ملخص
لم يكن غريباً أن يقوم نائب وزير الدفاع الروسي يونس بك يفكوروف بزيارة شملت كلاً من ليبيا وتشاد ومالي والنيجر، وهو الذي اختارته القيادة الروسية لتحمل أعباء تشكيل الفيلق الأفريقي الذي غدا بديلاً لما كان يسمى مجموعة "فاغنر" بعد الإعلان عن حلها في أعقاب مصرع زعيمها يفغيني بريغوجين.
عادت مجموعة "فاغنر" لسابق مواقعها القتالية تحت أسماء مغايرة، وعاد جنودها بعد مصرع زعيمهم يفغيني بريغوجين في حادثة انفجار طائرته في أغسطس (أب) من العام الماضي، للانضواء تحت رايات وزارة الدفاع الروسية، وليتفرقوا بين صفوف المقاتلين في منطقة "العمليات العسكرية الخاصة" من جانب، والعمل بين صفوف القوات المسلحة في بيلاروس من جانب آخر، فيما انتشر 3 آلاف منهم لمواصلة نشاطهم ضمن مقاتلي الفصيل الشيشاني "أخمات"، نسبة إلى الزعيم الشيشاني الراحل أحمد قديروف، والد الرئيس الشيشاني الحالي رمضان قديروف.
غير أن هناك فريقاً رابعاً جرى إرساله إلى القارة الأفريقية تحت اسم مغاير، وهو "الفيلق الأفريقي- الروسي"، ليواصل مهماته الموكلة إليه تحت إشراف مباشر من نائب وزير الدفاع الروسي الإنغوشي الأصل يونس بك يفكوروف، وهناك من يقول إن بعضاً من مقاتلي "فاغنر" يعملون اليوم أيضاً ضمن وحدات "الحرس الوطني" الروسي التي تقاتل تحت إشراف القيادة العامة "للعملية العسكرية الخاصة" في أوكرانيا.
ظهور "الفيلق الأفريقي"
تجدد الحديث أخيراً عن نشاط ما يسمى "الفيلق الأفريقي" في عدد من بلدان القارة الأفريقية ومنها ليبيا والسودان وتشاد ومالي والنيجر، وكانت وزارة الدفاع الروسية شكلت هذا التنظيم القتالي "الجديد – القديم"، ليحل محل وحدات "فاغنر" التي كانت تمارس نشاطها في القارة الأفريقية، ومن المقرر أن يكتمل إنشاء الهيكل بحلول صيف العام الحالي في خمس من بلدان القارة، بحسب ما كتبت صحيفة "فيدوموستي"، نقلاً عن مصادر قريبة من وزارة الدفاع التي نجحت في تقنين وجود هذه المجموعات القتالية ووضعها تحت إشرافها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وثمة من يربط بين ظهور "الفيلق الأفريقي" في عدد من بلدان القارة الأفريقية، بخاصة في مالي والنيجر، وما يتردد في الأوساط الغربية حول تحقيق روسيا لعدد من نجاحاتها الجديدة داخل القارة الأفريقية بمواجهة النفوذ الفرنسي السابق في هذين البلدين.
وكانت الدوائر الغربية رصدت ظهور "جنود الفيلق الأفريقي" في النيجر في أبريل (نيسان) الماضي بعد وصول المجلس العسكري الذي انقلب على السلطة السابقة في يوليو (تموز) 2023، وبادر بإعلان طلبه من فرنسا حول ضرورة سحب وحداتها العسكرية، فضلاً عن اتخاذه قرار "إنهاء الوجود العسكري الأميركي" هناك. وكانت الخارجية الأميركية وافقت في الـ20 من أبريل 2023 على انسحاب زهاء ألف من جنودها، إلا أنها لا تزال تبقي على قواعدها العسكرية هناك.
النيجر وتنويع علاقاتها الخارجية
وننقل عن خبراء المركز البولندي للدراسات الشرقية في وارسو ما صدر عنهم من تصريحات تقول إنه "على رغم أن الجنود الروس وصلوا رسمياً إلى النيجر كمدربين، إلا أنهم في الواقع سيسهمون في توسيع نفوذ الكرملين في القارة الأفريقية"، وأضافوا أنهم "على يقين من انتماء هؤلاء الجنود إلى ’الفيلق الأفريقي‘ في إطار مهمات تتعلق بتعزيز العلاقات اللوجستية بين ليبيا ودول الساحل، وجمهورية أفريقيا الوسطى، حيث يعمل زملاؤهم هناك".
وجاءت هذه التصريحات بعد وصول أول وفد من النيجر إلى موسكو مطلع العام الحالي، وهي تصريحات تحمل في طياتها ما يبدو على طرفي نقيض مما نشرته وكالة أنباء "تاس" الرسمية حول أول زيارة يقوم بها رئيس وزراء النيجر الجديد علي لامين زين لموسكو بعد انقلابه على النظام السابق.
وقالت الوكالة الرسمية الروسية وقتها إن "رئيس الوزراء الجديد وكل أعضاء المجلس العسكري اختاروا روسيا لأول زيارة يقومون بها إلى الخارج. ولم يكن ذلك من قبيل الصدفة نظراً إلى أن الاتحاد السوفياتي كان شريكاً اقتصادياً وعسكرياً مهماً للنيجر، كما كانت الحال بالنسبة إلى عدد من البلدان الأفريقية"، وتوقفت وكالة "تاس" عند تحول النيجر إلى كل من فرنسا والولايات المتحدة في تسعينيات القرن الماضي، أي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، وهي تلك الفترة التي هبط فيها مستوى إنتاج البلاد من اليورانيوم والنفط والمعادن، وكذلك تراجع مستوى مكافحة الإرهاب في المنطقة، على رغم وجود وحدات عسكرية فرنسية وأميركية وأوروبية في النيجر أثناء تلك الفترة.
وأشارت الوكالة إلى انتزاع الجيش للسلطة في النيجر، في وقت مواكب لانعقاد القمة الروسية- الأفريقية الثانية في سان بطرسبورغ التي رفعت آنذاك كثيراً من شعارات "إنهاء الاستعمار والنضال من أجل الحرية"، فضلاً عما أشارت إليه حول العلاقات السابقة التي كانت تربط النيجر بفرنسا، وما طالبت به حول رحيل القوات الفرنسية والسفير الفرنسي من النيجر، إلى جانب مراجعة كل الاتفاقات التي تربطها مع كل من فرنسا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
للولايات المتحدة نصيب
على أن ذلك لم يكُن القول الفصل بالنسبة إلى علاقات النيجر مع الخارج، حيث عاد ممثلوها لإعلان انفتاحهم على الولايات المتحدة وغيرها من البلدان الغربية، وقال لامين زين إن "سيادتنا تعني الاختيار الحر للشركاء بين البلدان القادرة على ضمان السلام في المنطقة. ونطلب من الجميع احترام اختيارنا"، مضيفاً أنه "قررنا الانفتاح على التعاون مع جميع البلدان المهتمة بالسلام"، ومؤكداً أن نيامي لا تتوقف عن التعاون مع الولايات المتحدة كشريك طويل الأمد وأن "الجيش الأميركي سيكون سعيداً دائماً في النيجر، لكن يجب أن يشيروا بوضوح إلى أهدافهم من أجل البقاء في البلاد. كما أننا في الواقع، لم نتخذ قرار إغلاق القاعدة العسكرية الأميركية في النيجر، على عكس فرنسا، ويستمر التعاون العسكري مع ألمانيا أيضاً".
وننقل عن وكالة "تاس" أيضاً ما قاله الزعيم النيجري حول أن "النيجر لن تعتمد من الآن فصاعداً على شريك واحد، لكنها ستنوع التعاون في جميع المجالات، وتركز على كل من الولايات المتحدة وروسيا والصين وبلدان أخرى".
وعلى رغم ما يشوب تصريحات رئيس وزراء النيجر من تناقضات، فإن ما شهدته البلاد من وضوح في اختياراتها يتمثل في ظهور الأعلام الروسية أثناء التظاهرات الجماهيرية التي شهدتها العاصمة نيامي في يوليو من العام الماضي، وترديد الشعارات المؤيدة لروسيا، فضلاً عما أدلى به من تصريحات خلال زيارة العاصمة موسكو، تعني بوضوح لا مراء فيه أن النيجر، وعلى رغم كل ذلك تظل أقرب في خياراتها إلى روسيا والصين، وإن وضعت الولايات المتحدة على رأس قائمة من تنشد التعاون معهم، فهناك مراقبون كثر يقولون إن "خيار النيجر واضح ولا مراء فيه"، على اعتبار "صعوبة السير على حد سيف، لا يحتمل نصله بقاء موسكو وواشنطن جنباً إلى جنب".
لماذا مالي وتشاد وليبيا؟
لم يكُن غريباً أن يقوم نائب وزير الدفاع الروسي يونس بك يفكوروف بزيارة شملت كلاً من ليبيا وتشاد ومالي والنيجر، وهو الذي اختارته القيادة الروسية لتحمل أعباء تشكيل الفيلق الأفريقي الذي غدا بديلاً لما كان يسمى مجموعة "فاغنر" بعد الإعلان عن حلها في أعقاب مصرع زعيمها بريغوجين، وكانت القضايا الأمنية في صدر أولويات هذه الزيارات التي جرت مع المشير خليفة حفتر في ليبيا ومع القيادات العسكرية في كل من مالي وتشاد.
غير أن القضايا الاقتصادية التي تهم روسيا لم تكُن أيضاً بعيدة من الحسبان بما لها من مكاسب مادية وأهمية استراتيجية لكل الأطراف المعنية. ففي النيجر وإضافة إلى اليورانيوم، هناك الذهب والنفط. وتشمل المشاريع التي تعمل روسيا على تقديمها للنيجر، "مصافي النفط وتصنيع رواسب الفوسفات التي يمكن إنتاج الأسمدة منها، فضلاً عما تطرحه ’روس أتوم- مؤسسة الطاقة النووية الروسية‘ من مشاريع لبناء بنية تحتية جديدة لتعدين اليورانيوم وتجهيزه"، بحسب المصادر الروسية، إلى جانب تعزيز التعاون العسكري ومكافحة الإرهاب بين روسيا والأطراف الأفريقية المعنية.
وقالت المصادر الروسية إن الهدف من تحركات موسكو في القارة الأفريقية، وفي مقدمتها ما يقوم به الجنرال يفكوروف وتأسيسه للفيلق الأفريقي، يتمثل في "إنشاء نوع جديد من التفاعل مع الدول الأفريقية، حيث كان الدعم العسكري السياسي يقدم سابقاً من خلال الشركات العسكرية الخاصة" في إشارة إلى نشاط "فاغنر" السابق في هذه البقاع.
وفي هذا الصدد أشار الباحث في معهد الدراسات الشرقية التابع لأكاديمية العلوم الروسية غريغوري لوكيانوف إلى أن "السمة المميزة لنظام الإدارة المحلية هي البيروقراطية المفرطة. ومع ذلك، بمجرد أن يبدأ العمل، يكون من الصعب جداً إيقافه، نظراً إلى أن إجراءات التفاعل تتم تلقائياً".
ويضيف أن "الطبيعة العسكرية لحكومات هذه البلدان الثلاثة تجعل من الصعب عليها التفاعل مع المؤسسات المدنية في الدول الأخرى، بما في ذلك وزارة الخارجية، لذا فإن الاتصال الشخصي بين نائب وزير الدفاع الروسي وزملائه الأفارقة أمر ضروري، إلى جانب تعقد الأوضاع في هذه المناطق وتكثيف المنظمات الإرهابية لنشاطها العابر للحدود، مما يستدعي ضرورة تعزيز التعاون العسكري وإمداد بلدان منطقة الساحل بحاجتها من الأسلحة الخفيفة والمركبات والطائرات من دون طيار.
وأشار لوكيانوف إلى أن "موسكو لا تنتج في الوقت الحالي هذه الأسلحة بالكمية المطلوبة لتلبية الطلبات الأفريقية، إلا أنه من الممكن لصناعة الدفاع الروسية توفير مجموعة واسعة من المنتجات في المستقبل القريب، لا بد من أن تحظى بثقة وتقدير الجيوش الأفريقية".