Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ماذا تريد "حماس" من غزة ما بعد الحرب؟

القدرة على القتال من دون تحمل عبء الحكم

رجل فلسطيني يشاهد الغارات الإسرائيلية في شرق رفح، قطاع غزة، مايو 2024 (رويترز)

ملخص

كل من يؤيد حقاً فكرة التوصل إلى تسوية دائمة للصراع في غزة، يعارض إشراك "حماس" في الحكم الفلسطيني، لأن أهدافها الأساسية لا تتوافق مع السلام.

في السادس من مايو (أيار)، وفي محاولة لإحباط عملية إسرائيلية شبه مؤكدة في رفح، لمَّح قادة "حماس" إلى استعدادهم للقبول باتفاقية مع إسرائيل تقضي بتبادل الرهائن في مقابل السجناء. هذا الإعلان الذي جاء بعد أسابيع من تعنت "حماس"، أثار التفاؤل في واشنطن بإمكانية التوصل إلى صفقة قد تؤدي إلى تحرير عشرات الرهائن ووقف الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة بصورة موقتة. ومع ذلك، يظل من غير الواضح مدى التزام "حماس" الحقيقي بتنفيذ هذه الصفقة، أو ما إذا كانت تسعى ببساطة إلى إيجاد وسيلة للحفاظ على معقلها في رفح، إذ تعتقد إسرائيل أن ألويتها المتبقية وقيادتها الموجودة في غزة تتحصن هناك.

وبعد سبعة أشهر من الحرب في القطاع، ألحق الصراع بين إسرائيل و"حماس" دماراً هائلاً بأكثر من مليوني شخص من سكان غزة الذين تزعم "حماس" أنها تمثلهم، وكاد يقضي على مشروع إدارة "حماس" للقطاع بصورة شبه كاملة تقريباً. وهذا يدفعنا إلى طرح سؤالين أساسيين: ما هي أهداف حماس، وما هي الاستراتيجية التي تستخدمها لتحقيق هذه الأهداف؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في هجومها الشنيع على إسرائيل في السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، سعت "حماس" إلى إعادة نفسها والقضية الفلسطينية إلى واجهة الأجندة الدولية، حتى لو كان ذلك على حساب تدمير جزء كبير من غزة نفسها. وكان الهدف من الهجوم أيضاً إحباط اتفاق تطبيع محتمل بين إسرائيل والسعودية من شأنه أن يدعم المعتدلين الفلسطينيين ويهمش "حماس".

لكن قادة "حماس" رسموا أيضاً أهدافاً سياسية قد تبدو للوهلة الأولى غير منطقية. إنهم يحاولون إعفاء أنفسهم من العبء المرتبط بكونهم السلطة الحاكمة الوحيدة في قطاع غزة، إذ أصبح ذلك يشكل عائقاً أمام قدرتهم على تحقيق هدفهم النهائي المتمثل في تدمير إسرائيل، إضافة إلى ذلك، فإن المحادثات التي يسرتها الصين في أوائل شهر مايو (أيار) بين مسؤولي "حماس" وفتح، تشير إلى أن قيادة "حماس" تحاول المسارعة في بدء عملية مصالحة مع فتح والسلطة الفلسطينية، التي تسيطر عليها فتح، على رغم سنوات العداء الشديد بين الحركتين.

وهذه الأهداف تخدم بدورها غرضاً أعمق. ففي سعيها إلى فرض بنية حكم جديدة على غزة وإعادة تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية على صورتها [لتتماشى مع أجندتها]، تأمل "حماس" في محاكاة نموذج "حزب الله" في القطاع. وعلى غرار "حزب الله،" الحركة الشيعية المدججة بالسلاح والمدعومة من إيران في لبنان، تريد "حماس" مستقبلاً تشكل فيه جزءاً من أي هيكل حكم فلسطيني قد ينشأ في غزة، وتحافظ في الوقت ذاته على درجة من الانفصال عنه. وبهذه الطريقة، كما هي الحال مع "حزب الله" في لبنان، تأمل "حماس" في فرض هيمنة سياسية وعسكرية على غزة وفي نهاية المطاف على الضفة الغربية من دون تحمل أي مسؤولية أو مساءلة تترتب على الحكم بمفردها. ولكي نفهم هذا المشروع الأكبر لـ"حماس" وتداعياته المهمة على إسرائيل والمنطقة، من الضروري أن ندرس نشوء "حماس" وتطورها في السنوات التي سبقت هجوم السابع من أكتوبر، وفهم ما كانت تأمل في تحقيقه من خلال قتل أعداد كبيرة من المدنيين الإسرائيليين واختطافهم.

تغيير المعادلة

بعد أربعة أيام من السابع من أكتوبر، اعترف أحد مسؤولي "حماس" علناً بأن الحركة كانت تخطط سراً للهجوم منذ أكثر من عامين. وبعد حرب قصيرة مع إسرائيل في مايو (أيار) 2021، أعاد قادة "حماس" تقييم أهدافهم الأساسية. وفي تلك المرحلة، كانوا قد حكموا قطاع غزة لمدة 14 عاماً، بعد أن استولوا على السيطرة الكاملة من السلطة الفلسطينية في عام 2007 أي بعد عامين من الانسحاب الإسرائيلي، وكان بإمكانهم اختيار الإبقاء على الوضع القائم. وعلى رغم المناوشات المتقطعة مع إسرائيل، حافظت "حماس" على وجود ثابت وقبضة قوية على السلطة في غزة، مدعومة بمساعدات بمئات الملايين من الدولارات من وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا) التابعة للأمم المتحدة، ومن أموال قطر لتغطية الرواتب العامة.

ولكن بعد وقت قصير من حرب 2021، قدم زعيم "حماس" في غزة، يحيى السنوار، لإسرائيل ما وصفه بمخرجين بديلين. وفي ظهور له على قناة "الجزيرة"، الشبكة الفضائية الممولة من قطر، أكد السنوار مواصلة هدف "حماس" المتمثل في "القضاء" على إسرائيل، لكنه أشار إلى استعداده للدخول في هدنة طويلة الأمد مع إسرائيل، بشرط موافقتها على قائمة طويلة من المطالب، بما في ذلك تفكيك جميع المستوطنات، وإطلاق سراح السجناء الفلسطينيين، والسماح للفلسطينيين بحق العودة. وقال إن أي هدنة من هذا القبيل ستكون موقتة وسيكون الدافع وراءها هو ضرورة تعزيز الوحدة بين الفصائل الفلسطينية، ما يعني على الأرجح دعم موقف "حماس" المتمثل في القضاء على إسرائيل في نهاية المطاف.

واستطرادا، تفاخر السنوار بأن "حماس" كانت على اتصال بالفعل مع "إخوانها في لبنان" (حزب الله) ومع الحرس الثوري الإسلامي الإيراني، وأشار إلى أن هؤلاء الحلفاء كانوا سيدعمون "حماس" في حرب 2021 لو اشتدت. وسرعان ما بدأت "حماس" تعقد اجتماعات منتظمة مع مسؤولين من إيران و"حزب الله". وبعد أربعة أشهر، رعت "حماس" أيضاً مؤتمراً في غزة استضافه السنوار نفسه، وكان مخصصاً لخطط "تحرير فلسطين" بمجرد "اختفاء" إسرائيل. ودعا المؤتمر إلى استبدال منظمة التحرير الفلسطينية بمجلس جديد لتحرير فلسطين يضم "جميع القوى الفلسطينية والعربية التي تؤيد فكرة تحرير فلسطين، بدعم من القوى الصديقة".

في الوقت نفسه، بدلاً من إعطاء الأولوية لمشروع الحكم في قطاع غزة، بدأت "حماس" سراً في تنفيذ خطة طويلة الأمد، لكنها كانت لا تزال خطة نظرية، لشن هجوم بري على إسرائيل والشروع في ما كانت تأمل أن يشكل سلسلة من ردود الفعل من شأنها أن تؤدي إلى تدمير إسرائيل. وتظاهر قادة الحركة بأنهم يركزون على حكم غزة وتلبية حاجات الفلسطينيين الذين يعيشون هناك، في حين أنهم كانوا في الواقع يخزنون الأسلحة الصغيرة، و"يستعدون لهذا الهجوم الكبير" وفق اعتراف مسؤول في "حماس" يدعى خليل الحية في وقت لاحق. وفي نهاية المطاف، بحسب ما قاله الحية، خلصت "حماس" إلى أنها في حاجة إلى "تغيير المعادلة برمتها" مع إسرائيل.

لحظة مصيرية

مع سير التخطيط لهجوم السابع من أكتوبر قدماً، أصبح قادة "حماس" مقتنعين بصورة متزايدة بضرورة اتخاذ إجراء حاسم. أولاً، بدا أن الدعم الذي تحظى به الحركة في غزة يتلاشى. في الواقع، كانت استراتيجية إسرائيل قبل السابع من أكتوبر تجاه "حماس" مبنية على شراء الهدوء من طريق السماح للأموال القطرية بالتدفق إلى غزة على أمل أن يؤدي ذلك إلى تقليل دعم سكان غزة لتطرف "حماس".

وعلى رغم كل الانتقادات التي واجهتها إسرائيل بسبب هذا النهج في الأشهر التي تلت هجوم حماس، فإن بعض الدلائل تشير إلى أنه كان ناجحاً. على سبيل المثال، كشف استطلاع للرأي أجراه "المركز الفلسطيني لاستطلاع الرأي" في يوليو (تموز) 2023، أن 72 في المئة من سكان غزة يوافقون على أن ""حماس" غير قادرة على تحسين حياة الفلسطينيين في غزة" وأن 70 في المئة يؤيدون اقتراح أن تتولى السلطة الفلسطينية، منافس حماس، مسؤولية الأمن في غزة. بالنظر إلى هذه الأرقام، لم يكن بوسع "حماس" إلا أن تستنتج أن مشروع الحكم في غزة كان متعثراً.

كانت "حماس" تعلم أن الرد الإسرائيلي سينهي مشروع توليها الحكم في غزة.

 

كان السعوديون يطالبون إسرائيل باتخاذ خطوات ملموسة ولا رجعة فيها نحو حل الدولتين، ويريدون من واشنطن أن تدخل في معاهدة أمنية رسمية مع الرياض. ربما رأى معظم الفلسطينيين أن التقدم نحو إقامة الدولة الفلسطينية كان أمراً إيجابياً، لكن "حماس"، التي كانت دائماً معارضة بشدة لحل الدولتين وملتزمة تدمير إسرائيل، اتخذت موقفاً مختلفاً، إضافة إلى ذلك، أدركت "حماس" أيضاً أنه في ظل حل الدولتين، من المتوقع أن يضيق الجانبان الخناق على المتطرفين العنيفين في كل من الدولتين، وهو أمر لا يشكل بشرى سارة بالنسبة إلى الحركة وحلفائها.

وفي الوقت نفسه، من المرجح أن "حماس" رأت فرصة ذهبية في عدم الاستقرار المتواصل في إسرائيل. فإلى جانب تصاعد العنف في الضفة الغربية والاشتباكات بين المصلين الفلسطينيين وقوات الأمن الإسرائيلية في المسجد الأقصى في القدس، كانت حكومة نتنياهو اليمينية تواجه الاحتجاجات طوال أشهر بسبب إصلاحاتها القضائية المقترحة. ومع تزايد التوترات في الضفة الغربية، المدفوعة جزئياً بجهود قادة "حماس" في الخارج، مثل صالح العاروري، الرامية إلى التحريض على شن هجمات ضد الإسرائيليين، نقلت قوات الدفاع الإسرائيلية مزيداً من الموارد إلى هناك، تاركة حدود غزة أكثر عرضة للخطر.

في خضم هذه التطورات، قررت "حماس" شن هجومها في السابع من أكتوبر. وبالعودة إلى مؤتمر السنوار عام 2021، الذي هدد فيه بالرد على إجراءات اعتبرتها "حماس" تقويضاً للمطالبات الفلسطينية بالقدس، أطلقت "حماس" على عملية السابع من أكتوبر اسم "طوفان الأقصى".

"نحن الذين في حاجة لهذه الدماء"

منذ بداية التخطيط لهجومها، توقعت "حماس" أن غزوها جنوب إسرائيل قد يجر تل أبيب إلى صراع أكبر، وهو صراع كانت تأمل أن يشارك فيه "حزب الله" وغيره من أعضاء "محور المقاومة" الإيراني بسرعة. وقد أصبح من الواضح الآن أن "حماس" أبقت التفاصيل الدقيقة لهجومها سرية، بما في ذلك التاريخ المحدد لشنه، لكن إيران وحزب الله كانا على علم بالفكرة الشاملة. علاوة على ذلك، خطط قادة "حماس" لاحتمال أن يحقق الهجوم نتائج أكبر، بما في ذلك السيناريو الذي ينضم فيه مقاتلو "حماس" المتمركزون في غزة إلى المقاتلين في الضفة الغربية ويكملون الهجوم الأولي من خلال استهداف المدن والقواعد العسكرية الإسرائيلية. ولتحقيق هذه الغاية، عندما خرج مقاتلو "حماس" من غزة في السابع من أكتوبر كانوا يحملون ما يكفي من الغذاء والعتاد للصمود لأيام عدة.

في نهاية المطاف، أحبطت القوات الإسرائيلية تلك الخطط الطموحة، ولكن قبل أن تتمكن من استعادة السيطرة على المناطق الحدودية المحيطة بغزة، ارتكب مهاجمو "حماس" فظائع مروعة، فقتلوا نحو 1200 إسرائيلي ومواطن أجنبي، واحتجزوا أكثر من 200 رهينة، وتعمدوا تصوير جرائمهم وبثها. حتى إن "حماس" استخدمت الهواتف المسروقة من أجل استخدام حسابات وسائل التواصل الاجتماعي وحسابات "واتساب" الخاصة بالضحايا، لبث الهجمات مباشرة، وتهديد عائلات الضحايا، والتحريض على ارتكاب مزيد من أعمال العنف. وفي وقت لاحق عثرت القوات الإسرائيلية على وثائق مع مهاجمي "حماس" المقتولين توجه لهم التعليمات بـ"قتل أكبر عدد ممكن من الأشخاص" و"احتجاز الرهائن"، وطلبت إحدى الوثائق من المهاجمين استهداف الأطفال في مدرسة ابتدائية ومركز للشباب.

ومن خلال تنسيق هذه الفوضى والمبالغة فيها [إضفاء الإثارة عليها]، سعت "حماس" إلى استفزاز إسرائيل ودفعها إلى شن غزو بري كبير على قطاع غزة. وكانت إحدى الركائز الأساسية لهذه الاستراتيجية هي بدء حرب تتسبب في سقوط أعداد كبيرة من الضحايا الفلسطينيين، بحسب ما أكده زعيم "حماس" السياسي في الدوحة إسماعيل هنية، بصراحة في خطاب مصور بعد أيام من السابع من أكتوبر، قال فيه "نحن الذين نحتاج هذه الدماء لكي توقظ فينا روح الثورة ولكي توقظ فينا العناد ولكي توقظ فينا التحدي والسير إلى الأمام".

ولم يكن من قبيل الصدفة أن تبني "حماس" أكثر من 300 ميل من الأنفاق في غزة لحماية مقاتليها، من دون أن تنشئ ملجأ واحداً لحماية المدنيين الفلسطينيين. لقد كانت "حماس" تعرف تمام المعرفة أن الرد الإسرائيلي سيؤدي إلى سقوط ضحايا من المدنيين الفلسطينيين، وأنه سينهي أيضاً مشروع تولي "حماس" الحكم في غزة، وهي مسؤولية كانت الحركة متلهفة للتنازل عنها.

نجاح كارثي

على رغم أن "حماس" وضعت تطلعات قصوى وعقدت آمالاً طموحة بالوصول إلى تل أبيب والتنسيق مع زملائها من المسلحين في الخليل، يبدو أن الحركة تفاجأت بالنجاح الأولي الذي حققته في السابع من أكتوبر. فعدد المقاتلين الذي تمكنت "حماس" من إدخاله إلى إسرائيل كان أكبر مما افترضت، إذ إنها توقعت أن قوات الأمن الإسرائيلية وأنظمتها ستتمكن من قتل واعتقال مزيد من المهاجمين على طول الحدود مقارنة بما فعلته. وتلا ذلك موجتان إضافيتان من المهاجمين مع انتشار الأخبار في غزة بأن "حماس" اخترقت السياج الحدودي. وقد ضمت المجموعة الأولى أعضاء جماعات إرهابية أخرى مثل حركة "الجهاد" الإسلامي الفلسطينية والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أما المجموعة الثانية فشملت سكان غزة غير المنتمين إلى أي حزب، فارتكب عدد منهم عمليات قتل وخطف وفظائع أخرى في المجتمعات الإسرائيلية القريبة من الحدود.

وفي حين أن الهجوم استمر من دون رادع لساعات عدة، واستغرق الأمر من القوات الإسرائيلية أياماً لإلقاء القبض على جميع المهاجمين أو قتلهم واستعادة السيطرة على الحدود، إلا أنه فشل في تحقيق عدة نتائج كانت "حماس" تتمنى تحقيقها. فإسرائيل، لم تشن على الفور حرباً برية في غزة، وهو السيناريو الذي اعتقدت "حماس" أنها ستحظى بأفضلية كبيرة فيه بفضل شبكة أنفاقها. وعوضاً عن ذلك، استغرقت إسرائيل بضعة أسابيع للتخطيط لردها الذي بدأ بهجوم جوي مدمر تلاه بعد أسابيع هجوم جوي وبري مشترك يهدف إلى القضاء على البنية التحتية العسكرية التي بنتها "حماس" داخل المجتمعات المدنية وتحتها.

إضافة إلى ذلك، لم يشن "حزب الله" وغيره من أعضاء محور المقاومة هجوماً واسع النطاق على إسرائيل. عندما نفذت إيران عملية كبيرة في أبريل (نيسان) رداً على ضربة إسرائيلية استهدفت قادة إيرانيين بارزين في سوريا، نجحت الدفاعات الجوية الإسرائيلية وحلفاؤها بصورة كبيرة في إحباط ما ثبت أنه عملية لمرة واحدة [وليس حملة مستمرة]. وكان "حزب الله" وإيران، أقوى حلفاء حماس، متلهفين للانضمام إلى القتال، ولكن لم يكن أي منهما يرغب في حرب واسعة النطاق.

باختصار، كانت الحرب بين إسرائيل و"حماس" مدمرة، لكنها لم تتسبب في إشعال حرب إقليمية تهدد وجود إسرائيل، و"حماس" لا تمانع ذلك في الوقت الراهن. فبالنسبة إلى الحركة، الصبر الاستراتيجي هو فضيلة، وعلى رغم أنها خططت لاحتمال تحقيق نجاح أكبر، فإن هدفها الأساس كان الشروع بعملية أطول لا يمكن إيقافها تؤدي في النهاية إلى تدمير إسرائيل. ولتحقيق ذلك، كان على "حماس" أن تتخلص من عبء حكم قطاع غزة، الذي استنتجت أنه لا يسهل هجماتها على إسرائيل بل يقوضها. وبعد تحررها من هذه المسؤولية، أصبح بوسع "حماس" الآن أن تتعهد "تكرار هجوم السابع من أكتوبر، مراراً وتكراراً، إلى أن تقضي على إسرائيل بالكامل".

نموذج "حزب الله"

عندما شنت "حماس" هجوم السابع من أكتوبر، قلبت الوضع القائم في غزة رأساً على عقب. لكن البديل الذي ترغب في تحقيقه لم يحظ باهتمام كبير. في الواقع، مع استمرار الجدل حول إدارة القطاع في مرحلة ما بعد الحرب، بدأت "حماس" في إرساء الأساس للتصالح مع منظمة التحرير الفلسطينية والسيطرة عليها في نهاية المطاف، وبذلك تضمن بأن تكون جزءاً من أي هيكل حكم قد ينشأ. ويذكر أن خليل الحية، مسؤول "حماس" الذي أوضح أن جماعته تريد تغيير المعادلة برمتها، اعترف، أخيراً، بهذه الخطة وطرح فكرة هدنة لمدة خمس سنوات مع إسرائيل على أساس خطوط وقف إطلاق النار الموضوعة قبل حرب عام 1967 وتشكيل حكومة فلسطينية موحدة تحكم الضفة الغربية وقطاع غزة. في الحقيقة، منذ ديسمبر (كانون الأول)، تدور اجتماعات بين كبار قادة "حماس" وفصائل فتح المعارضة لمحمود عباس، زعيم السلطة الفلسطينية الذي لا يحظى بشعبية كبيرة، لمناقشة مثل هذا التقارب. وفي 21 أبريل (نيسان)، اقترح هنية صراحة إعادة هيكلة منظمة التحرير الفلسطينية لتشمل جميع الفصائل الفلسطينية.

وبالنسبة إلى حركة إسلامية متشددة كثيراً ما رفضت السلطة الفلسطينية الأكثر اعتدالاً وعلمانية، فإن السعي إلى توحيد الجهود مع منظمة التحرير الفلسطينية قد يبدو مفاجئاً. ولكن الهدف الاستراتيجي الأكثر أهمية الذي يكمن وراء اندفاعة "حماس" الأخيرة يتمثل في محاكاة نموذج "حزب الله". في لبنان، يعد "حزب الله" شكلياً جزءاً من الدولة اللبنانية الضعيفة، مما يسمح له بالتأثير في السياسة والتمتع ببعض السيطرة في الأقل على الأموال الحكومية، ومع ذلك فهو يحافظ على استقلاليته الكاملة في إدارة قوته العسكرية الفعالة وقتال إسرائيل. وفي إطار ترتيب جديد في غزة والضفة الغربية، تأمل "حماس" في ممارسة نفس النفوذ والاستقلال مع حركتها وميليشياتها الخاصة، فلا تكون مرهونة بأي حكومة أو خاضعة لسيطرتها.

أرست "حماس" الأساس للتصالح مع منظمة التحرير الفلسطينية والسيطرة عليها في نهاية المطاف.

 

في الواقع، كان قادة "حماس" في غزة يتطلعون إلى "حزب الله" طلباً للإرشاد أثناء تخطيطهم لهجوم السابع من أكتوبر الذي انبثق بصورة مباشرة من كتاب قواعد لعبة الحزب. وعلى رغم أن قيادة "حماس" الخارجية في قطر وتركيا ولبنان كانت مهتمة أكثر بإنهاء الحرب، فإن السنوار، الذي يحمل معظم الأوراق [يتمتع بنفوذ كبير] بفضل وجوده على الأرض في غزة وسيطرته على الرهائن الإسرائيليين، يركز اهتمامه على تحمل ضربات إسرائيل والبقاء على قيد الحياة وإعلان "النصر الإلهي". ومن الواضح أنه يستمد الإلهام من حرب عام 2006 مع إسرائيل، التي أصبح فيها "حزب الله" أول قوة عسكرية عربية لم يتمكن الجيش الإسرائيلي من تدميرها على رغم من تكبدها خسائر فادحة، ونتيجة لذلك تمكن الحزب من تحسين مكانته الإقليمية. ووفق حسابات السنوار، فإن نجاته من الهجوم العسكري الإسرائيلي، من شأنها أن تعزز فرصه لتولي منصب رفيع في الحكومة الفلسطينية المستقبلية.

بطبيعة الحال، فإن احتمال حصول السنوار في المستقبل على مقعد في حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية هو فكرة منافية للعقل، وليس فقط بسبب الفظائع التي ارتكبتها "حماس" في السابع من أكتوبر. ففي نهاية المطاف، باعتبارها عدواً لدوداً قديماً لفتح والسلطة الفلسطينية، سيطرت "حماس" على قطاع غزة بالقوة المسلحة عام 2007 بعد حرب أهلية مع فتح. علاوة على ذلك، رفضت إدارة بايدن صراحة أي هيكل حكم بعد الحرب يشمل "حماس". ولكن من دون بذل جهود متضافرة لتفكيك بنيتها التحتية السياسية في غزة بصورة كاملة وإنشاء البدائل، قد تنجح "حماس" في جعل نفسها واحدة من بين عدة أطراف مشاركة في الحكم عندما يتوقف القتال.

وإذا حدث ذلك فقد تتبنى "حماس" جوانب أخرى من نهج "حزب الله". فمثلما استخدم "حزب الله" ملاذه في لبنان كقاعدة لشن هجمات عبر الحدود على إسرائيل وتنسيق مؤامرات إرهابية ضد الإسرائيليين واليهود في جميع أنحاء العالم، تستطيع "حماس" توسيع عملياتها العسكرية إلى ما وراء حدود إسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزة وتنفيذ هجمات إرهابية في الخارج يمكن أن تنكر القيام بها بشكل قابل للتصديق. حتى الآن، لم تنفذ "حماس" أي هجوم إرهابي دولي، على رغم أنها كادت تفعل ذلك في مناسبات عدة. ولكن منذ السابع من أكتوبر، كشفت وكالات الاستخبارات الأوروبية عن مخططات "حماس" في ألمانيا والسويد، فضلاً عن عمليات لوجيستية في بلغاريا والدنمارك وهولندا.

منع تحقيق انتصار ما بعد الحرب

على رغم إعلان "حماس" المتأخر في أوائل مايو (أيار) أنها قد توافق على صيغة محتملة من صفقة الرهائن مقابل السجناء، فإن مسؤولي إدارة بايدن كثيراً ما ألقوا مسؤولية إطالة أمد الحرب على قيادة "حماس" لأنها لم تطلق سراح الرهائن الإسرائيليين ولم تلق سلاحها. وهم ليسوا الوحيدين الذين يضعون اللوم عليها. في الواقع، هناك دلائل تشير إلى أن سكان غزة أنفسهم، الذين أصبحوا يائسين بصورة متزايدة بعد ما يقارب سبعة أشهر من الحرب المدمرة، بدأ صبرهم ينفد تجاه الحركة وفشلها في اتخاذ خطوات لحمايتهم من انتقام إسرائيل التي تعمدت "حماس" استفزازها. قال أحد سكان غزة لصحيفة "فايننشال" تايمز في أبريل: "أنا أصلي كل يوم من أجل موت السنوار". وتشير استطلاعات الرأي التي أجراها المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية إلى أن شعبية "حماس" انخفضت خلال الأشهر الثلاثة الماضية بنحو الربع، من 43 في المئة إلى 34 في المئة. وأخيراً، صرح صحافي مستقل في غزة لصحيفة "واشنطن بوست" "كل من حولي تقريباً يتشاركون الأفكار نفسها. نريد أن يتوقف شلال الدماء هذا".

من المؤكد أن قادة "حماس"، الذين يحتمون في أنفاقهم تحت الأرض، يدركون أن المدنيين الذين تركوهم من دون حماية فوق الأرض يشعرون بالغضب المتزايد تجاه الحركة، وهو ما قد يفسر النبرة الأكثر اعتدالاً في بعض التصريحات التي أطلقها قادة الحركة أخيراً. لكنهم يشعرون بالقلق من الموافقة على أي عملية تبادل للرهائن مقابل السجناء غير مصحوبة بوقف كامل لإطلاق النار وإنقاذ ما تبقى من كتائب "حماس" في رفح. وفي الواقع، من المرجح أن الأرقام الاستطلاعية السيئة تسلط الضوء على أهمية تأمين موقع داخل الهيكل الحكومي المستقبلي، وهو هيكل لن تكون فيه "حماس" الجهة الوحيدة التي تحكم غزة، بالتالي لن تكون هي الملامة عندما تسوء الأمور. وتدرك "حماس" أنها بعد إطلاق سراح الرهائن المتبقين، فإن أفضل وسيلة ضغط لديها هي كوادرها القتالية المتبقية.

لذا، فمن وجهة نظر "حماس"، يتعين عليها أولاً أن تحقق نصراً شبيهاً بنصر "حزب الله"، وذلك ببساطة من خلال الصمود. بعد ذلك، يجب عليها أن تتبنى نموذج "حزب الله" في علاقتها بهيكل الحكم الذي سينشأ بعد الحرب، أي الانضمام إلى منظمة التحرير الفلسطينية وإعادة تشكيل الحركة الفلسطينية من الداخل، مع الحفاظ على استقلالها كقوة مقاتلة. بالنسبة إلى "حماس" فإن هذا يشكل عودة إلى المبادئ الأساسية التي تخولها تحقيق التزامها الأساس بتدمير إسرائيل واستبدالها بدولة فلسطينية إسلامية في جميع أنحاء ما تعتبره فلسطين التاريخية.

ولإحباط هذه الخطة قبل أن تنفذ، سيكون من الأهمية بمكان ما بالنسبة إلى إسرائيل والولايات المتحدة وحلفائهم العرب والغربيين إبقاء "حماس" خارج أي بنية حكم فلسطينية مستقبلية. وإذا لم يفعلوا ذلك، من الممكن أن تتمكن "حماس" قريباً من خلق وضع أكثر خطورة وزعزعة للاستقرار من الظروف التي سمحت بشن هجوم السابع من أكتوبر. وتكمن الخطورة في حقيقة أن كل من "حماس" و"حزب الله" يؤمن حقاً في أن تدمير إسرائيل هو أمر لا مفر منه، وأن السابع من أكتوبر هو مجرد البداية لعملية لا رجعة فيها نحو تحقيق ذلك الهدف على وجه التحديد. ويتعين على كل من يؤيد حقاً فكرة التوصل إلى تسوية دائمة لهذا الصراع أن يعارض إشراك "حماس" في الحكم الفلسطيني لسبب بسيط وهو أن أهدافها الأساسية لا تتوافق مع السلام.

*ماثيو ليفيت، باحث في "فرومير – ويكسلير" (Fromer-Wexler) مدير برنامج "راينهارد بروغرام" (Reinhard Program) لمكافحة الإرهاب والتجسس في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى. وهو مؤلف كتاب "حزب الله: البصمات الدولية لحزب الله اللبناني" (Hezbollah: The Global Footprint of Lebanon"s Party of God). 

مترجم من فورين أفيرز، 10 مايو (أيار) 2024.

اقرأ المزيد

المزيد من آراء