ملخص
اعتقل مطرب "الراب" الإيراني توماج صالحي في طهران بعدما طرح أغنية بعنوان "بيشاك" تدعو أتباعه ممن يؤمنون بأفكار الحرية إلى التعبير عن أنفسهم بعد مقتل مهسا أميني فيما تعرض "الرابر" المغربي سيمو الكمناوي للسجن لمدة عام عقاباً له على أغنية بثها بصحبة زميليه ولد الكرية ويحيى السملالي اسمها "عاش الشعب" انتقدوا فيها تردي أوضاع بالبلاد.
فن الكلام العادي الذي يصف الأشياء بتسمياتها دون مواربة ولا حليات مغرقة في الاستعارات المبالغ بها، إذ لا غضاضة من التمجيد في داء جنون العظمة وكيل السخرية والازدراء للمختلفين، عبارات تتسع لجميع الأيديولوجيات بكل تعقيداتها، وبمزيج هائل من الهجاء للخصوم وأتباعهم، انتقاد لما هو شخصي واجتماعي وسياسي قبل كل شيء.
لا يوجد فن غنائي يتسع لكل تلك المساحات سوى "الراب" الذي مثلما هو صوت الثوار والمحتجين والمعارضين للأنظمة يعد كذلك فن الهامش، ويجد محبو الطرب الكلاسيكي صعوبة كبيرة في التطبيع معه والاعتراف به، ومن هنا خضع نجومه للمطاردة مراراً من قبل السلطات وحتى من قبل أهل الغناء أنفسهم.
وفيما اعتبره مرشح الرئاسة الفرنسية السابق إريك زمور فناً وضيعاً يليق بالأميين وغير المتعلمين حاول الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون استمالة المهووسين بـ"الراب"، إذ ذكر في أحد مؤتمراته الانتخابية مقطعاً من أغنية "راب" فرنسية، مما بدا وكأنه محاولة ترضية واستقطاب للأصوات الرافضة لكراهية الجناح اليميني لرواد هذا الفن في فرنسا، إذ وصل الأمر بينهما إلى سجالات قضائية وتراشق لفظي قاسٍ.
وإن كان "الراب" كفن توطد وترسخ بين سكان الضواحي في فرنسا، بالتالي هو يلقى نفوراً ممن يتخذون موقفاً سياسياً ناحية هذه الفئة هناك، ولكن بدايته الحقيقية كانت في سبعينيات القرن الماضي في أحياء مدينة نيويورك الأميركية الفقيرة على يد الأميركيين ذوي الأصول الأفريقية، إذ كان إحدى طرق التعبير عن الغضب وتفجير الطاقة وانتقاد الأوضاع المذرية التي يعيشها السكان، لا سيما في حي برونكس الشهير، وجنباً إلى جنب مع تزايد سلطات العصابات التي تجند الشباب للعمل في تجارة الممنوعات بأنواعها وفي إنتاج العنف، كان يتنامى الـ"هيب هوب" بفروعه، وبينها رقص الشارع "البريك دانسنغ" و"الراب" (Rap) الذي بدا كإلقاء يحافظ قافية محددة ويتلاعب بالألفاظ بحيث تعبر عن معاني قريبة وبعيدة دون إفساد للعبارة، كما أنه يطلق عليه كذلك أسلوب "الرايمنج"، أي السجع بين الجمل.
وربما لأنه نشأ في أحضان كيانات خارجة عن القانون كان دوماً محفوفاً بالخروج عن النص وتجاوز الخطوط الحمراء، فلم يكن "الراب" فناً مسالماً أبداً، لا سيما في بدايته، إذ حدثت مناوشات كثيرة بين رواده الذين تحولوا إلى فرق معادية، ووصل الأمر إلى استعمال العنف لإدارة خلافاتهم، كما تساقط ضحايا كثر، فالمغنون مملوؤن دوماً بطاقة من الغضب، ولذا لا يصنف "الراب" على أنه فن أليف أبداً على رغم المحاولات الدؤوبة لترويضه، إذ يستمد قوته من الحماسة والشجاعة وقوة التعبير وصرامته، الذي يزج بنجومه خلف الأسوار ويجعلهم مطاردين، وربما أحدثهم هنا توماج صالحي مغني "الراب" الإيراني صاحب الـ33 سنة الذي كان نزيلاً خلال السنوات الأخيرة في سجون بلاده أكثر من مرة، ولكن أخيراً أصبح محكوماً عليه بالإعدام بتهمة الغناء!
الغناء يقود إلى الإعدام أحياناً!
توماج صالحي الذي يتابعه أكثر من مليونين ونصف المليون متابع على "إنستغرام" متهم بحسب السلطات الإيرانية بـ"الفساد على الأرض" بعدما بث مقطعاً تحدث فيه عن ظروف اعتقاله السيئة على مدى أكثر من عام قضى معظمه في الحبس الانفرادي ومعلناً عن تعرضه للتعذيب هو ورفاقه.
وكان صالحي من أشهر مؤيدي الاحتجاجات التي طاولت البلدات الإيرانية عقب وفاة الشابة مهسا أميني على يد شرطة الأخلاق بحجة عدم التزامها شروط الحجاب الشرعي من وجهة نظرهم، وذلك قبل عامين، وقد طرح توماج أغنية بعنوان "بيشاك" تدعو أتباعه ممن يؤمنون بأفكار الحرية للتعبير عن أنفسهم، وذلك بالاشتراك مع زميلته مغنية "الراب" الإيرانية التي تعيش بالسويد جوستينا، ومما جاء فيها "نحن طائر الفينيق الذي سيولد من الرماد من جديد، نحن النار التي ستخرج من الجليد".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حظيت قضية صالحي باهتمام دولي بالغ، إذ أبدى ممثلو دول عدة قلقهم من وصول الوضع إلى تلك الدرجة، داعين السلطات في إيران إلى ضرورة الإفراج عنه، وبينهم أعضاء في البرلمان الألماني، إذ إن الرغبة في إسكات أي صوت معارض تجاوزت هذه المرة أفكار مثل الاعتقال وحتى التعذيب إلى الإعدام، مما صدم الرأي العام الدولي.
وأصدر خبراء بالأمم المتحدة بياناً قالوا فيه "إن انتقاد سياسة الحكومة، بما في ذلك التعبير الفني، محمي بموجب الحق في حرية التعبير والمشاركة في الحياة الثقافية، ويجب عدم تجريمه، والسماح للفن بالانتقاد في أي مجتمع"، معترفين بقسوة كلمات أغنية صالحي التي تعارض الحكومة، ولكنهم أيضاً اعتبروها مظهراً أساساً من مظاهر الحرية الثقافية، فيما ذاق توما صالحي نفسه مرارة السجن الإيراني مراراً حتى قبل أزمة مهسا أميني، بل إنه اعتقل في إحدى المرات بسبب ارتدائه قميصاً يحمل علامة الدولار الأميركي.
"رابرز" في المنفى
ومنح عديد من المؤسسات الدولية المعنية بالفن وبحرية التعبير ألقاباً وجوائز شرفية لصالحي من بينها "غلوبال ميوزيك أوردز" التي كرمت اسمه عن أغنية تحدث فيها عن مستقبل النظام الإيراني تحمل عنوان "التنبؤ" فيما حصل على لقب "المواطن الفخري" من مدينة فلورنسا الإيطالية لجرأته في انتقاد النظام الإيراني، ولكن ذلك من بعد إذ يصر الشاب على ممارسة نشاطه كفنان معارض وهو في معقل مهاجميه.
وفضل زملاؤه من نجوم "الراب" الإيرانيين مغادرة البلاد والاستقرار في دول أخرى ومعارضة السلطة في وضع أكثر أمناً غير قلقين فيه على أرواحهم أو أرواح ذويهم، وبينهم هشكاش أو سوروش لشكاري الذي استقر في بريطانيا قبل نحو 15 عاماً، وذلك بعد ملاحقته نظراً إلى جرأة الموضوعات التي يناقشها في أغنياته التي يحمل بعضها أسئلة وجودية وأخرى ذات طابع سياسي تتحدث عن انتشار الفقر.
أما غوغا فقد كانت من أولى المغنيات الإيرانيات التي اقتحمن عالم "الراب" قبل نحو ربع قرن، وهي مستقرة بالسويد منذ 2010 هرباً من حملة اعتقالات قامت بها الحكومة استهدفت الاستوديوهات التي تسجل أغنيات معارضة وكانت على وشك أن تكون إحدى الضحايا.
"الرابرز" المنفيون بفعل السياسية أيضاً كثير منهم من الأكراد، إذ يعيش عدد منهم ما بين الدنمارك وألمانيا والسويد يحاولون إرسال صوتهم عبر أغنياتهم مذكرين العالم بممارسات النظام السوري ضد شعبهم، وبينهم بريندار هاسو وغوهدار كردي وآزاد.
صدامات دائمة مع الشرطة
وعلى رغم الانفتاح الكبير في مجال الانتقاد السياسي في فرنسا باعتبارها دولة أوروبية عريقة في الديمقراطية وتتغنى بالحريات وتتباهى بمساحات التسامح لديها، فإن هناك من يضيق ذرعاً بأغنيات "الراب" التي تنتج عادة في ضواحي المدن الكبيرة هناك، وهي تعد المكان الأكثر احتفاء بفن "الراب" بعد الولايات المتحدة الأميركية، إذ عرف طريقه إلى شبابها في ثمانينيات القرن الماضي، ومنذ اليوم الأول كان الطريقة المفضلة للتعبير عن الهموم السياسية والاجتماعية بطريقة لاذعة، حتى إنه في 1995 ربحت الشرطة الفرنسية قضية ضد فرقة "الراب" "أن تي أم" بعد إصدارهم أغنية تسخر من الشرطة والنظام الأمني في تعامله مع المشتبه فيهم بصورة عامة.
كما أن الصراع الدائم بين اليمين الفرنسي وسكان الضواحي الذين يتحدرون عادة من عرقيات ملونة كان "الراب" أحد أبرز مظاهره، ولكن مع ذلك تغلغل بقوة في الثقافة، ولا سيما بين الشباب، مما جعل صفحات الاتحاد الفرنسي لكرة القدم عبر مواقع التواصل الاجتماعي تنشر تدوينة حول مشاركة اللاعبين في كأس العالم لكرة القدم 2022 مصحوبة بمقطع غنائي لـ"الرابر" يوسوفا، وهو التصرف الذي أثار حفيظة رجال السياسة ومناهضي رسائل "الراب" الأيديولوجية الزاعقة، وبينهم الناشط جوردان بارديل الذي شغل مناصب عدة في حزب "التجمع الوطني" الذي أبدى صدمته من هذا الاختيار، مشيراً إلى أن يوسوفا يقدم أغنيات تدعو صراحة إلى العنف، كما سار على خطاه كثر غيره، كما اتهم بعض الوزراء في الحكومة الفرنسية في 2021 مغني "الراب" مدين بأنه يؤيد المجازر ضد أصحاب التوجهات العلمانية.
إنه فن إزعاج السلطات وإزعاج مناصري الطرب الكلاسيكي التقليدي على السواء، ويفضل متخصص النقد الموسيقي بالمعهد العالي للنقد الفني بأكاديمية الفنون أشرف عبدالرحمن أن يطلق عليه تعبير شعر منغم وليس غناء بالمعنى المعتاد، مشيراً إلى أنه بالفعل يليق بصورة أكبر بالتعبير عن الموقف السياسي وليس التطريب، نظراً إلى أن به حرية انطلاق للكلمة بسبب اعتماده على الشعر أولاً وليس الجملة اللحنيىة، مذكراً ببدايات "الراب" كفن متمرد بطبيعته.
وأكد عبدالرحمن أنه يصنف على أنه فن جديد نسبياً بالولايات المتحدة الأميركية نفسها، إذ نشأ قبيل نهاية القرن الـ20 بنحو 30 عاماً تقريباً فحسب.
وأضاف الأكاديمي بالمعهد العالي للنقد الفني أنه "الراب" شكل ظاهرة مناوئة للسلطات بقوة، وتمثل هذا على سبيل المثال في فرقة "أن دبليو أي"، إذ كانت ظاهرة قوية في التعبير عن الاحتجاجات السياسية، وحدثت مواجهات واحتكاكات كثيرة بين الشرطة وتلك الفرقة وجمهورها بحجة أن أغنياتها تحريضية وتبث رسائل سياسية تثير التوترات والعنف.
وأشار عبدالرحمن إلى أنه حتى من لا يجيد الغناء فيمكنه أن يكون مؤدياً للراب، نظراً إلى أنه يتناول قضايا أكثر تنوعاً، لكنه يشدد مع ذلك على أن له قواعد في الكتابة والقافية، وفي بعض الأوقات يكون هناك أربع قوافٍ مختلفة ويتم التنويع بينها، فله أسلوب ومنهج ومصطلحات وقواعد خاصة به ينبغي التزامها.
السجن بتهمة "الراب"
بالعودة لفرقة (N-W-A) فقد أقلقت السلطات لنحو خمس سنوات نظراً إلى أنها صنفت كفرقة "راب" تابعة للعصابات، واتسمت كلمات أغنياتها بالجرأة والمباشر والصراحة، والحض على العنف، وعلى رغم انفصال أعضائها بعد أعوام قليلة ولكنها ظلت حاضرة في الأذهان، نظراً لأنها كانت تحكي من دون تنميق عن انتهاكات تعامل رجال الشرطة مع أصحاب البشرة السمراء بالولايات المتحدة، إذ كان لديهم رسالة سياسية محددة تتعلق بمعاناتهم العنصرية.
ومع أن "الراب" ينظر إليه على أنه فن انتقادي عنيف لفظياً مما قد يولد معه عنف جسدي أيضاً، وهو الأمر الذي كان يتوافق حينها مع الأوضاع التي نشأ فيها، ولكنه تدريجاً أصبح ابن بيئته مع الحفاظ على نكهة الكلمات اللاذعة ذاتها، بالتالي فوفقاً للأوضاع تأتي القصص والمواضيع، حتى إنه يبدو أليفاً ومستأنساً في أوقات كثيرة ويكتفي بالموضوعات المعتادة، ولكن مع ذلك يظهر نجومه من حين لآخر إخلاصهم لطبيعته الأصلية، ومن هنا تتزايد الاحتكاكات بين مطربي "الراب" الذين يحققون شهرتهم وتوهجهم عادة بعيداً من المؤسسات الرسمية.
وحكمت إحدى المحاكم المغربية قبل أعوام عدة على "الرابر" سيمو الكمناوي بالسجن لمدة عام، وقد قضى عقوبته بالفعل، وفي حين أكد المراقبون ومتابعو المغني الذي توصف أغنياته بالمشاغبة أن السجن جاء عقاباً له على أغنية بثها بصحبة زميليه ولد الكرية ويحيى السملالي اسمها "عاش الشعب" انتقدوا فيها بشدة تردي الأوضاع بالمغرب وتكدس الثروات لدى فئة بعينها، بل وأبدوا استياءهم من النظام الحاكم، إلا أن السجلات الرسمية تشير إلى أن السبب هو ظهوره في فيديو يسب فيه رجال الشرطة الذين تعامل معهم في موقف آخر، معتبرين أنه أهان موظفين بالدولة، والحكم دانته مؤسسات عدة بينها منظمة العفو الدولية التي اعتبرته مشيناً.
وفي 2020 أيضاً نال مغني "الراب" المغربي حمزة أسابر حكماً بالسجن لمدة ثمانية أشهر على خلفية إدانته بتهمة المس بالمؤسسات الدستورية بعد طرحه أغنية حملت عنوان "فهمنا" دعا فيها إلى تغيير النظام الحاكم، معتبراً أن الشعب يعيش أوضاعاً اجتماعية سيئة ويعاني جراء الفساد.
"الراب" لا يقلق رجال السياسة فحسب، فهناك ألوان من القضايا التي يرحب نجوم هذا الفن بالتطرق إليها وعادة ما تكون مثار جدل وأزمات، ففي المغرب أيضاً ألغي الصيف الماضي حفل كان مقرراً أن يحييه "الرابر" بوبا بسبب اتهام أغنياته بالإساءة لنساء شمال أفريقيا، بما فيها المغرب، على رغم الشعبية الجارفة التي يتمتع بها هناك، إذ شهد حفله بمهرجان "موازيين" 2017 حضوراً هائلاً، إلا أن نشطاء دشنوا حملة لمقاطعته تدعو إلى إلغاء حفلاته في البلاد على خلفية طرحه عدداً من الأغنيات التي عدت مهينة للنساء بالمنطقة.
ثورة "الراب"
يشدد الأكاديمي والناقد الموسيقي أشرف عبدالرحمن على أن "الراب" وصل إلى جميع الدول نتيجة الانفتاح الثقافي مع انتشار وسائل الاجتماعي ومنصات الفيديو، وهو نتيجة طبيعية للتبادل المعرفي، مشيراً إلى أنه بالفعل منتشر في دول شمال أفريقيا بصورة كبيرة، وكذلك في مصر، لكنه وعلى رغم مساحات الجماهيرية التي يحصدها رواده فإنه في رأي متخصص النقد الموسيقي لا يزال يعد لوناً غنائياً غربياً وليس شرقياً، بل يصفه بأنه دخيل على الفن العربي.
وتابع الأكاديمي المصري "يعد (الراب) بمثابة طرف معارض على الدوام، سواء من ناحية لونه الفني أو من ناحية أفكاره التي تليق أكثر بحزب سياسي يبث أصحابه رسائلهم عادة بأقصى الطرق إيلاماً، ويتورطون في قضايا اجتماعية ودينية وحتى لو لم يتم ملاحقتهم قضائياً أو من السلطات فهم يخوضون حروباً مع المجتمع، لا سيما جانبه المحافظ، وهي أمور خاضها كبار مشاهير هذا الفن في العالم وبينهم إيمنيم وترافيس سكوت وكانييه ويست، إذ تلاحقهم اتهامات كثيرة من الأطراف التي تعد أفكار أغنياتهم مبالغاً في جرأتها".
وحقق فن "الراب" في مصر شهرته من تلك الجرأة السياسية أولاً، ثم المجتمعية والفنية فيما بعد، باعتباره لوناً ينشط في أوقات التمرد على الضغوط، وقد ظل رواده يحاولون جذب الجمهور لهذا الفن الذي بدا غريباً للغاية على أذن المستمع ربما منذ أوائل الألفية الثالثة، وشكلت الفترة التي سبقت إنهاء حكم الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك بسنوات قليلة غزارة إنتاجية في محاولة لجذب شرائح من الجمهور، ومن بين أبرز رواد تلك المرحلة فرق مثل "رفليوشن ريكوردس" و"DaCliQue 203"، وكانت أعمالهم تنتقد توريث الحكم بقوة، وارتفعت وتيرة تلك الأعمال سريعاً تزامناً مع ثورة يناير (كانون الثاني) 2011 وما بعدها.
وحملت أغنيات "الراب" هماً سياسياً مجتمعياً ينادي بإنجاح الثورة وعدم سرقتها، وكان من بين الفرق التي انتشرت وقتها أيضاً فرقة (Y-Crew)، إضافة إلى مطربين منفردين مثل رامي دنجوان بأغنيته الثورية "ضد الخكومة"، إذ مثلت "السوشيال ميديا" الميدان الرئيس للمنافسة، بخاصة أن كثيراً من رواد المحافظة في الغناء يعدون أن "الرابرز" ينتمون إلى نوع موسيقي يمثل قيماً مثل الخروج عن القانون وأعراف المجتمع.
ومع ذلك ظلت فئات محبيه تتوسع بصورة أساس بين الشباب وظهرت أصوات توصف بأنها معارضة ومحتجة مثل مارشال مدحت الذي قدم أعمال مثل "خافي مني يا حكومة وأرحب بيك في مصر"، كذلك ظهرت أسماء مثل أحمد موسى الكابوس والجوكر، وكلها انتقدت بشدة أداء الحكومات المتعاقبة بعد ثورة يناير، إذ شهدت تلك الفترة انفتاحاً كبيراً على ألوان مغايرة من الغناء.
وفي حين كانت أسماء مثل رامي عصام وزاب ثروت، وكذلك فرقة "كايروكي" بقيادة أمير عيد من أكثر من تغنوا بالأوضاع السياسية وحققوا شهرة في وقت قياسي، ولكن اختفت تلك النغمة وباتوا يفضلون النقد المجتمعي والهجاء العاطفي فيما هاجر رامي عصام خارج البلاد.
كيف بات فناً أليفاً؟
تطور فن "الراب" في مصر تنطبق عليه وجهة نظر الكاتب سيد عبدالحميد في كتابه "فن الشارع - حكايات عن كتابة (الراب) والموسيقى"، إذ قال فيه "إن (الراب) أصبح هو اللون الفني الأبرز الذي يعبر عن الشباب ويتماشی مع ذوقهم الفني مما يؤدي لانتشاره وسيطرته علی الذوق العام"، معتبراً أن الكتاب يتحدث عن فن يعد "ابن بيئته التي أنتجت لنا نجوماً بإمكانات محدودة، لتصدر مشهداً اعتمد خلال سنوات طويلة على إمكانات مادية هائلة، وشركات إنتاج أنتجت لنا عديداً من القوالب الفنية المفتقرة للقيمة والمعلبة في غالب مواضيعها".
وبالفعل خلال السنوات الأخيرة ظهرت موجة جديدة من أغنيات "الراب" في مصر التي يتزعمها أسماء حققت شهرة كاسحة وبينهم ويجز وأبيوسف ومروان بابلو ومروان موسى وعفروتو وأبو الأنوار وغيرهم.
ويوضح عبدالرحمن أن "الراب" في مصر بات مقتصراً في الغالب على الجانب العاطفي، وبالفعل من الملاحظ أن النسبة الأكبر من نجوم "الراب" اتخذوا ما يشبه القرار الجماعي بالبعد تماماً عن السياسة واختيار أفكار عاطفية ومجتمعية، ولكن حتى هذه لم تنجح في الأقل بالبداية في جعلهم ينالون الرضا، فقد شهدت على سبيل المثال الفترة التي قضاها الفنان هاني شاكر في رئاسة نقابة المهن الموسيقية من 2015 وحتى 2022 قرارات وصفت بالمتشددة ضد مطربي المهرجانات ومطربي "الراب"، إذ أوقف كثراً منهم بسبب عدم حصولهم على تصاريح بالأداء وبسبب إصرارهم على استعمال "فلاشة" أثناء الحفلات.
ومن بعده لم يتغير موقف النقيب مصطفى كامل كثيراً، فقد منع أيضاً جميع تصاريح مطربي "الراب"، نظراً إلى ما سماه عدم التزامهم التعهدات والشروط وإصرارهم، بحسب رأيه، على تقديم كلمات مبتذلة والخروج عن النص، قبل أن توفق أوضاعهم فيما بعد، ولكنه ظل على رأيه نفسه بأنه غير معجب باللون الغنائي الذي يقدمونه، ولا يفهمه من الأساس، وهو رأي شبيه بآراء هاني شاكر فيما يقدمونه، ولكن المطاردات الإجرائية من هذا النوع تبدو هينة كثيراً أمام أي أزمات أخرى كان يمكن أن تقع في حال كان يعتمد نجوم هذا الجيل من مطربي "الراب" على موضوعات شائكة على أصعدة أخرى قد تجلب صعاب أكبر.
هل لا يزال دخيلاً؟
وعلى رغم أن نجومية مطربي "الراب" باتت أمراً واقعاً وحفلاتهم ممتلئة عن آخرها بالجمهور الغفير، ولكنه يظل فناً غامضاً وغير مفهوم بالنسبة لقطاعات كثيرة في المجتمع العربي ولا يزال محبوه يقتصرون على فئة معينة، بل إنه يعد عدواً لمحبي الأغنيات المغرقة في تقليديتها ويعدون أنفسهم حراس قلعة الطرب الكلاسيكي.
ويعلق متخصص النقد الفني أشرف عبدالرحمن على الأمر بالتأكيد أن منصات الفيديو، ولا سيما "يوتيوب" هي مصدر انتشار تلك الموجة، إذ إن غالب شركات الإنتاج الكبرى لا ترحب بتلك النوعية من الأعمال ولا ترغب في المغامرة الإنتاجية مع مطربيها خوفاً من قلة جماهيريتها، وعلى رغم النجاح الكبير لبعض مغنيه، ولكنه لا يزال لوناً غريباً، نظراً إلى أنه في رأيه، فن كلامي وليس غنائياً بالدرجة الأولى، فلا يوجد لحن محدد، وأغنياته هي تعبير عن حالة وطاقة معينة وذات رسالة محددة.
وأكد الناقد الفني أنه "سيظل (الراب) فناً نوعياً لن ينتشر بصورة كبيرة، وسيقتصر على فئة لها ملامح ما لأنه لا يعبر عن الأحاسيس الشرقية بالطرق التي تلائمها، ولكنه يجذب الفئات التي تحب الفن الغربي، فيما ستظل الغالبية أكثر ميلاً للمطربين التقليدين، وسيظل (الراب) فناً دخيلاً وغريباً على مجتمعنا العربي".