Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

صراع الشلك والدينكا ينعش حمى الانفصال في جنوب السودان

كانت البلاد مقسمة جغرافياً وإثنياً ودينياً وثقافياً لذلك بدت الحرب لا نهاية لها إلا بعد خمسة عقود بتوقيع اتفاقية السلام في نيفاشا

تعرض الشلك لفرض الضرائب والغارات المتقطعة من قبل الأتراك نحو عام 1820 ثم احتلوها أخيراً في عام 1867 بعد السودان الشمالي وأصبحت جزءاً من الإمبراطورية العثمانية (غيتي)

ملخص

الشلك هم ثالث أكبر مجموعة إثنية في جنوب السودان، بعد الدينكا والنوير لكن لا يزال هناك بعض الغموض في شأن أصلهم، وانتعش عند الشلك حلم الانفصال عن دولة جنوب السودان، وأسهم في تعاملهم معه بجدية اعتقادهم في ملكيتهم المقدسة، والشعور بالتهميش، والصمغ العربي والاحتياط النفطي بأرضهم.

تعد الحرب الأهلية من أكثر حالات العنف داخل الدولة تعقيداً، وعندما تحدث في السودان تصبح أكثر تعقيداً من بقية البلدان الأفريقية الأخرى التي تعاني نزاعات مشابهة، ذلك أن الاختلافات الواسعة والمتعددة بين سكان السودان هي من بين الأسباب الجذرية للصراع. إبان الحرب في جنوب السودان، كان السودان مقسماً جغرافياً وإثنياً ودينياً وثقافياً، لذلك بدت الحرب لا نهاية لها إلا بعد خمسة عقود بتوقيع اتفاقية السلام في نيفاشا عام 2005، ومهدت للانفصال عام 2011.

وكانت السمة البارزة لتلك الحرب أنها دارت رحاها وفقاً لانقسام بين إقليمي الشمال والجنوب، ولكن بعد تحقق الانفصال بالاستقلال وتأسيس دولة حديثة، ظهر أن هناك أسباباً أخرى خلقت موجة عنف جديدة في ذلك الإقليم قوامها مجموعات سكانية أهمها قبائل مقاطعة أعالي النيل، والتي تعرف ديموغرافياً باسم الدينكا والنوير والشلك والأنيواك والمورلي والكاشيبو والمابان والبورون.

 

والشلك هم ثالث أكبر مجموعة إثنية في جنوب السودان، بعد الدينكا والنوير، لكن لا يزال هناك بعض الغموض في شأن أصلهم، فهناك أكثر من 100 مجموعة تصنف بكلمة كوا (أحفاد) متبوعة باسم سلف المجموعة. ومن المثير للاهتمام أن للشلك عادة هي أن نسل الرجل الذي استقر مع أهل زوجته يتبعون نسبهم من خلال الزوجة إلى النسب الذي يعيشون في منزلهم، وهناك شعوب نيلية أخرى تتبع هذه الممارسة كإحدى الطرق التي يتم بها تطعيم الأنساب الغريبة في بنية النسب السائدة في مجموعتهم.

وتؤكد غالبية الموروثات التاريخية النيلية التي تستند إلى التراث الشفهي والفولكلوري، استقرار قبيلة الدينكا في الضفة الشرقية للنيل، بين محافظتي بحر الغزال وبحر الجبل في أعالي النيل، بينما هاجرت قبيلة الشلك من المناطق الواقعة شرق بحيرة فكتوريا في أوغندا، وتعيش في شريط على الضفة الغربية للنيل الأبيض من كاكا في الشمال إلى بحيرة نو في الجنوب امتداداً إلى نهر السوباط في مقاطعة أعالي النيل الشمالية وعاصمتهم فشودة.

 

وبعد انفصال جنوب السودان إلى دولة مستقلة عام 2011، وحتى وقت قريب، كان النزاع الذي نشب عام 2013، بين قبيلتي الدينكا ممثلة في الرئيس سلفاكير ميارديت ومعظم أعضاء نظامه، وبين نائبه رياك مشار من قبيلة النوير. وبعد عدد من الجولات بين التمرد والمصالحة ثم التمرد مرة أخرى، كانت الدلائل تشير إلى مرحلة نزاع أخرى بين قبيلتي الدينكا والشلك.

نظام مركزي

واستطاع الشلك إقامة نظام مركزي تحت قيادة ملك القبيلة ويسمى "الرث" الذي يعتقد أنه تحل فيه روح قائدهم الأسطوري "نيكانغ" المؤسس الأول لمملكة الشلك. ويجيز "الرث" زعماء قبائل الشلك الذين يختارهم المواطنون مما يؤهله لفرض سيطرته عليهم، إضافة إلى تمكنه من تكوين ثروة طائلة وقوة عسكرية خاصة به. تاريخياً، كان الشلك متحدين في مملكة هرمية تقع تحت سلطة ملك الشلك الروحاني "رث"، وهو الممثل لـ"نيكانغ" على الأرض. ويتم اختيار "الرث" من أبناء الملوك السابقين، وتنحدر العشيرة الملكية الكبيرة من الملك الأول "نيكانغ"، ويعتقد الشلك أن روحه موجودة في كل ملك وقد انتقلت من ملك إلى آخر عبر سلسلة خلفائه. وتكمن فلسفة ذلك في أن "نيكانغ" هو تجسيد أسطوري للملكية الخالدة التي ترمز في حد ذاتها إلى البنية الوطنية، والنظام الأخلاقي الذي لا يتغير.

 

وطور مجتمع الشلك ثقافة مادية وسياسية تم التعبير عنها في مؤسسات مملكتهم وأنشطة الحياة اليومية، وعلى رغم طبيعتها الشفهية، فإنها تعتمد على نظام متقن من التقاليد والممارسات التي يعود تاريخها إلى أكثر من 500 عام، إضافة إلى طبقات عدة من الزعماء، يقسم مجتمع الشلك تقليدياً إلى عامة الناس، وخدم الملك، وهكذا أنتج تطور مملكة الشلك، وإن لم يكن بصورة واضحة، تسلسلاً هرمياً اجتماعياً للبيت الملكي والنبلاء والعامة.

وعلى رغم أن عدد الشلك لا يتجاوز 100 ألف نسمة، فإن مجموعتهم تتميز بكونها قبيلة مستقلة وغير مقسمة إلى قبائل صغيرة. في الجانب الآخر، يطلق شعب الدينكا على أنفسهم اسم "جيينغ" أو "مونيجانغ" ويتحدثون لغة الدينكا، وهم أكبر قبيلة في جنوب السودان. ويعتمد الاقتصاد لديهم إلى حد كبير على تربية الماشية التقليدية وهي أساس الوضع الاجتماعي، لذلك، كلما زاد حجم القطيع زادت مكانة الأسرة. والماشية هي وسيلة التبادل في الزواج وسداد الديون ودفع الدية وفي المناسبات والطقوس الروحية الكبرى.

ومع أن منطقة الشلك تصنف ضمن مناطق السافانا الخالية من الأشجار، لكن مقارنة بأبناء عمومتهم من الدينكا والنوير، فإن الشلك مجتمع زراعي ومستقر، ولهم اهتمامات رعوية قوية بالأبقار والأغنام والماعز، ويعتمدون على الزراعة وصيد الأسماك أكثر بكثير من الدينكا والنوير، إذ توفر لهم واجهة نهر النيل الطويلة المياه الكافية لممارسة النشاط الزراعي والرعي. وفي موسم الجفاف يعد الوصول إلى الأراضي الجيدة على طول نهر النيل، سهلاً نسبياً لعدد قليل من الماشية التي يمتلكونها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

جوهر الصراع

وكان الشلك على اتصال لقرون عدة مع السكان العرب في شمال السودان، إلى أن تعرضت منطقتهم للمرة الأولى لفرض الضرائب والغارات المتقطعة من قبل الأتراك نحو عام 1820، ثم احتلوها أخيراً في عام 1867 بعد السودان الشمالي، وأصبحت جزءاً من الإمبراطورية العثمانية. وعندما استسلمت الإدارة التركية لمحمد أحمد المهدي، انخرط الشلك في صراع ضده وضد خليفته عبدالله التعايشي. وبعد أن وصل اللورد هربرت كتشنر إلى أرض الشلك في نهاية عام 1898 أصبح السكان تحت الإدارة الإنجليزية - المصرية.

 

وموقع مملكة الشلك على نهر النيل عرضها لخطر التوغل والعدوان الأوروبي والعربي أسفل النيل، ونتجت منه ممارسات العبودية وتجارة الرقيق، وبعدها حملات التنصير والأسلمة. وقد تحول كثر من الشلك جنوب المنطقة إلى المسيحية، وفي شمالها إلى الإسلام، ومع ذلك، لا يزال ولاؤهم لـ"نيكانغ". وقد أدت الحرب الأهلية إلى نزوح عديد من قبيلة الشلك إلى شمال السودان مما عدوه تهديداً خطراً لتقاليدهم.

غزاة أقوياء

في كتابها "الشلك التجارة والسياسة منذ منتصف القرن الـ17 إلى عام 1861"، قالت الباحثة في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة "لندن" باتريشيا ميرسر "منذ منتصف القرن الـ17 حتى عام 1861، سيطر الشلك، وهم غزاة أقوياء، على النيل الأبيض حيث يتمركزون في قطاع النهر الذي هو أراضي الشلك اليوم، وقاموا بغارات على الشمال حتى نقطة الالتقاء بالنيل الأزرق". وأضافت ميرسر "كان تكتيك الشلك المميز هو الغارة الجماعية المفاجئة بالزوارق على القطعان أو القرى الواقعة على مسافة قريبة من ضفة النهر. قبل ظهور السفن الشراعية التركية - المصرية، كانت زوارق الشلك هي المراكب الوحيدة الصالحة للملاحة على النيل الأبيض".

 

وتابعت الباحثة في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية "منذ عام 1820، أصبح الشلك أكثر ارتباطاً بالسودان الإسلامي. ويبدو أن بداية ازدهار تجارة العاج والعبيد قاد جلابة [تجار] كردفان إلى فتح تجارة منتظمة مع الشلك. وبأعداد متزايدة باستمرار، هاجر اللاجئون الشماليون المسلمون من السلطات التركية إلى أراضي الشلك". وقالت أيضاً "كانت التجارة بين الشلك والشماليين محصورة إلى حد كبير في مستوطنة كاكا، وحققت أرباحاً هائلة من تجارة العاج الذي فرض عليه الشلك احتكاراً صارماً من سلطة ملكهم. ونسبة إلى هذه الثروة المكتسبة القصيرة الأجل لم يستطع الشلك تطوير أي بديل اقتصادي للغارات التقليدية التي استمرت وزحفت حتى أغاروا على أراضي الدينكا لجلب العبيد مما أحدث أزمة بين الشلك والدينكا من جهة، وبينهم وبين المهاجرين الشماليين من جهة أخرى في عامي 1860 و1861".

سلسلة العنف

وبعد انفصال جنوب السودان وقعت اشتباكات عدة بين الدينكا والنوير، ففي عام 2016 نفذت ميليشيات مدعومة من حكومة جنوب السودان التي تسيطر عليها قبيلة الدينكا هجمات على مدنيين من قبيلة الشلك كانوا يحتمون داخل مباني مراكز حماية المدنيين التابعة لبعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان، ووقعت عديد من الحوادث التي قتل فيها هؤلاء المدنيون على يد عناصر من القوات الحكومية، وفي مدينتي بور وجوبا. وفر معظم السكان إلى هذه المواقع في أعقاب الهجمات التي وقعت في جنوب ولاية الوحدة حيث قامت قوات "الجيش الشعبي لتحرير السودان" والميليشيات المتحالفة معه بتدمير ومصادرة المحاصيل والممتلكات بينما انخرطت في أعمال عنف واسعة النطاق ضد المدنيين.

وأوضحت بعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان أن القتال اندلع بين شباب الدينكا والشلك باستخدام المناجل والأسلحة الصغيرة. واقتحم شباب الدينكا الضالعين في أعمال العنف مخيم بعثة الأمم المتحدة ببنادق زعم أن عناصر في الحكومة أعطتها لهم وبدأوا في إطلاق النار على المدنيين من الشلك والنوير داخل المعسكر. ولقي ما لا يقل عن 20 مدنياً حتفهم، وجرح 70 آخرون. ولم تحدد قوات حفظ السلام سبب الاشتباكات.

حلم الانفصال

وبعد هذه الحادثة، طالب الشلك بإعادة الحدود إلى ما كانت عليه عند الاستقلال في عام 1956، فقد اتهموا الدينكا أنهم استقووا بالنظام الحاكم والرئيس سلفا كير وحرقوا قرى الشلك على طول الضفة الغربية من النهر، واستولوا على الحدود المشتركة وصولاً إلى مدينة جونقلي.

وتوصل الرئيس سلفا كير إلى اتفاقات عام 2022 مع اثنين من كبار قادة المعارضة الذين انفصلوا عن منافسه، ونائبه رياك مشار، وذلك بغرض إضعافه، ومع أن الاتفاق يفتح المجال لحل الخلافات حول مدينة ملكال، ولكنها تزيد من احتمالات اتساع نطاق الاقتتال الداخلي بين رفاق المعارضة السابقين، وبالفعل ثار نزاع بين الموالين لمشار والكوادر المنشقة عنه.

وانتعش عند الشلك حلم الانفصال عن دولة جنوب السودان، ومما أسهم في تعاملهم معه بجدية، على رغم أنه ظل يراودهم منذ قرون، عوامل عدة منها، الأول أن الشلك يعتقدون في ملكيتهم المقدسة وينادون باستعادتها، والرجوع إلى عهد ملكهم الروحاني الذي يمكنه حل مشكلات عدم الاستقرار. والثاني أنه بعد تورطهم في الحرب الأهلية والمنافسات القبلية في السنوات الأخيرة شعر الشلك بالتهميش المتزايد بسبب الأراضي التي استولت عليها القبائل الأخرى خصوصاً الدينكا. أما العامل الثالث فهو التغيرات البيئية الأخيرة في جنوب السودان والتي جعلت مملكة الشلك منتجة مهمة للصمغ العربي، كما يشير عدد من الاكتشافات أن المنطقة القريبة من مملكتهم بها احتياط نفطي كبير.

المزيد من تقارير