ملخص
البعد الثقافي سيظل هو الإشكال المركزي، وهنا سنتحدث عن المشكلة الفلسفية، وهل لم تعد أوروبا قادرة على التفلسف وإنتاج الحكمة التي تمكنها من إنقاذ ذاتها من هذا التراجع والموت المرتقب الذي يحذر منه ماكرون وآخرون؟
ينظر مفكرون وعلى رأسهم فرانسيس فوكوياما، صاحب نظرية "نهاية التاريخ"، إلى عام 2024 على أنه يمثل لحظات حاسمة في التاريخ قد تقود إلى تغيير اتجاه بوصلة العالم الراهن، إذ إن ما يجري الآن سينعكس بتداعياته إلى مراحل زمنية أبعد.
يأتي ذلك في وقت حذرت منظمة العفو الدولية عبر أمينتها العامة أنييس كالامار هذا الأسبوع من أن النظام العالمي الذي قام بعد الحرب العالمية الثانية "مهدد بالانهيار"، وهي مسألة طالما سبق طرحها في أن بنى العالم التقليدي الذي شُيد على أنقاض تركة الحرب العالمية لم يعد موجوداً بالمعنى الحرفي والمباشر.
ومجمل ما يطرح بخصوص فكرتي التغيير والنهايات يظل موضوعاً يتكرر من فترة لأخرى على إثر وقع أحداث كبرى تجري في العالم، كالحروب على وجه التحديد، كما نشهد الآن في الحرب الروسية - الأوكرانية ومن ثم حرب السودان وحرب غزة، وغيرها من مشاهد التوتر المقلق في كثير من بلدان العالم جراء تداعيات مختلفة تصب مجملها في التحديات الاقتصادية وكيفية صيانة مستقبل الإنسان، مع بروز المسائل الأكثر تقنية، مثل تحديات الذكاء الاصطناعي التوليدي وغيرها من التكنولوجيات في هذا الإطار، وهو ما أشارت إليه كذلك "منظمة العفو الدولية" في تقريرها السنوي الذي يعنى بحقوق الإنسان حول العالم، في حين ينظر إلى مفهوم هذه الحقوق من زوايا عدة.
ويتزامن هذا النوع من الخطاب التبشيري بالتغيير على مستوى البنى العالمية الجيوسياسية والاقتصادية والإنسانية عامة مع الخطاب الذي رسمه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وهو يشعر بالقلق تجاه مستقبل "القارة العجوز" في ظل تداعيات واقعية لا يمكن القفز عليها، مما دفعه إلى البحث بصوت مرتفع عن الحلول الممكنة في محاولة التفكير بكيفية تجاوز هذا القلق والهرب من قطار الموت والتطويق، وقد كان واضحاً في التخوف الذي أبداه وهو يشير إلى تراجع القارة الأوروبية "في مواجهة منافسة القوى الكبرى الأخرى"، داعياً إلى "قوة دفع جديدة للمشروع الأوروبي بحلول عام 2030"، كما جاء في خطابه حول مستقبل القارة الذي ألقاه ظهر اليوم الخميس، 25 أبريل (نيسان) الجاري، في "جامعة السوربون".
في أسباب التراجع
وبعيداً من المضي في تفكيك أسباب "الموت الأوروبي" الذي قد يخشى أن يكون حقيقة، فإن الرئيس الفرنسي وهو يتحدث داخل مؤسسة أكاديمية عتيقة كان يصوغ خطاباً قد يكون سياسياً، لكن عمقه الأساس يذهب إلى الأبعاد الفلسفية والفكرية التي من المفترض أن يشتغل عليها خبراء ومتخصصون في حقول أخرى غير السياسة، في حين لا يمكن الجزم بأن أي نوع من التفكير في قضايا عالمنا اليوم يمكن أن يخلو من الأثر السياسي بأي شكل كان، وهنا سنرى أن هذا الموضوع الفلسفي سيصبح خياراً قبل أن يكون نتيجة مفروضة على أحد، وفق منظور ماكرون الذي قال "يجب أن نكون واضحين اليوم في شأن حقيقة أن أوروبا مهددة بالموت، ويمكن أن تموت".
وهذا التحذير الذي يضيف عليه "الأمر يعتمد فقط على خياراتنا، لكن هذه الخيارات يجب أن نتخذها الآن"، فإذاً ليس من مجال أمام أوروبا للانتظار كي تنجو من مأزقها الراهن، لأنه "في أفق العقد المقبل هناك خطر كبير يتمثل في إضعافنا أو حتى تراجعنا".
ومن المؤكد أن الموضوع الاقتصادي يعتبر مقياساً يمكن الاستناد إليه في التفسير، ولهذا نظر ماكرون إلى التدهور الاقتصادي في أوروبا مقارنة بالصين والولايات المتحدة، وهي مسألة باتت جلية منذ أعوام لكن الخطر لا يقف هنا، فالاقتصاد وتطوره جزء من صورة كبيرة يجب أن نراها كاملة وإلا لما فهمنا مجمل المشكل، وهناك التحديات المتعلقة بالحفاظ على القيم الديمقراطية والاستقلال الإستراتيجي والقدرة على الابتكار والمضي في صناعة أمم مبدعة، وهذه السمة التي من المفترض أن تشكل جوهر العقل الأوروبي التنويري الذي برز منذ قرون عدة خلت ليفجر ثورته المعرفية والمبدعة التي انعكست على تجليات الحياة البشرية كافة إلى اليوم، لكنها أوروبا ترى اليوم أن الطريق يتجه إلى منطقة أخرى وأن التهديد يلاحقها بحق، ولهذا فإن تحذير ماكرون يجب أن يؤخذ على محمل الجد.
"موت أوروبا الغريب"
يطرح دوغلاس موراي في كتابه "موت أوروبا الغريب" الصادر عام 2017 التخوف من نهاية أوروبا بطريقة شاهد عيان وسرد شخصي لقارة تقع في حال انتحار، إذ يسعى من خلال نصه إلى حفز الأوروبيين على تعزيز الثقة بالدفاع عن أنفسهم والمقاومة ليكونوا قادرين على التغيير الشامل للمجتمع، لكن قطعاً ثمة تحديات لا حصر لها، إذ تراكمت الأزمات على القارة من المنحى السياسي إلى الاقتصادي إلى الثقافي في فشل التعددية الثقافية كما يرى المؤلف، بخاصة مع قضايا الهجرة واللاجئين التي انفجرت خلال العقود الأخيرة، وانعكست على مجمل التشكل الثقافي للقارة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتتلخص فكرة موراي في نقطتين هما النزوح الجماعي للقارة الذي يجعلها موطناً لشعوب مختلفة من العالم، وفقدان الإيمان بالمعتقدات والتقاليد والشرعيات، غير أن أفكار البريطاني موراي تقع في خانة اليمين المتطرف، وهذا ما جعل رول ليدل من صحيفة "التايمز" يصف الكتاب بأنه "لامع ومهم ومحزن للغاية"، في حين قال عنه بانكاج ميشرا في "نيويورك تايمز" بأنه "ملخص سهل لأفكار اليمين المتطرف".
لكن سواء كان الإحساس بالخطر يأتي من اليمين أو اليسار أو أي اتجاه كان، فالملخص يدور حول الإشكال القائم والإحساس القائم به الذي لا يمكن مفارقته على عجل، مما يجعل أي طرف كان يمسك بالناقوس سيسرع إلى دقه، وهنا سيبدو جوهر هذه القضايا الأوروبية الشائكة متشابكاً، وسيحمل المتكلم عنها من كل بستان زهرة.
غير أن البعد الثقافي سيظل هو الإشكال المركزي، وهنا سنتحدث عن المشكلة الفلسفية، وهل لم تعد أوروبا قادرة على التفلسف وإنتاج الحكمة التي تمكنها من إنقاذ ذاتها من هذا التراجع والموت المرتقب الذي يحذر منه ماكرون وآخرون؟
وإذا كانت الحرب في أوكرانيا قد أفرزت كثيراً من العورات في الجسد الأوروبي والعالمي فإنها، وبالتحديد مع أوروبا، قد جعلت من الضروري إعادة التفكير في "الذات" كموضوع وممارسة، فالقضية تتجاوز الدروع الصاروخية والتكتلات والقيم الشفاهية إلى الفعل على أرض الواقع، والقدرة على الإنتاج الجديد والخلاقية في تصور عالم أكثر تجاوزاً لمجمل الأزمات، ولهذا فإن جزءاً من المنظور الماكروني، حتى لو أنه أخذ الدلالة الفلسفية وجانب البراغماتية التي يجب أن تؤخذ في الاعتبار، إلا أنه عاد ليرى في جزء من حديثه أن الحل في التسلح والدفاع والاستثمار العسكري، وهو ما يعيد الكُرة إلى مربعها الأول على صعيد، وعلى صعيد آخر سيبدو شبح الصين والاستنزاف التجاري الذي يقع فيه الغرب جراء إغراق بكين.
مبدأ القوة
وإذا كانت أول فقرة من كتاب موراي تتضمن تحذيراً بصريح العبارة من أن "أوروبا تقرر الانتحار، أو في الأقل أن قادتها قد قرروا ذلك"، فإن هذا الانتحار غير الموت، فالموت يحدث بفعل عوامل خارجية وداخلية وقد يكون بطيئاً ومع تقدم العمر أو الشيخوخة، ويحدث هذا للبشر كما للأمم والشعوب، أما فعل الانتحار فهو مخيف لأنه يعني لحظة انقطاع بناء على قرار، وهذا يعني أن قرار مثل هذ النوع يعني بالإمكان التراجع عنه، بخلاف إرادة الموت التي تأتي بهدوء وسكينة، ولهذا فإن تجاوز حال الانتحار يتطلب الاتفاق حول "مبدأ القوة"، وفق ما نلمس من إشارة في تعليق المستشار الألماني أولاف شولتز عبر منصة "إكس" على خطاب ماكرون، "تريد فرنسا وألمانيا معاً أن تظل أوروبا قوية، وخطابك يحوي أفكاراً جيدة حول كيفية تحقيق ذلك، ومعاً ندفع أوروبا إلى الأمام سياسياً واقتصادياً"، فالقوة التي ستمكن من مغادرة خطر التراجع، الموت، أو بالأحرى الانتحار.
والمفارقة التي تخلق مقاربة أن خطاب ماكرون جاء في اليوم ذاته الذي اكتملت فيه المصادقة على الخطة البريطانية لإرسال طالبي اللجوء إلى الدولة الأفريقية رواندا، الأمر الذي وصفه الرئيس الفرنسي بأنه "غير فعال"، مضيفاً في خطابه حول مستقبل الاتحاد الأوروبي في السوربون "إننا نستحدث جغرافيا سياسية من الخبث تخون قيمنا وستقيم تبعيات جديدة، وستثبت عدم فعاليتها بشكل مطلق".
والجانب الآخر من ذلك المشهد يصور تبعات ما بعد "بريكست" والانفصال البريطاني عن أوروبا، وصورة عامة لقارة "عجوز" على الضفة الثانية من بحر المانش، بدأت تتكلم بصوت مسموع من قادتها عن جوهر أزمة كان ينطق بها في البدء أهل الفكر والفلسفة وحسب.