السوفياتي من شروط سياسية وجغرافية تعود لسياسة الحياد الذي ظلت تتمسك به بعيداً من الانضمام إلى حلف الـ "ناتو" الذي شكلته الولايات المتحدة عام 1949.
لكن فنلندا وما إن اندلعت العمليات القتالية بين روسيا وجارتها أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022 حتى أعربت مع السويد عن مخاوف استندت إليها لدى تقدم الدولتين بطلب الانضمام إلى الـ "ناتو"، مما استدعى روسيا إلى التحذير من مغبة تلك الخطوة التي اعتبرتها "تغييراً راديكالياً في السياسة الخارجية الفنلندية، وتهديداً مباشراً لأمن روسيا ومصالحها القومية، وانتهاكاً لتفاهماتها السابقة مع كل من الولايات المتحدة من جانب ومع حلف الـ ’ناتو‘ من جانب آخر".
وكان الاتحاد السوفياتي بعد توقيعه معاهدة الحد من الأسلحة التقليدية في أوروبا عام 1990 التي كانت تعني عملياً الموافقة على ما تنص عليه هذه المعاهدة من قيود في شأن نشر قواته وتشكيلاته العسكرية في الشمال الغربي من أراضيه، قام بحل المنطقتين العسكريتين في كل من موسكو ولينينغراد لتحل محلهما المنطقة العسكرية الغربية،
غير أن الأمور عادت لتتسم بشكل أكثر حدة وتوتراً بعدما أنشأ الحلف قواعده الجديدة في كل من بولندا ورومانيا وبلدان البلطيق الثلاثة إستونيا ولاتفيا وليتوانيا، وهي البلدان التي طالبت الحلف بتعزيز قواه العسكرية واللوجستية وكوادره التي من المقرر أن تعنى بشؤون التخطيط والتدريب على ضوء ما تشهده هذه المنطقة من مواجهات عسكرية منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية، ونشوب العمليات القتالية مع روسيا.
قاعدة ميكيلي في فنلندا
وهكذا فرضت فنلندا بانضمامها إلى حلف الـ "ناتو" حدوداً مشتركة مع روسيا هي الأطول بين روسيا وأية دولة أوروبية وبلغت زهاء 1300 كيلومتر، لذا لم يكن غريباً أن يقع اختيار الـ "ناتو" على قاعدة ميكيلي العسكرية الفنلندية التي تقع على مسافة 140 كيلومتراً من الحدود مع روسيا، لتكون مقراً للقوات البرية للحلف في بلدان الشمال الأوروبي، وذلك ما أشارت إليه صحيفة "إيلتالهتي" الفنلندية واسعة الانتشار نقلاً عن وزير الدفاع النرويجي بيورن أريلد غرام.
وأكد غرام أن قائد قوات الدفاع النرويجية أوصى بذلك نظراً إلى أن البقاء في مقر جميع أفرع القوات المسلحة نفسه سيسمح بالاستفادة من عضوية جميع البلدان الإسكندنافية في حلف الـ "ناتو".
وأضافت الصحيفة أن المقر سيقوم في وقت السلم بعملية التخطيط إلى جانب تدريب كل قوات الحلف في المنطقة، كما سيكون مقراً للتأهب عالي الدرجة على مدار الساعة وسيقدم تقاريره إلى مقر حلف شمال الأطلسي في نورفولك على الساحل الشرقي للولايات المتحدة، وذلك ما سينظر فيه الاجتماع المقبل الذي سيعقد في واشنطن في يوليو (تموز) ضمن جدول الأعمال المقرر لقمة رؤساء بلدان حلف شمال الأطلسي، وبهذا تكون فنلندا قد ضمنت، بحسب ما أشارت شبكة "سي أن أن"، وصولها إلى موارد الحلف بأكمله في حال تعرضها لهجوم، إلى جانب أن عضويتها في الحلف ستساعد في اندماج قواتها المسلحة بشكل أفضل في التدريب والتخطيط مع حلفاء الـ "ناتو".
لكنها وعلى النقيض من ذلك ستكون هدفاً لروسيا التي قالت مصادرها الرسمية إنها ستزيد تعداد قواتها في المناطق المتاخمة للحدود مع فنلندا في حال إرسال الحلف أية قوات أو معدات إلى الدولة العضو الجديدة.
اتفاق تعاون دفاعي
وفي أعقاب توقيعها على وثيقة انضمامها إلى حلف شمال الأطلسي وقعت فنلندا مع الولايات المتحدة في الـ 18 من ديسمبر (كانون الأول) 2023 اتفاق تعاون دفاعي بين البلدين، ينص على نقل جزء من بنيتها التحتية العسكرية إلى الأميركيين.
وأشارت صحيفة "أزفيستيا" الروسية إلى أن موسكو تواجه للمرة الأولى منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية عدواً محتملاً على ضفتي الخليج الفنلندي سيكون قادراً على محاصرة الأسطول الروسي في مياهه، وذلك على حد تقدير الخبراء الروس للخطر الرئيس الناجم عن توقيع اتفاق التعاون الدفاعي بين فنلندا والولايات المتحدة.
وينص الاتفاق الواقع في 36 صفحة ويتناول تفاصيل القضايا القانونية المتعلقة بوجود موظفين وممتلكات أميركية في فنلندا، على وضع 15 منشأة تحت تصرف الأميركيين، بما في ذلك أربع قواعد جوية وقاعدة بحرية واحدة وخمس مرافق تخزين عسكرية، بحسب ما ينص هذا الاتفاق، كما أنه وبموجب بنود هذا الاتفاق فسيكون مسموحاً للقوات البحرية الأميركية بالتعاون مع نظيرتها الفنلندية الاستخدام المشترك لقاعدة "أوبينيمي" البحرية والحامية الموجودة في كيركونومي، بما في ذلك جزيرة روساري، مما قد يتيح للأميركيين التحكم في مدخل الخليج الفنلندي.
وقال وزير الدفاع الفنلندي أنتي هاكانين "إن فنلندا لا تدافع عن نفسها بمفردها، بل إنها تفعل ذلك كحليف في حلف شمال الأطلسي وبالتعاون مع الولايات المتحدة"، وتقول صحيفة "أزفيستيا" إن الاتفاق لا يحوي "معلومات حول نشر الأسلحة النووية الأميركية أو حاملاتها"، في وقت ينص على حرية حركة القوات الأميركية من خلال إخطار الجانب الفنلندي ونقل وتخزين المعدات والإمدادات والعتاد العسكري في المرافق والأراضي المتفق عليها، إلى جانب النص على أن فنلندا "لن تطلب من الأفراد العسكريين الأميركيين الحصول على جوازات سفر أو تأشيرات للدخول، وأن الشيء نفسه ينطبق على الموظفين المدنيين وأفراد أسرهم والموردين التابعين للجيش الأميركي".
إنشاء مناطق عسكرية روسية جديدة
وعلى الجانب المقابل أعلن الرئيس فلاديمير بوتين ما ستقوم به بلاده من تغييرات وإجراءات تستهدف تعزيز وضع قواتها المسلحة على امتداد أراضي البلاد التي تعد الأكبر على وجه البسيطة من حيث المساحة الجغرافية، وذلك على ضوء الإجراءات التي يتخذها الـ "ناتو" في أعقاب الإعلان عن انضمام فنلندا والسويد كعضوين كاملي الحقوق إلى الحلف.
وقالت المصادر الروسية إن بوتين وقع مرسوماً يلغي فيه وضع الأسطول الشمالي كمنطقة عسكرية ويدرجه ضمن وحدات منطقة لينينغراد العسكرية التي أُعيد تشكيلها، وكان الأسطول الشمالي منح وضعية "منطقة عسكرية "منذ عام 2013، وشملت هذه المنطقة العسكرية كومي وأرخانجيلسك ومورمانسك ومنطقة نينيتس المتمتعة بالحكم الذاتي في شمال البلاد.
كما نص المرسوم الرئاسي على إعادة منطقة موسكو العسكرية التي كانت ألغيت، مثل المنطقة العسكرية في لينينغراد عام 2010، وإضافة إلى ذلك أقر المرسوم إدراج المناطق الأوكرانية الأربع الجديدة التي جرى ضمها الى روسيا الاتحادية في سبتمبر (أيلول) 2022 ضمن المنطقة العسكرية الجنوبية اعتباراً من الأول مارس (آذار) من العام الحالي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكان وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو أدلى بتصريحات في ديسمبر 2022 قال فيها بالحاجة إلى إنشاء مناطق عسكرية في كل من موسكو ولينينغراد ستصبح مجموعات إستراتيجية مشتركة بين القوات المسلحة. وأوضح أن إنشاء مجموعة مناسبة من القوات في الشمال الغربي سيكون رد فعل على قرارات حلف شمال الأطلسي حول زيادة القدرات العسكرية قرب الحدود الروسية، على ضوء توسع حلف شمال الأطلسي بعد إعلان ضم كل من فنلندا والسويد.
وكانت هناك أربع مناطق عسكرية في روسيا الوسطى، المقر الرئيس في يكاترينبرغ، والغربية في سانت بطرسبرغ، والجنوبية في روستوف على الدون، والشرقية في خاباروفسك.
كما وقع بوتين مرسوماً يعيد بناء منطقتي موسكو ولينينغراد العسكريتين في ضوء انضمام كل من فنلندا والسويد إلى الـ "ناتو"، وكان بوتين أقر المناطق التابعة للمنطقة الجنوبية وهي جمهوريات شمال وجنوب القوقاز، وشبه جزيرة القرم وأوسيتيا الشمالية-ألانيا وسيفاستوبول وكراسنودار وستافروبول، أما المنطقة العسكرية المركزية فتشمل جمهوريات ألطاي وباشكورتوستان وماري إل وموردوفيا وتتارستان وتوفا وجمهورية أودمورتيا وهاكاسيا وجمهورية تشوفاشيا وكراسنويارسك وناحية بيرم ومنطقة إيركوتسك ومنطقة كيميروفو - كوزباس وكيروف وكورغان ونوفوسيبيرسك وأومسك وأورينبورغ وبينزا وسمارا وساراتوف وسفيردلوفسك وتومسك وتيومين وأوليانوفسك وتشيليابينسك، وتبقي المنطقة العسكرية الشرقية التي تشمل الكيانات الإدارية في منطقة الشرق الأقصى الفيدرالية.
وننقل عن النائب الأول لرئيس لجنة الأمن في مجلس الدوما يوري أفونين تصريحاته لصحيفة "فيدوموستي" حول استعادة وضع منطقة لينينغراد العسكرية في المقام الأول لتفادي التهديدات الجديدة التي يخلقها حلف الـ "ناتو" في الشمال الغربي لروسيا، وأضاف أنه يجب ضمان حماية موثوقة لعدد من النقاط الحرجة لروسيا والتي تتمثل في المقام الأول وقبل كل شيء في سانت بطرسبرغ ومورمانسك وقواعد الأسطول الشمالي في شبه جزيرة كولا وبليسيتسك الفضائية.
وأكد أفونين أن منطقة موسكو العسكرية لديها "إمكانات بشرية وصناعية هائلة ينبغي استخدامها بأكبر قدر ممكن من الفعالية في حال حدوث مواجهة عسكرية كبيرة"، وقال "نحن الآن نقوم بعملية خاصة، وفي الواقع فهي قوات ووسائل محدودة بالمقارنة مع قدرات بلدنا، ولكن في العواصم الغربية يجب أن نرى وندرك أنه في حال العدوان من جانب حلف شمال الأطلسي فإن روسيا قادرة على زيادة إمكاناتها العسكرية بشكل كبير".
وإضافة إلى ذلك تضم منطقة موسكو العسكرية اليوم عدداً من المناطق الحدودية، وبخاصة مناطق بريانسك وكورسك وبيلغورود، ولذلك ستواجه أيضاً مهمة حماية حدود البلاد.
كيف ستواجه روسيا أخطار انضمام فنلندا إلى الـ "ناتو"؟
في حديث إلى قناة "روسيا" التلفزيونية في الـ 17 من ديسمبر 2023، قال بوتين "إن روسيا سترد بشكل مناسب على التهديدات العسكرية الجديدة لدولتنا في الاتجاه الشمالي الغربي"، مضيفاً أن جميع النزاعات مع فنلندا حُلت منتصف القرن الـ 20، وقبل انضمام هذه الدولة إلى حلف شمال الأطلسي كانت لروسيا علاقات دافئة وحسن جوار مع الفنلنديين".
وعاد ليقول إنه "لم تكن هناك مشكلات والآن ستكون، لأننا سننشئ منطقة لينينغراد العسكرية هناك مع تركيز وحدات عسكرية معينة أيضاً".
وننقل عن صحيفة "أزفيستيا" ما قاله الخبير العسكري فلاديسلاف شوريجين من أنه "حتى وقت قريب لم تكن فنلندا، باعتبارها دولة محايدة، تشكل تهديداً لروسيا، لكن الوضع تغير".
وأضاف شوريجين، "يجب اعتبار كل هذه المبادرات جزءاً من خطة مهمتها حصار بلادنا في الخليج الفنلندي وعزلها عن بحر البلطيق"، كما أعاد للأذهان ما فعله النازيون عام 1941 حين حاصروا الأسطول الروسي في الخليج الفنلندي، وقال "إنهم يحاولون الآن تكرار ذلك، والجيش الفنلندي لا يشكل تهديداً فهو قوة شكلية، لكن يجب أن نفهم أن قوات الـ ’ناتو‘ ستأتي إلى فنلندا".
وأشار إلى أن "هذه مجموعة شمالية كبيرة إلى حد ما، وفي الجنوب سيتعين علينا حل مشكلة البلطيق بشكل إستراتيجي، وأعتقد أنه في حال نشوب صراع عسكري فستكون المهمة هي تطهير دول البلطيق من أجل السيطرة على الساحل وتزويدنا بالمرور عن طريق البحر إلى كالينينغراد".
أما الباحث في مركز دراسة التخطيط الإستراتيجي لدى معهد الاقتصاد العالمي التابع لأكاديمية العلوم الروسية إيليا كرامنيك فيقول إن "انضمام فنلندا إلى حلف شمال الأطلسي ونشر القواعد العسكرية الأميركية على أراضي الجمهورية يشكل تهديداً عسكرياً خطراً لروسيا، لأن شبه جزيرة كولا قاعدة القوات النووية الإستراتيجية والبوابة الغربية لطريق بحر الشمال"، مضيفاً أن "الإستراتيجية الجديدة للجيش الروسي في المنطقة ستختلف عن زمن الحرب الباردة، وسيتعين على الجيش الروسي نشر فيلق في الأقل على الحدود مع فنلندا، وجيشاً مع قوات دفاع جوي وكل شيء آخر ضروري".
وخلص الباحث الروسي إلى القول إن "روسيا ستبني قواتها الجوية والدفاع الجوي وقوات الدفاع الصاروخي في المنطقة والمطارات والقواعد المعطلة منذ الحقبة السوفياتية، مثل قاعدة كيلبيافر الجوية، وهي كافية تماماً لهذا الغرض، ومع الأخذ في الاعتبار إنهاء معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا، فيمكن لروسيا أن تنشر في الشمال الغربي ألوية صاروخية مجهزة بأنظمة متوسطة وقصيرة المدى، مما يضمن تدمير قواعد الـ ’ناتو‘ في فنلندا والسويد في حال نشوب حرب مع الحلف".