Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"داحس والغبراء" على الطريقة الإنجليزية والمحور فرويد

صراع شكسبيري شرس في عالم التحليل النفسي طرفاه امرأتان وميدانه لندن ونواديها

آنا فرويد (1895 – 1982) (غيتي)

 

ملخص

رحيل فرويد سهل تفاقم الصراع الذي سيسمى في الأوساط النفسية العالمية "تناحر آنا فرويد/ ميلاني كلاين" ويتخذ شكلياً وجوهرياً طابع السجال العلمي الحاد بين ما ارتآه سيغموند فرويد منذ كتابه المبكر "ثلاث دراسات في النظرية الجنسية".

كان صراعاً لم يعرف عالم التحليل النفسي ما يوازيه في حدته وشراسته وربما في لا جدواه حتى، بل كان يمكننا أن نتحدث عن اللاجدوى بشكل أعمق في صدده لولا أن موضوعه الأساس ربما كان الفرع الأكثر أهمية وخطورة من فروع ميادين التحليل النفسي، وهو ذاك التحليل الخاص بالصغار والذي كانت ميلاني كلين نجمته الكبرى لكن دائماً ضمن إطار نزعة فرويدية لا شائبة فيها، فرويدية حتى وإن كانت تكونت لدى كلين من طريق أحد حواريي الأب المؤسس كارل أبراهام.

لقد كانت ميلاني الطرف الأساس في ذلك الصراع الذي على رغم أن مقدماته بدأت وفرويد لا يزال على قيد الحياة، فإن أوجه سيبلغ ذروته الشرسة خلال سنوات الحرب العالمية الثانية التالية لرحيل فرويد في لندن عام 1939. وكان ذلك الرحيل مهماً، لولاه لما بلغ الصراع ذلك الأوج، ببساطة لأن طرفه الآخر كان متمثلاً بآنا فرويد ابنة المؤسس التي سكتت عن "غريمتها" على مضض طوال السنوات السابقة على الأرجح من أجل خاطر أبيها الذي تمكنت هيبته من حصر الصراع في الدوائر الضيقة والحيلولة دون استشرائه، لكن غيابه أفلت الأمور من عقالها، بل فضح الأحقاد والضغائن "النسائية" التي كمنت خلف القضية برمتها.

بين الوريثة والأثيرة

ليس في وسعنا أن نقول إن ميلاني وآنا كانتا على قدم المساواة بالنسبة إلى القضية محور الصراع. فابنة فرويد التي كانت تحسب نفسها وريثته من ثم ورثت عنه في ما ورثت، صراعاته وشخصيته الصراعية وتوقه الدائم للزعامة وتمسكه حتى بأخطائه ثم قدرته الهائلة على تبريرها. ونعرف أن ذلك كله كان في خلفية الانشقاقات العديدة والمتتالية التي طبعت تاريخ حركة التحليل النفسي منذ بداياتها أوائل القرن الـ20 ومن أشهر "ضحاياها" كما نعرف، يونغ وآدلر وحتى كارل أبراهام نفسه. وكانت انشقاقات وتناحرات أضعفت الحركة غير أن مكانة فرويد وهيبته وربما آلامه خلال سنواته الأخيرة هدأت الأمور من حوله.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي طريقها جعلت ابنته تسكت صاغرة عن الصعود المدوي لميلاني كلين التي لم تبارح الحظيرة الفرويدية على رغم كل شيء بل كانت أثيرة المعلم. والحقيقة أن هذا كان يثير حفيظة آنا التي يبدو أنها لم تستسغ وجود ميلاني أبداً، ولكن ما العمل وسيغموند الكبير يحتضن تلك "الدخيلة" بل يوحي كثيراً حتى حين تطلع بأفكار تناهض أفكاره بأنها "يمكن أن تكون على حق".

وهكذا ما إن رحل الأب المؤسس عن عالمنا وقررت آنا أن الوقت قد حان لتسلمها الخلافة حتى فجرت الخلاف. وفجرته - وهذا أدهى – من دون أن يكون لها باع في فرع التحليل النفسي للأطفال الذي كانت ميلاني قد باتت سيدته المطلقة ولا سيما منذ انتقالها من وطنها وميدان تحركها النمسوي، حيث تكونت، إلى إنجلترا حيث لم تجد مأوى وجنسية وميدان عمل مدهش لها فقط، بل وجدت عدداً كبيراً من علماء تبنوا أفكارها ضمن إطار نزعتهم الفرويدية، كما حالها تماماً.

الأميرة ماري على الخط

ولم يكن علم ميلاني فقط ما يميزها بل كان تحبيذ فرويد لها منذ انتقاله وأسرته ومريديه إلى لندن بدوره هرباً من النازيين تحت رعاية تلميذته الأميرة ماري بونابرت ليجد ميلاني مواطنة إنجليزية ذات مريدين وحلفاء، تنتظره هناك منذ سنوات ما زاد من أهميتها لديه، لكن كذلك من رعب ابنته آنا تجاه إمكانية أن تعين ميلاني خليفة له بعد أن اطمأنت إلى تحييد الأميرة في ذلك المضمار نفسه.

المهم إذاً أن رحيل فرويد سهل تفاقم الصراع الذي سيسمى في الأوساط النفسية العالمية "تناحر آنا فرويد/ ميلاني كلاين" ويتخذ شكلياً وجوهرياً طابع السجال العلمي الحاد بين ما ارتآه سيغموند فرويد منذ كتابه المبكر "ثلاث دراسات في النظرية الجنسية" وهو تحديداً الكتاب الذي، وصولاً إلى تفسيراته وتعديلاته المتلاحقة في الميدان الجنسي تحديداً بالنيابة لما سماه "عقدة أوديب"، وبين ما طورته ميلاني كلين في مجال تحليل الأطفال واشتغلت عليه سنوات طويلة وصلت خلال مرحلتها اللندنية إلى ذروة لم يعد من الممكن معها مراعاة فرويد.

وعلى رغم احترام الجماعة العلمية الإنجليزية، ممثلة خاصة بجمعية التحليل النفسي هناك، لفرويد وكل ما يمت إلى أفكاره بصلة، كانوا كثراً المحللون النفسيون من أعضاء الجمعية الذين التفوا من حول ميلاني وساندوا تجديداتها، لكن كان يمكن لذلك كله أن يتم على خير وجه لولا الموقف غير المتوقع الذي اتخذه عند بدايات سنوات الـ30 المحلل الإنجليزي إدوارد غلوفر الذي على رغم أنه بدوره كان من مريدي كارل أبراهام ورفيق ميلاني في خضوعها ذات وقت مبكر لتحليل أبراهام، بل كان حتى المحلل النفسي لميليتا ابنة ميلاني نفسها، ما إن قرأ دراسة نشرتها في حينه أي عام 1935 ميلاني حول "الموقف القمعي" آملة منها أن تكون ذروة فكرانيتها في هذا المجال، حتى انتفض وكتب سلسلة من المقالات العنيفة التي لا تكتفي بالمشاكسة على رفيقته السابقة، بل وصلت إلى حد رفض جهود ميلاني جملة وتفصيلاً واصفاً تلك الجهود بأنها "لا تمت إلى التحليل النفسي بصلة".

تحت عباءة واحدة

في ذلك العام لم تكن آنا قد وصلت إلى لندن بعد فهي وأبوها لن يصلا العاصمة البريطانية إلا في عام 1938 لكنها كانت قد اطلعت على ما قام به إدوارد غلوفر وأرضاها من واحد من مقالاته أن يكون قد ذكرها من منطلق دراسة لها حول التحليل النفسي للأطفال كانت قد نشرتها عام 1927 من دون أن تثير اهتماماً علمياً كبيراً. كل هذا حرك ما هو دفين في رغبات آنا بالتخلص من ميلاني لكن من دون أن تجرؤ على استلال أسلحتها وهي التي لم تكن من الناحية العلمية تمتلك ما يضاهي ما لدى ميلاني كلين، لكنها تحركت من منطلقات أخرى في نوع لترتيب ميدان معركة الخلافة بعد رحيل فرويد.

 

ويمكننا أن نفترض مع بعض الذين يرون ذلك - بل ربما يبسطون الأمور إلى حد ما - أن آنا اشتغلت على مستوى تناحر قومي ما في لندن التي كانت ميلاني قد انتمت إليها كلياً وباتت تعتبر جزءاً أساسياً من تكتل للمحللين النفسيين جلهم من الإنجليز ومنهم جيمس ستراتشي وإلى حد ما إرنست جونز، وهم على أية حال من كبار الفرويديين لكنهم لفرويديتهم العميقة لم يكن من شأنهم أبداً التمسك بكل ما قاله فرويد أو كتبه. وفي المقابل كانت تلك الفرويدية من دون قيد أو شرط هي السلاح الأمضى الذي ستعتمد عليه آنا في المعركة.

وهكذا ما إن اندلع الصراع الحقيقي أشهراً بعد رحيل الأب حتى شحذت الأسلحة وباتت هناك كتلتان تتصارعان من حول التاريخ، من حول المفاهيم، من حول تربية الصغار كما من حول النظرية الجنسية، بيد أن الجوهر الحقيقي لم يكن في نهاية الأمر معركة الخلافة التي كان واضحاً أن آنا لم تكن لتريد أن تفلت من بين يديها. ومن هنا كان من الطبيعي للكتلة المؤلفة من الفرويديين النمسويين والألمان أن تناصر ابنة المعلم، فيما ناصرت الكتلة الإنجليزية ميلاني كلين ولكن دائماً، وبالنسبة إلى الكتلتين معاً، تحت عباءة وشعارات الفرويدية الأرثوذوكسية.

الجميع خاسرون

لقد تمثل الصراع بين الكتلتين حينها عبر سلسلة من مؤتمرات لاحقة عقدتها جمعية التحليل النفسي الإنجليزية عام 1943 تحديداً من حول أفكار ميلاني وتجديداتها. غير أن كل ذلك لم يؤد إلى نتيجة بل فاقم من الصراع بحيث إن الجميع خرجوا خاسرين وكان التحليل النفسي للأطفال الخاسر الأكبر، وذلك لأنه عرف بفعل ذلك كله انشقاق الصفوف إلى تشرذمات لم يبد أي منها قادراً على مواصلة طريقه، لكنه في المقابل أتاح لكل من ميلاني كلين وآنا فرويد أن تؤسسا مدرسة للتحليل النفسي للصغار تخص كل منهما مؤسستها ولا يمكنهما أن تلتقيا بل لم تلتقيا أبداً لا في المجمل ولا في التفاصيل، حتى وإن بقيت المدرستان تشكلان جزءاً مرموقاً من الجمعية الإنجليزية للتحليل النفسي، علماً أن العدد الأكبر من المحللين الإنجليز كونوا جماعة وسيطة مستقلة تسعى إلى التوفيق بين الجماعتين المتناحرتين ولا تزال تسعى حتى اليوم على الأرجح!

المزيد من ثقافة