ملخص
في المقهى، حول هذا المشروب الأسود الساحر الذي ظل طويلاً محرماً دينياً، يجتمع الفلاسفة والشعراء والموسيقيون والمغنون والتشكيليون والسينمائيون... والمواطنون البسطاء.
المقهى هذا الفضاء الساحر العريق، والقهوة هذا المشروب المثير لا يزالان يحركان أسئلة كبرى فينا، منذ حكاية راعي المعز الذي اكتشفها صدفة حتى جلسات جان بول سارتر وسيمون دو بوفوار وأندريه برتون في مقهى "الفلور" بباريس.
إن سوسيولوجيا المقهى تحمل في عمقها سوسيولوجيا تاريخ الـ"إنتليجنسيا" منذ عصر الأنوار إلى الآن.
إننا لا نرتاد المقهى من أجل احتساء فنجان قهوة أو كأس شاي، إن الوجود في هذا المكان أعمق من ذلك بكثير. المقهى ليس للاستهلاك بل للثقافة والتثقيف والتعارف، إنه منزل الحوار وفضاء للقاءات المفتوحة، المبرمجة والعفوية. المقهى هو مرآة الذاكرة الجماعية والفردية، وهو أكثر تأثيراً من الجامعة، أكثر دينامية ونشاطاً من الأحزاب السياسية، أكثر صخباً في النقاش من البرلمانات المنتخبة ديمقراطياً. إذا كانت الجامعة تستقبل شباباً في عمر واحد تقريباً، فالمقهى مفتوح بابه لجميع الأجيال، إذا كانت الأحزاب السياسية تستقبل مناضلين منسوخين من أصل واحد من أجل التأسيس للقطيع، فإن المقهى هو ملتقى طرق الحساسيات السياسية كلها، المقهى هو الفوضى الخلاقة بامتياز.
في المقهى، حول هذا المشروب الأسود الساحر الذي ظل طويلاً محرماً دينياً، يجتمع الفلاسفة والشعراء والموسيقيون والمغنون والتشكيليون والسينمائيون... والمواطنون البسطاء.
التنويريون وموقظو الوعي والمدافعون عن حرية التعبير وحرية الرأي والفوضويون والمحافظون والبورجوازيون والشيوعيون وحساسيات كثيرة أخرى ظلت ولا تزال تجتمع، عبر التاريخ المتعاقب وفي الجغرافيات المتباعدة، في المقهى كملجأ ومنصة مفتوحة للقول الحر.
في سحب الدخان الكثيفة حيث تتقاطع رغبة الشرب ورغبة الاستماع إلى الموسيقى، تصبح ثرثرات المقاهي كتباً عامرة بالحقائق والأحلام والكوابيس، ففي المقهى تتشكل سردية العبقرية الشعبية من دون "تابوهات" وندم أو إحراج. المقهى سرير الاعترافات الحرة المتدفقة.
في صخب المقهى ولدت النظريات الكبرى التي غيّرت مجرى العالم ولا تزال تغيره حتى الآن، وفيه ولدت القصائد العظمى، والموسيقات الخالدة والأفلام الكبيرة المرجعية، وفي المقهى نشأت قصص الحب التي خلدتها الرواية وسجلها فن المراسلات البديع بين الكتاب والكاتبات والفنانين والفنانات.
في ضجيج صمت المقهى ظهرت الفلسفات، مثل الوجودية والسوريالية والتكعيبية والعدمية والماركسية، وفيه أيضاً ولدت الثورات التي أسقطت ملوكاً وأقامت آخرين، إذ يمثل المقهى القوة المضادة للسلطة القائمة، وفيه نشأت جرائد صنعت الرأي العام طويلاً، وبقدر أهمية المقهى لكونه الحيز الذي يلتقي فيه المثقفون النقديون فإنه، ومن تحصيل الحاصل، هو أيضاً المكان الذي يكثر فيه رجال الأمن والاستخبارات، عيون الرقابة التي لا تنام حتى يغلق المقهى ويرحل زواره.
هناك مدن كثيرة مشهورة بمقاهيها، بل شخصيتها الرمزية والسياحية والحضارية والثقافية والعمرانية مرتبطة بمجموعة من المقاهي المحورية العريقة، باريس بمقهى الفلور le café de flore، روما بمقهى أنتيكو كافي غريكو Antico Caffè Greco، الجزائر العاصمة بمقهى ملاكوف Malakoff، وهران بمقهى السينترا، القاهرة بمقهى الفيشاوي، قسنطينة بمقهى النجمة، دمشق بمقهى النوفرة، تونس بمقهى العنبة، بيروت بمقهى المثلجات le café des glaces وبغداد بمقهى الزهاوي...
في الجزائر وعشية الاستقلال 1962 ورثت البلاد غنيمة حرب كبيرة من المقاهي، مؤسسات بديعة مبنية على عمران مختلف من أندلسي وموريسكي وعثماني وهوسماني haussmannien ومعاصر، مقاهٍ جميلة منتشرة في جميع المدن والقرى ظلت تشكل جمال المدينة وسجلها التاريخي الثقافي والسياسي. لكن وفي أقل من عشرية تعرّض هذا الموروث العمراني، للأسف، للإهمال والمسخ والتحويل والهدم.
في الجزائر، ولدت أحزاب سياسية وطنية كثيرة في المقاهي العريقة سواء تلك الموجودة في الأحياء الشعبية أو في الأحياء الأوروبية أيام الاستعمار الفرنسي، وكانت بعض المقاهي الشهيرة ونظراً إلى حساسياتها ولطبيعة روادها هدف الثورة حتى تثير الرأي العام الفرنسي والعالمي، كما حدث عام 1956 في مقهى "ميلك بار" وسط الجزائر العاصمة الذي تم وضع قنبلة فيه من قبل المناضلة زهرة ظريف بطاط.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"كان يا ما كان" و"طونطونفيل" و"ملاكوف" و"التلمساني" و"بار الكلية" و"اللوتوس" وغيرها من المقاهي المحورية التي تعج بالمثقفين والجامعيين والفنانين في الجزائر العاصمة، العنقا وقروابي وحسيسن وجمال عمراني وجان سيناك وجمال الدين بن الشيخ والطاهر وطار والطاهر بن عائشة ومحيي الدين بشطارزي وكلثوم ومحمد راسم ويمينة مشاكرة ومحمد حربي ومحمد بودية وامحمد بن قطاف وعبدالمجيد مسكود وكاتب ياسين وعمار الزاهي ومصطفى كاتب وأحلام مستغانمي ورشيد بوجدرة ورضا دوماز... اليوم أضحت هذه الفضاءات مهجورة من قبل صانعي الأفراح والتفكير والثورة والجمال، شيئاً فشيئاً، يتم تفريغ المقاهي من الحياة الثقافية والفنية والسياسية، لتصبح فضاءات من دون روح، فضاءات للضجيج والاستهلاك وأحاديث عن كرة القدم وفقط.
تحت سماوات أخرى، كثير من الروايات والأفلام والمسرحيات الكبرى كان منطلقها عالم المقاهي الذي لا ينام، ولعل رواية L’Assommoir لإميل زولا من أخلد النصوص السردية التي تفكك عالم المقاهي وهواجس رواده، وفي الثقافة العربية والشمال - أفريقية هناك بعض الكتاب الذين انتهموا بهذا العالم الليلي فصوروا المقاهي وروادها في نصوص روائية مميزة من أمثال نجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس وحيدر حيدر وغادة السمان ومحمد شكري وإلياس خوري ومحمد زفزاف، ومن الجزائريين محمد ديب في "في المقهى" (مجموعة قصص) والحبيب السائح في روايته "زمن النمرود" وقدور محمصاجي في روايته "مقهى والدي الصغير" وغيرهم.
في الجزائر، ولكي يتم توقيف نزيف الموروث العمراني الاستثنائي من المقاهي، غنيمة حرب الجزائريين من الاستعمار، أضحى عاجلاً، إن لم يكُن الأمر أصبح متأخراً أصلاً، على الدولة أن يتم تصنيف هذا الموروث المادي الثقافي الفني العمراني على لائحة التراث الوطني الذي لا يمكن المس به ولا تشويهه أو تحويل هويته، وعلى الدولة في الوقت نفسه أن ترافق أصحاب هذه المقاهي العريقة بأن تساعدهم مادياً في كلف عمليات الترميم الصحيح والعلمي، كل ذلك كي تحافظ المدينة على ذاكرتها، بكل ما فيها من ثراء ثقافي مديني.