في هذه الأيام بالذات ينقضي ذلك العام الذي كان بابلو بيكاسو خلاله نجم الحياة الفنية العالمية من دون منازع. فالرجل الذي رحل في أبريل (نيسان) 1973 كان بدءاً من الشهر نفسه من العام الفائت، ومن جديد مالئ الدنيا وشاغل الناس، ولكن لعل أسوأ ما حدث طوال تلك الشهور الـ 12 كان أن البعض شاءها مناسبة متواصلة لتصفية حسابات عديدة معه. ولما كان انفتاح السجالات في هوليوود وغيرها منذ سنوات يتعلق بـ"اكتشاف" البعض أن الرسام الكبير كان أيضاً زير نساء كبيراً – وهو أمر لم يكن أحد قد نسيه على أية حال؛ كان لافتاً أن يفتتح ذلك البعض المناسبة باستعراض قدمته الهزلية الأسترالية هانا غادسباي في استعراض لها عنونته "نانيت" أعلنت منذ بدايته أنها تكره بيكاسو الذي لم تتوان مجموعات "مي - تو" عن اتهامه باغتصاب القاصرات، فيما أدلى فنان دنماركي يدعى أولافور إيلياسون بحديث إلى صحيفة "الباييس" الأسبانية – وأهمية هذا الأمر تكمن في أن بيكاسو إسباني الأصل طبعاً -، يؤكد فيه أن بيكاسو "أسوأ وأقذر" من هرفي إينستاين المنتج الأميركي الذي نسي الجميع أنه من رائدي السينما المستقلة ليتذكروا الفضائح التي أثارتها من حوله نجمات سينمائيات كبيرات، تذكرن بعد أن وصلن إلى الشهرة من طريقه، بسنوات طويلة أنه أجبرهن على الرضوخ لرغباته يوم كن في بداياتهن.
سؤال لمجلة مرموقة
كل هذا كان قد بدأ على أية حال قبل بدء عام الذكرى الخمسينية لرحيل الفنان الكبير. وهو العام الذي وصل إلى ذروته عبر عنوان اختارته مجلة "تيليراما" المرموقة في الحياة الفنية والأدبية الفرنسية، لملحق خاص وأنيق كرسته للذكرى: عنوانه هو "الضبع بيكاسو". والحقيقة أن ذلك الملحق ذا العنوان الاستفزازي، لم يكن شريراً تجاه بيكاسو وذكراه إلى الحد الذي يمكن تصوره. كل ما في الأمر أن استفزازية العنوان، معطوفة على إشارات وبشيء من التفاصيل للعلاقات القاسية التي أقامها بيكاسو مع نسائه اللواتي توالين على حياته منذ أيامه الأولى في باريس عند منعطف القرنين التاسع عشر والعشرين، سواء كن موديلات يعملن معه، أو عشيقات أو زوجات أو حتى مجرد صديقات عابرات، - أو كل ذلك في الوقت نفسه - حتى نهاية تلك الحياة، كل هذا أشارت إليه المجلة في مقدمتها ولكن لتنحيه جانباً وتركز على فنه الذي كانت صورة المرأة واحداً من ركائزه. وبهذا لا شك أن ذلك الملحق عرف كيف يلتقط العصا من منتصفها ويقول ما على بيكاسو وما له بالنسبة إلى موضوع شغل القرن العشرين من خلال اهتمام ذلك القرن بفنانه الكبير.
نهم إلى الفن والنساء
وهكذا مثلاً يخبرنا محرر الملحق أوليفييه سينا منذ البداية أن "أجل كان بيكاسو مستبداً في علاقاته النسائية. ومع كل النساء اللواتي عايشهن وارتبط بهن". فالأولى تاريخياً بينهن، فرديناند أوليفييه، التي عاش معها بداية سنواته الباريسية الصاخبة بين 1904 و1912، كان من غيرته عليها يعاملها وكأنها أسيرته؛ وكان لا يتوانى عن ضرب دورا مار، وعن إهانة عشيقته الروسية أولغا خوخلوفا علناً وأمام الأصدقاء، ويغتصب ماري تيريز على رغم أنها كانت الأكثر هياماً به، من دون أن ننسى الأكثر حداثة من بينهن والتي ربما كانت آخرهن على أية حال، فرانسواز جيلو وريثته في نهاية الأمر التي لفتت الأنظار بإصرارها بعد موته بسنوات على فضحه في كتاب عن حياتها معه وعن إساءته لها ولمن سبقنها من نسائه. بل هي أفرطت في العداء له حتى بعد موته بأن منعت، قانونياً، استخدام فيلم عن حياته من بطولة أنطوني هوبكنز وإخراج جيمس أيفوري من استخدام أي لوحة من لوحاته أو أي بيت من بيوته لتصوير الفيلم. كل هذا لا يغيب عن بال الملحق الذي أصدرته "تيليراما" كما أشرنا. ولكنها في المقابل لم يغب عن بالها أن ذكرى خمسينية فنان كبير من طينة بابلو بيكاسو، حتى وإن كان من المستحسن فيها سعياً للنزاهة الحديث عن سيئات الفنان الاستثنائي وحتى، "وحشيته" في تعامله مع المرأة يجب أن تكون أيضاً مناسبة للحديث عن تجديداته الفنية ومكانته الإبداعية في القرن العشرين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
شيء من الإنصاف
والحقيقة أن هذا الجانب الأخير من "حديث بيكاسو"، كان هو الطاغي على أية حال على معظم صفحات الملحق المذكور الذي بدا في ذلك أشبه بمرآة لعشرات المعارض والمطبوعات والندوات التي تراكمت خلال كل تلك الشهور بحيث لم يعد "حديث زير النساء" سوى تفصيل ثانوي الأهمية. لكن الأمر برمته أعاد إلى الأذهان في الوقت نفسه نوعاً من إعادة الاعتبار لتلك التي كانت منسية بعض الشيء باعتبارها المرأة الهامة الأولى في حياة مؤسس الفن التكعيبي بل مؤسس الحداثة الفنية في القرن العشرين؛ وهي بالتحديد فرناند أوليفييه، الباريسية التي كانت على أية حال قد ثأرت لنفسها بنفسها منذ ما قبل أواسط القرن العشرين. بل ثأرت وبعباراتها الخاصة التي نجدها في عدد كبير من نصوص بل كتب راحت تنشرها، ربما مركزة فيها على علاقتها بالفنان ولكن، في الوقت نفسه، ساعية إلى التخلص من طيفه الذي أراد كثر أن يبقوه، وبحسب تعبيرها نفسه، "محلقاً من حول حياتي". ومن هنا لئن كانت فرناند تلغي الأسطورة التي أرادت ألا تكون لأية امرأة ارتبطت ببابلو بيكاسو، أية حياة حقيقية ومستقلة من بعد انفصالها عنه، فإنها تفعل ذلك من دون "فجائعية" خوخلوفا، أو استكانة ماري تيريز، أو عنجهية دورا مار، أو حتى، وهذا أكثر أهمية، من دون أحقاد فرانسواز جيلو التي ليس ثمة في الحقيقة ما يبرر تلك الأحقاد بالنظر إلى أنها كانت الأكثر استفادة من علاقتها بالفنان مادياً ومعنوياً!
ماذا كتبت فرديناند؟
المهم في الأمر أن فرديناند التي كان متحف مونبارناس الباريسي قد خصها قبل شهور من افتتاح عام خمسينية بيكاسو وتحت شعار "العودة إلى امرأة منسية"، بمعرض احتفالي كبير لم تقتصر معروضاته على صورها، ولا النشاطات الفنية والأدبية التي دارت من حوله على رسم سنوات العلاقة بينها وبين بيكاسو. بل ركز على ما صورته فرديناند في نصوصها ورسومها ـ فهي كانت رسامة أيضاً وحتى قبل أن تتعرف إلى بيكاسو في بداياته – فهو تعرف إليها كصحافية صبية في مقتبل العمر تكتب في الصحافة الفنية لكنها كي تنشئ طفلها الأول – من أب كان غير معروف -، كانت تعمل مع عدد من رسامي تلك المرحلة كموديل بفضل جمالها الأخاذ وجسدها اللدن الذي سيقول بيكاسو لاحقاً، أنه فتن به باكراً وغالباً ما أثار غيرته حتى قبل أن يعتبرها امرأته. ومهما يكن من أمر كان لا بد أن تنتهي علاقة بيكاسو بفرديناند إذ لم تحتمل طويلاً غيرته عليها في وقت كان بالكاد يمكنه أن يقيم أودها. ومن هنا راحت بعد انفصالهما، وحتى وإن بقيا صديقين، ترتاد حلقات أوسع من الفنانين والمجتمعات الثقافية بحيث أنها، عدا عن ظهورها ولا سيما في بورتريهات ربما حضرت فيها بقوة تمهيداً لظهورها مثلاً في لوحته المؤسسة للتكعيبية "آنسات آفينيون"، ظهرت في عدد من لوحات ماري لورنسين، إلى جانب صديق هذه الأخيرة الشاعر والناقد أبولينير ولكن غالباً إلى جانب بيكاسو نفسه في تلك اللوحات التي خلدت فيها لورنسين علاقة بدايات الحداثة الفنية بإبولينير. وكذلك صورها أندريه ديران وفان دونغين وحتى الرسام هنري روسو "الجمركجي" وديلانوي وجورج براك وماتيس الذين كانت تعتبرهم أصدقاءها بقدر ما هم فنانون رسموا ملامحها، تماماً كما اتخذها عدد من كبار مبدعي التصوير الفوتوغرافي موديلاً لهم. ولقد صورت فرديناند نفسها في بورتريهات ذاتية لعل أهم ما فيها أنها تظهر إلى حد كبير كم عميقاً كان تأثرها ببيكاسو الذي ظلت تعتبره أستاذها على رغم انفصالهما المبكر. وهي إلى جانب ذلك أبدعت صوراً قلمية عن ارتباطها بهم وغالباً في منأى من بيكاسو هي التي في كتب لها مثل "بيكاسو وأصدقاؤه" (1939) وحتى لاحقاً في "ذكريات حميمة" (1988) عرفت كيف تجيب بكبرياء وشغف على سؤال بسيط هو "هل ثمة حياة للمرأة بعد بيكاسو؟".